![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
.::||[ آخر المشاركات ]||::. |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
|
![]() |
#6 |
خادم الحسين
![]() |
![]()
2 ـ عصر الشيخ الكليني ( ت 329 ه )
المحدث الأقدم أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي ، مجدد القرن الرابع ، المتوفى سنة 329 ه وقد عاش في عصر الغيبة الصغرى وعاصر من الوكلاء ثلاثة ، وقد احتل بين الطائفة مكانة مرموقة ، وكانت له بين علماء الإسلام منزلة عظيمة ، وننقل بعض ما قاله الكبراء في حقه : قال النجاشي ( ت 450 ه ) : شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم . وقال الطوسي ( ت 460 ه ) : ثقة عارف بالأخبار ، جليل القدر . وقال العامة فيه : من فقهاء الشيعة ، ومن أئمة الإمامية وعلمائهم . قال السيد بحر العلوم ( ت 1212 ه ) : ثقة الإسلام ، وشيخ مشايخ الأعلام ، ومروج المذهب في غيبة الإمام عليه السلام ، ذكره أصحابنا . . . واتفقوا على فضله وعظم منزلته (13) . وكتابه العظيم ( الكافي ) أول الكتب الأربعة المعتمدة عند الشيعة في الحديث وأجلها وأوسعها ، والذي مجد به كبار الطائفة وأعلامهم : فقال المفيد ( ت 413 ه ) فيه : هو من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة . وقال الشهيد الأول ( ت 786 ه ) : كتاب الكافي في الحديث الذي لم يعمل الإمامية مثله . ____________ (13) الرجال ـ للنجاشي ـ : 266 ، الفهرست ـ للطوسي ـ : 161 رقم 603 ، الرجال ـ للطوسي ـ : 495 رقم 27 ، الاكمال ـ لابن ماكولا ـ 4 / 575 ، الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ 8 / 364 ، الفوائد الرجالية ـ لبحر العلوم ـ 3 / 325 ، وقد نقلنا هذه الأقوال بواسطة كتاب : الشيخ الكليني البغدادي وكتابه الكافي ، تأليف السيد ثامر هاشم حبيب العميدي : 140 ـ 143 . (33) وقال المازندراني ( ت 1081 ه ) وهو شارح الكافي : كتاب الكافي أجمع الكتب المصنفة في فنون علوم الإسلام ، وأحسنها ضبطا ، وأضبطها لفظا ، وأتقنها معنى ، وأكثرها فائدة ، وأعظمها عائدة ، حائز ميراث أهل البيت ، وقمطر علومهم . وقال السيد بحر العلوم ( ت 1212 ه ) : إنه كتاب جليل ، عظيم النفع ، عديم النظر ، فائق على جميع كتب الحديث بحسن الترتيب ، وزيادة الضبط والتهذيب ، وجمعه للأصول والفروع ، واشتماله على أكثر الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام (14) . لقد عقد الشيخ الكليني في كتابه ( الكافي ) بابا في كتاب ( الحجة ) بعنوان : ( باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون ، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ) . وأورد فيه ( ثمانية ) أحاديث تدل على ما في العنوان ، ومنها الحديث المذكور سابقا ، عن الإمام الرضا عليه السلام . وعقد الكليني لهذا الباب بهذا العنوان يدل بوضوح على أن المشكلة كانت معروضة في عصره ، وبحاجة إلى حسم ، فلذلك لجأ إلى عقده . فلنمر بمضمون الأحاديث ، كي نقف على مداليلها (15) : الحديث الأول : بسنده عن أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : أي إمام لا يعلم ما يصيبه ، وإلى ما يصير ، فليس ذلك بحجة لله على خلقه . ودلالته على عنوان الباب واضحة . الحديث الثاني : بسنده عمن أدخل على موسى الكاظم عليه السلام ____________ (14) نقلنا هذه التصريحات من المصدر السابق : 154 ـ 156 . (15) الأحاديث وردت في الكافي ، الأصول 1 / 258 ـ 260 . (34) فأخبر أنه قد سقي السم وغدا يحتضر ، وبعد غد يموت . ودلالته على علم الإمام بوقت موته واضحة . الحديث الثالث : بسنده عن جعفر الصادق عليه السلام ، عن أبيه الباقر عليه السلام : أنه أتى أباه علي بن الحسين السجاد عليه السلام ، قال له : إن هذه الليلة يقبض فيها ، وهي الليلة التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ودلالته على علم الإمام بليلة وفاته واضحة . الحديث الرابع : وقد أوردناه في المقطع السابق بعنوان ( عصر الإمام الرضا عليه السلام ) . الحديث الخامس : بسنده عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام ، وفيه : أن الله غضب على الشيعة وأنه خيره نفسه ، أو الشيعة ، وأنه وقاهم بنفسه . ودلالته على تخييره بين أن يصيبهم بالموت ، أو يصيبه هو ، وعلى اختياره الموت وقاء لهم ، واضحة . الحديث السادس : بسنده إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام ، أنه قال لمسافر الراوي : إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له : يا علي ، ما عندنا خير لك . ومن الواضح أن هذا القول هو دعوة للإمام إلى ما عند رسول الله ، وهو كناية واضحة عن الموت ، وقد مثل الإمام الرضا عليه السلام وضوح ذلك بوضوح وجود الحيتان في القناة التي أشار إليها في صدر الحديث . الحديث السابع : بسنده عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، أن أباه أوصاه بأشياء في غسله وفي كفنه وفي دخوله قبره ، وليس عليه أثر الموت ، فقال الباقر عليه السلام : يا بني ، أما سمعت علي بن الحسين عليه السلام ينادي من وراء الجدار : ( يا محمد ، تعال ، عجل ) . (35) دلالته مثل الحديث السابق ، في كون الدعوة إلى الدار الأخرى ، والقرينة هنا أوضح ، حين أوصى الإمام بتجهيزه . ودلالة هذين الحديثين على الاختيار للإمام واضحة ، إذ أن مجرد الدعوة ليس فيها إجبار على الامتثال ، بلى يتوقف على الإجابة الاختيارية لذلك . الحديث الثامن : بسنده عن عبد الملك بن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : أنزل الله تعالى النصر على الحسين عليه السلام حتى كان بين السماء والأرض . ثم خير : النصر ، أو لقاء الله . فاختار لقاء الله تعالى . ودلالته على ما في عنوان الباب واضحة ، للتصريح فيه بالتخيير ثم اختيار الإمام لقاء الله . ومع وضوح دلالة جميع هذه الأحاديث على ما في عنوان الباب كما شرحناه ، فلا يرد نقد إلى الكليني ، ولا الكافي ، ولا هذا الباب بالخصوص ، ومن حاول التهجم على الكتاب والتشكيك في صحة نسخه ، والمناقشة في أسانيد هذه الأحاديث ، فهو بعيد عن العلم وأساليب عمل العلماء . والتشكيك في دلالة الأحاديث على مدلول عنوان الباب يدل على الجهل باللغة العربية ، ودلالتها اللفظية والبعد عن أوليات علم الكلام بشكل مكشوف ومفضوح ، فلا نجد من اللازم التعرض لكل ما ذكر في هذا المجال ، إلا أن محاولة التهجم على الكتاب ، وأسانيده ، لا بد من ذكرها وتفنيدها ، وهي : أولا : ما ذكر تبعا لمستشرق أمريكي أثار هذه الشبهة ـ من أن نسخ كتاب ( الكافي ) مختلفة ، وأن هناك فرقا بين رواية الصفواني ، ورواية النعماني ، للكتاب ، وبين النسخة المطبوعة