ღ أيّها الأحبّة ღ
مظاهر الرياء في العبادات وأحكامها : - 3-
الحالة الرَّابعة: أن يقصد القربةَ في صلاته، حيثُ يعلم المصلّي أنّ من شروط الصلاة قصد القربة، ولولا ذلك لم يصلِّ؛ ولكن رافق هذا القصد قصدُ الرياء أيضاً، ولكن هذا القصد لم يكن قوياً ولا راجحاً، بل كان قصداً ضعيفاً. فهو يصلّي قُربةً إلى الله، ولكن إذا شاهده الناس، فإنّ نشاطه يقوى، وهو يحبّ أن يطّلع الناس عليه في صلاته هذه التي قصد بها التقرّب إلى الله، فيحصل على الحظوة لديهم. لكنّ هذا القصد للناس لو لم يكن موجوداً لما ترك العمل؛ بل هو يصلي على كل حال.
في هذه الصورة، اختلفت نظرة العلماء؛ فبعض العلماء قال إن هذا لا يُحبط أصل العمل، بل هو عمل صحيح وتبرأ ذمة الشخص به؛ ولكنّ الذي يحصل من مرافقة الرياء لقصد التقرّب، نقصان الثواب عمّا لو كانت نيته خالصةً لله في قصد القُربة، وذلك بحسب حجم الرياء في العمل.
ولكنّ علماء آخرين قالوا إننا لو درسنا ظواهر الأخبار، فقد نستفيد من ذلك بطلان أصل العمل؛ باعتبار أنه يصدق عليه أنه عمل رياء، ويصدق على هذا الرجل أنّه مراءٍ، كما مرّ الحديث القُدسي الذي قدّمناه: "أنا خيرُ شريك؛ من عمل لي ولغيري جعلته لغيري"، بحيثُ يُفهم منه أنّه لا بدّ من أن تكون الأعمال خالصةً لله تعالى، فلو كانت شركةً بين الله وغيره، مهما كان حجم الشراكة، فإنّها لا تكون لله، بل لغيره، فيفيد أنّها لم تتحقّق لله، فتبطل.
على أنّه يُمكن استفادة ذلك من قول الإمام عليّ(ع) في بيان صفة المرائي: "ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده ـ وهو نظير ما تحدّث الله به عن المنافقين في قوله تعالى: {وَإذَا قَامُوا إلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاؤونَ النَّاس}[1] ـ ويُحبُّ أن يُحمد في كلِّ أموره"، حيث يدلّ ذلك على أنّه يصدق على من توفّرت فيه هذه الصفات أنّه مراءٍ، فيبطل عمله.
لكن بالإمكان أن يُفرّق في ذلك بين حالتين: الأولى أن يرجع قصده وحبُّه اطلاع الناس عليه إلى أن تتحقّق منزلة له في قلوبهم؛ ليتوسَّل بها لنيلِ غرضٍ من الأغراض الدنيوية، فهذا يصدق عليه أنه مُراءٍ، فيلحقه حُكمه. والثانية أن يكون سروره وقصده من اطلاع الناس لأحد المقاصد الصحيحة، فهو يأنس أن يراه الناس على خير، ولكن لم يكن قصده من صلاته ذلك، فهذا طبعاً لا بأس به، وقد تقدّم منّا الإشارة في ما سبق إلى بعض الأحاديث التي تنفي البأس عن ذلك. وهو ما يندرج في إطار الحالة الرابعة التالية.
الحالة الرَّابعة: أن يُصلِّي قُربةً إلى الله، ولكن الناس يمرّون عليه ويرونه على حالة جيدة، فيسرّه ذلك؛ لأنهم قد رأوه على حالة جيدة من دون أن يكون قصده ذلك، فهذا لا مشكلة فيه، أي أنّ قصده في الأساس كان إخفاء الطاعة، والإخلاص لله. ولكن اتّفق اطّلاع الناس عليه صدفةً، فيسرّه مثلاً أنّ الله تعالى أبقى معصيته على الستر، وأظهر طاعته لهم، فيكون فرحه بجميل نظر الله وفضله عليه، لا بمدح الناس والحصول على علوّ المنزلة في قلوبهم، وقد قال الله تعالى في هذا المجال: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ}[2].
ويدلّ على ذلك أن رجلاً قال لرسول الله(ص): "إني أُسرُّ العمل"، فأُصلي في مكانٍ لا يراني فيه أحد، "لا أُحبُّ أن يطّلع عليه أحد، فيطّلع عليه فيسرُّني" أن الناس قد اطلعوا عليَّ وأنا أُطيع الله، "قال" النبي(ص) في جوابه: "لك أجران: أجر السِرّ"؛ لأنك قصدت طاعة الله في السر، "وأجر العلانية"؛ لأنّك أحببت أن يظهر الخير للناس. وفي رواية: سُئل الإمام محمد الباقر(ع) "عن الرَّجل يعمل الشَّيء من الخير، فيراه إنسان فيسرّه ذلك، قال: لا بأس؛ ما من أحدٍ إلا وهو يُحب أن يظهر الله له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك"، أي هو لم يصنع الخير ليراه الناس، ولكنَّه صنعه قُربةً إلى الله، ولأنه يؤمن بالخير، ولكن الله أظهر الناسَ عليه.
إذاً، نفهمُ من هذين الخبرين عن رسول الله(ص) وعن الإمام الباقر(ع)، أنه لا يُعدُّ من الرياء أن يفرح الإنسان باطّلاع الناس عليه وهو يعمل الخير قُربةً إلى الله سبحانه وتعالى، ولا مانع من أن يُسرَّ بذلك؛ لأنه لم يعمل ذلك ليعظّمه الناس.
الإسلام في خط أهل البيت عليهم السلام
|