المتداولة . نقول : إن تلاميذ الكليني الذين رووا عنه كتاب ( الكافي ) بالخصوص (36) كثيرون ، وقد صرح علماء الرجال بروايتهم للكتاب عن مؤلفه الكليني ، وهم : الصفواني ، والنعماني ، وأبو غالب الزراري ، وأبو الحسن الشافعي ، وأبو الحسين الكاتب الكوفي ، والصيمري ، والتلعكبري ، وغيرهم (16) . وإن دلت كثرة الرواة على شيء فإنما تدل على أهمية الكتاب والعناية به ، والتأكد من نصه ، ولا بد أن يبذل المؤلف والرواة غاية جهدهم في تحقيق عملية المحافظة عليه ، والتأكد من بلوغه بالطرق الموثوقة المتعارفة لتحمل الحديث وأدائه . أما الاختلاف بين النسخ على أثر وقوع التصحيف والسهو في الكتابة ، وعلى طول المدة الزمنية بيننا وبين القرن الرابع على مدى عشرة قرون ، فأمر قد مني به تراثنا العربي ، فهل يعني ذلك التشكيك في هذا التراث ؟ ! كلا ، فإن علماء الحديث قد بذلوا جهودا مضنية في الحفاظ على هذا التراث وجمع نسخه والمقارنة بينها ، والترجيح والاختيار والتحقيق والتأكد من النص ، شأنهم في ذلك شأن العلماء في عملهم مع النصوص الأخرى ، من دون أن يكون لمثل هذه التشكيكات أثر في حجيتها أو سلب إمكان الإفادة منها ، ما دامت قواعد التحقيق والتأكد والتثبت ، متوفرة ، والحمد لله . أما تهريج الجهلة بأساليب التحقيق ، وبقواعد البحث العلمي في انتخاب النصوص ، وإثارتهم وجود نسخ مختلفة ، فهو نتيجة واضحة للأغراض المنبعثة من الحقد والكراهية للعلم ، وقديما قيل : ( الناس أعداء ما جهلوا ) . وثانيا : مناقشة الأحاديث المذكورة ، من حيث أسانيدها ، ووجود رجال موسومين بالضعف فيها . والرد على ذلك : أن البحث الرجالي ، ونقد الأسانيد بذلك ، لا بد أن يعتمد على منهج رجالي محدد ، يتخذه الناقد ، ويستدل عليه ، ويطبقه ، وليس ____________ (16) لاحظ كتاب : الشيخ الكليني ، للسيد العميدي : 96 ـ 112 . (37) ذلك حاصلا بمجرد تصفح الكتب الرجالية ، ووجدان اسم لرجل ، والحكم عليه بالضعف أو الثقة ، تبعا للمؤلفين الرجاليين وتقليدا لهم ، مع عدم معرفة مناهجهم وأساليب عملهم . وإن من المؤسف ما أصاب هذا العلم ، إذ أصبح ملهاة للصغار من الطلبة ، يناقشون به أسانيد الأحاديث ، مع جهلهم بالمناهج الرجالية التي أسس مؤلفو علم الرجال كتبهم عليها ، وبنوا أحكامهم الرجالية على أساسها ، مع أهمية ما يبتني على تلك الأحكام من إثبات ونفي ، ورد وأخذ ، لأحاديث وروايات في الفقه والعقائد والتاريخ وغير ذلك . كما أن معرفة الحديث الشريف ، وأساليب تأليفه ومناهج مؤلفيه له أثر مهم في مداولة كتبهم والاستفادة منها . ولقد أساء من أقحم ـ ولا يزال يقحم ـ الطلبة في وادي هذا العلم ، الصعب المسالك ، فيصرفون أوقاتهم الغالية في مناقشات ومحاولات عقيمة ، ويبنون عليها الأحكام والنتائج الخطيرة . كالمناقشة في أسانيد أحاديث هذا الباب الذي نبحث عنه في كتاب ( الكافي ) للشيخ الكليني ، فقد جهل المناقش أمورا من مناهج النقد الرجالي ، ومن أسلوب عمل الكليني ، فخبط خبط عشواء في توجيه النقد إلى ( الكافي ) . فمن ناحية : إن قسم الأصول من ( الكافي ) إنما يحتوي على أحاديث ترتبط بقضايا عقائدية ، وأخرى موضوعات لا ترتبط بالتعبد الشرعي ، كالتواريخ وأحوال الأئمة ومجريات حياتهم . ومن المعلوم أن اعتبار السند ، وحاجته إلى النقد الرجالي بتوثيق الرواة أو جرحهم ، إنما هو لازم في مقام إثبات الحكم الشرعي ، للتعبد به ، لأن طريق اعتبار الحديث توصلا إلى التعبد به متوقف على اعتباره سنديا ، بينما القضايا الاعتقادية ، والموضوعات الخارجة لا يمكن التعبد بها ، لأنها ليست من الأحكام الشرعية ، فليس المراد منها هو التعبد بمدلولها والتبعية للإمام فيها ، (38) وإنما المطلوب الأساسي منها هو القناعة والالتزام القلبي واليقين ، وليس شيء من ذلك يحصل بالخبر الواحد حتى لو صح سنده ، وقيل بحجيته واعتباره ، لأنه على هذا التقدير لا يفيد العلم ، وإنما يعتبر للعمل فقط . نعم ، إن حاجة العلماء إلى نقل ما روي من الأحاديث في أبواب الأصول الاعتقادية ، لمجرد الاسترشاد بها ، والوقوف من خلالها على أساليب الاستدلال والطرق القويمة المحكمة التي يتبعها أئمة أهل البيت عليهم السلام في الاقناع والتدليل على تلك الأصول . ولا يفرق في مثل هذا أن يكون الحديث المحتوي عليه صحيح السند أو ضعيفة ، ما دام المحتوى وافيا بهذا الغرض وموصلا إلى الاقناع الفكري بالمضمون . وليس التشكيك في سند الحديث المحتوي على الاقناع مؤثرا لرفع القناعة بما احتواه من الدليل . وكذا الموضوعات الخارجة ، كالتواريخ وسني الأعمار وأخبار السيرة ، ليس فيها شيء يتعبد به حتى تأتي فيه المناقشة السندية ، وإنما هي أمور ممكنة ، يكفي في الالتزام بها ونفي احتمال غيرها ورود الخبر به . فلو لم يمنع من الالتزام بمحتوى الخبر الوارد أصل محكم ، أو فرع ملتزم ، ولم تترتب على الالتزام به مخالفة واضحة ، أو لم تقم على خلافه أدلة معارضة ، كفى الخبر الواحد في احتماله لكونه ممكنا . وإذا غلب على الظن وقوعه باعتبار كثرة ورود الأخبار به ، أو توافرها ، أو صدور مثل ذلك الخبر من أهله الخاصين بعلمه ، أو ما يماثل ذلك من القرائن والمناسبات المقارنة ، كفى ذلك مقنعا للالتزام به . وبما أن موضوع قسم الأصول من الكافي ، وخاصة الباب الذي أورد فيه الأحاديث الدالة على ( علم الأئمة عليهم السلام بوقت موتهم وأن لهم الاختيار في ذلك ) هو موضوع خارج عن مجال الأحكام والتعبد بها وليس الالتزام به (39) منافيا لأصل من الأصول الثابتة ، ولا لفرع من الفروع الشرعية ، ولا معارضا لآية قرآنية ، ولا لحديث ثابت في السنة ، ولا ينفيه دليل عقلي ، وقد وردت به هذه المجموعة من الأحاديث والآثار ـ مهما كان طريقها ـ فقد أصبح من الممكن والمحتمل والمعقول . وإذا توافرت الأحاديث وتكررت ، كما هو في أحاديث الباب ودلت القرائن الأخرى المذكورة في كتب السيرة والتاريخ ، وأيدت الأحاديث المنبئة عن تلك المضامين حصل من مجموع ذلك وثوق واطمئنان بثبوته . ولا ينطر في مثل ذلك إلى مفردات الأسانيد ومناقشتها رجاليا . ومن ناحية أخرى : فإن المنهج السائد في عرف قدماء العلماء ، وأعلام الطائفة ، هو اللجوء إلى المناقشة الرجالية في الأسانيد ، ومعالجة اختلاف الحديث بذلك ، في خصوص موارد التعارض والاختلاف . وقد يستدل على هذه السيرة وقيام العمل بها ، باعتمادهم في الفقه وغيره على الأحاديث المرسلة المقبولة والمتداولة وإن كانت لا سند لها ، فضلا عن المقطوعة الأسانيد ، في صورة انفرادها بالحكم في الموقف . وللبحث عن هذا المنهج ، وقبوله أو مناقشته ، مجال آخر . هذا ، مع أن الكليني لم يكن غافلا ـ قط ـ عن وجود هذه الأسماء في أسانيد الأحاديث ، لتسجيله لها وعقد باب لها في كتابه . كيف ، وهو من رواد علم الرجال ، وقد ألف كتابا في هذا العلم باسم ( الرجال ) (17) ؟ ! أما اتهام الرواة لهذه الأحاديث بالارتفاع والغلو ، ومحاسبة المؤلف الكليني على إيرادها ، لأنها تحتوي على ثبوت علم الغيب للأئمة عليهم ____________ (17) الرجال ـ للنجاشي ـ : 267 ، جامع الرواة ـ للأردبيلي ـ 2 / 219 ، الفوائد الرجالية 3 / 332 ، أعيان الشيعة 47 / 153 ، مصفى المقال : 427 ، الأعلام ـ للزركلي ـ 8 / 17 ، ولاحظ كتاب : الشيخ الكليني البغدادي ، للسيد العميدي : 120 . (40) السلام . فهذا مبني على الجهل بأبسط المصطلحات المتداولة بين العلماء : فالغلو اسم يطلق على نسبة الربوبية إلى البشر ـ والعياذ بالله ـ ، بينما هذا معنون ب ( أن الأئمة يعلمون متى يموتون . . . ) فالباب يتحدث عن ( موت الأئمة ) وهذا يناقض القول ب ( الغلو ) وينفيه . فجميع رواة هذا الباب ، يبتعدون ـ بروايتهم له ـ عن الغلو المصطلح ، قطعا . فيكف يتهمهم بالغلو ؟ ! هذا ، والكليني نفسه ممن ألف كتابا في الرد على ( القرامطة ) وهم فرقة تنسب إلى الغلاة (18) مما يدل على استيعاب الكليني وتخصصه في أمر الفرق . فيكف يحاسب بمثل ذلك ؟ ! ثم إن قول الكليني في عنوان الباب : ( وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ) يعني أن الموت الإلهي الذي قهر الله به عباده وما سواه ، بدون استثناء ، وتفرد هو بالبقاء دونهم ، لا بد أن يشملهم ـ لا محالة ـ ولا مفر لهم منه ، وإنما امتازوا بين سائر الخلائق بأن جعل الله اختيارهم لموتهم إليهم ، وهذا يوحي : أولا : أن لهم اختيار وقت الموت ، فيختارون الآجال المعلقة ، قبل أن تحتم ، فيكون ذلك بإرادة منهم واختيار وعلم ، رغبة منهم في سرعة لقاء الله ، وتحقيقا للآثار العظيمة المترتبة على شهادتهم في ذلك الوقت المختار . وهذا أنسب بكون إقداماتهم مع كامل اختيارهم ، وعدم كونها مفروضة عليهم ، وأنسب بكون ذلك مطابقا لقضاء الله وقدره ، فهو يعني إرادة الله منهم ____________ (18) الرجال ـ للنجاشي ـ : 267 ، الفهرست ـ للطوسي ـ : 161 ، معالم العلماء ـ لابن شهر آشوب ـ : 88 ، جامع الرواة 2 / 219 ، لؤلؤة البحرين ـ للبحراني ـ : 393 ، هدية العارفين ـ للبغدادي ـ مج 2 ج 6 / 35 ، الأعلام 8 / 17 ، الفوائد الرجالية 3 / 332 ، أعيان الشيعة 47 / 153 ، ولاحظ كتاب : الشيخ الكليني البغدادي ، للسيد العميدي : 115 . (41) لما أقدموا عليه ، من دون حتم . وإلا ، فإن كان قضاءا مبرما وأجلا حتما لازما ، فكيف يكونون مختارين فيه ؟ ! وما معنى موافقتهم على ما ليس لهم الخروج عنه إلى غيره ؟ ! ثانيا : أن لهم اختيار نوع الموت الذي يموتون به ، من القتل بالسيف ضربة واحدة ، كما اختار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ذلك ، أو بشرب السم أو أكل المسموم كما اختاره أكثر الأئمة عليهم السلام ، أو بتقطيع الأوصال وفري الأوداج واحتمال النصال والسهام وآلام الحرب ، والنضال ، وتحمل العطش والظمأ ، كما جرى على الإمام سيد الشهداء عليه السلام . ولا يأبى عموم لفظ العنوان ( لا يموتون إلا باختيار منهم ) عن الحمل على ذلك كله . مع أن في المعنى الثاني بعدا اجتماعيا هاما ، وهو : أن الأئمة الأطهار عليهم السلام كانوا يعلمون من خلال الظروف ، والأحداث ، والمؤشرات والمجريات ، المحيطة بهم ـ بلا حاجة إلى الاعتماد على الغيب وإخباره ـ أن الخلفاء الظلمة ، والمتغلبين الجهلة ، على حكم العباد والبلاد ، سيقدمون على إزهاق أرواحهم المقدسة بكل وسيلة تمكنهم ، لأنهم لا يطيقون تحمل وجود الأئمة عليهم السلام الرافضين للحكومات الجائرة والفاسدة ، والتي تحكم وتتحكم على الرقاب بالباطل ، وباسم الإسلام ليشوهوا سمعته الناصعة بتصرفاتهم الشوهاء . فكان الأئمة الأطهار تجسيدا للمعارضة الحقة الحية ، ولو كانوا في حالة من السكوت ، وعدم مد اليد إلى الأسلحة الحديدية ، لكن وجوداتهم الشريفة كانت قنابل قابلة للانفجار في أي وقت ! وتعاليمهم كانت تمثل الصرخات المدوية على أهل الباطل ، ودروسهم وسيرتهم كانت تمثل الشرارات ضد تلك الحكومات ! فكيف تطيق الأنظمة الفاسدة وجود هؤلاء الأئمة ، لحظة واحدة ! فإذا كان الأئمة عليهم السلام يعلمون أن مصيرهم ـ مع هؤلاء ـ هو الموت ، ويعرفون أن الظلمة يكيدون لهم المكائد ، ويتربصون بهم الدوائر ، ويدبرون لقتلهم والتخلص من وجودهم ، ويسعون في أن ينفذوا جرائمهم في السر والخفاء ، لئلا يتحملوا مسؤولية ذلك ، ولا يحاسبوا عليه أمام التاريخ ! ولو تم لهم إبادة هؤلاء الأئمة سرا وبالطريقة التي يرغبون فيها ، لكان أنفع لهم ، وأنجع لأغراضهم ! لكن الأئمة عليهم السلام لا بد أن يحبطوا هذه المكيدة على الظلمة القتلة ، يأخذوا بأيديهم زمام المبادرة في هذا المجال المهم الخطر ، ويختاروا بأنفسهم أفضل أشكال الموت ، الذي يعلن مظلوميتهم ، ويصرخ بظلاماتهم ، ويفضح قاتليهم ، ويعلن عن الإجرام والكيد الذي جرى عليهم ، ولا تضيع نفوسهم البريئة ، ولا دماؤهم الطاهرة ، هدرا . فلو كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقتل في بيته ، أو في بعض الأزقة والطرق ، خارج المسجد . فمن كان يفند الدعايات الكاذبة التي بثها بنو أمية بين أهل الشام بأن عليا عليه السلام لا يصلي ؟ ! فلما سمعوا أنه قتل في المسجد ، تنبهوا إلى زيف تلك الدعايات المضللة . وإذا كان الإمام الحسين عليه السلام ، يقتل في المدينة ، فمن كان يطلع عليه قضيته ؟ ! وحتى إذا كان يقتل في ( مكة ) : فمضافا إلى أنه كان يعاب عليه أن حرمة الحرم قد هتكت بقتله ! فقد كان يضيع دمه بين صخب الحجيج وضجيجهم ! بل إذا قتل الحسين عليه السلام في أرض غير كربلاء ، فأين ؟ ! وكيف ؟ ! وما هو : تفسير كل النصوص التي تناقلتها الصحف ، والأخبار عن جده النبي المختار حول الفرات ؟ وكربلاء ؟ وتربتها الحمراء ؟ ! وهذا الاختيار يدل ـ مضافا إلى كل المعاني العرفانية التي نستعرضها ـ (43) يدل على : تدبير حكيم ، وحنكة سياسية ، ورؤية نافذة ، وحزم محكم ، قام به الأئمة عليهم السلام في حياتهم السياسية تجاه الظالمين المستحوذين على جميع المقدرات ، والذين سلبوا من الأمة كل الحريات حتى حرية انتخاب الموت كما وكيفا ووقتا ومكانا . فإن خروج الأئمة عليهم السلام بتدابيرهم الحكيمة عن سلطة الحكام في هذه المعركة ، وتجاوزهم لإراداتهم ، وأخذ زمام الاختيار بأيديهم ، وانتخابهم للطريقة المثلى لموتهم ، يعد انتصارا باهرا ، في تلك الظروف الحرجة القاهرة . ولقد قلت ـ عن مثل هذا ـ في كتابي ( الحسين عليه السلام سماته وسيرته ) ما نصه : ( وهل المحافظة على النفس ، والرغبة في عدم إراقة الدماء ، والخوف من القتل ، أمور تمنع من أداء الواجب ؟ ! وتعرقل مسيرة المسؤولية الكبرى ، وهي : المحافظة على الإسلام وحرماته ؟ ! وإتمام الحجة على الأمة بعد دعواتها المتتالية ؟ ! واستنجادها المتتابع ؟ ! ثم هل تعقل المحافظة على النفس ، بعد قطع تلك المراحل النضالية ، والتي كان أقل نتائجها المنظورة : القتل ؟ ! إذ أن يزيد صمم وعزم على الفتك بالإمام على السلام ، الذي كان يجده السد الوحيد أمام استثمار جهود أبيه في سبيل الملك الأموي العضوض ، فلا بد من أن يزيحه عن الطريق . ويتمنى الحكم الأموي لو أن الحسين عليه السلام كان يقف هادئا ساكنا ـ ولو للحظة واحدة ـ حتى يركز في استهدافه ، ويقتله ! ! وحبذا لو كان قتل الحسين عليه السلام بصورة اغتيال ، حتى يضيع دمه ، وتهدر قضيته ! ! وقد أعلن الحسين عليه السلام عن رغبتهم في أن يقتلوه هكذا ، وأنهم (44) مصممون على ذلك حتى لو وجدوه في جحر هامة ! وأشار يزيد إلى جلاوزته أن يحاولوا قتل الحسين أينما وجدوه ، ولو كان متعلقا بأستار الكعبة ! فلماذا لا يبادر الإمام عليه السلام إلى انتخاب أفضل زمان ، وفي أفضل مكان ، وبأفضل شكل ، للقتل ؟ ! الزمان ( عاشوراء ) المسجل في عالم الغيب ، والمثبت في الصحف الأولى ، وما تلاها ( من أنباء الغيب ) التي سنستعرضها . والمكان ( كربلاء ) الأرض التي ذكر اسمها على الألسن منذ عصور الأنبياء . أما الشكل الذي اختاره للقتل : فهو النضال المستميت ، الذي ظل صداه ، وصدى بطولاته وقعقعات سيوفه ، وصرخات الحسين عليه السلام المعلنة عن أهدافه ومظلوميته ، مدوية في أذن التاريخ على طول مداه ، يقض مضاجع الظالمين ، والمزورين للحقائق . إن الإمام الحسين عليه السلام وبمثل ما قام به من الإقدام ، أثبت خلود ذكره ، وحديث مقتله ، على صفحات الدهر ، حتى لا تناله خيانات المحرفين ، ولا جحود المنكرين ، ولا تزييف المزورين ، بل يخلد خلود الحق والدين ) (19) . وأخيرا : فإن الشيخ الكليني وهو : ( أوثق الناس في الحديث وأثبتهم ) كما شهد له النجاشي ، قد بنى تأليف كتابه على أساس محكم ، ومن شواهد الإحكام فيه : أنه رحمه الله عقد بابا بعنوان ( باب نادر في ذكر الغيب ) أورد فيه أحاديث تحل مشكلة الاعتراض الأول على ( علم الأئمة للغيب ) وفيها الجواب ____________ (19) الحسين عليه السلام سماته وسيرته : 112 . وقد وجدت إشارة إلى نحو ما هنا في كتاب ( هزار ويك نكته ) للشيخ حسن زاده آملي : 453 ـ 454 النكتة 660 نقلا عن بعض مشايخه رضوان الله تعالى عليه . (45) الصريح لقول السائل للأئمة : ( أتعلمون الغيب ؟ ) ويجعل نتيجة هذا الباب أصلا موضوعا للأبواب التالية : ومن تلك الأحاديث : حديث حمران بن أعين ، قال لأبي جعفر عليه السلام : أرأيت قوله جل ذكره : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا . . . ) ( الآية (25) من سورة الجن ( 72 ) ) ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : ( إلا من ارتضى من رسول . . . ) ( الآية (26) من سورة الجن ( 72 ) ) وكان ـ والله ـ محمد ممن ارتضاه (20) . فقد كان الكليني يراعي ترتيب أبواب كتابه ترتيبا ، منهجيا ، برهانيا ، حتى تؤتي نتائجها الحتمية بشكل منطقي مقبول ، فجعل في كتابه ( الكافي ) للدين سدا لا يستطيع الملحدون أن يظهروه بشبههم وتشكيكاتهم ، ولا يستطيعون له نقب |
![]() |
|
|
![]() |
![]() |
![]() |