![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
.::||[ آخر المشاركات ]||::. |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
|
#1
|
|||||||
|
|||||||
![]()
العدولُ في حروف المعاني
مظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم د/ عبد الله علي الهتاري أستاذ مساعد بكلية الآداب والألسن/ قسم اللغة العربية جامعة ذمار/ اليمن اللافت للنظر في التعبير القرآني دقته في تناول حروف المعاني والمغايرة بينها ؛ إذ نجده يستعمل الحرف لدلالة مقصودة في السياق ، ثم يعدل عنه إلى حرف آخر في السياق نفسه ، مما يدعو ذلك إلى التدبر وإعمال الفهم لإدراك ما وراء هذا العدول من مقاصد ودلالات . ويصعب في هذا المبحث تناول كل مواطن هذا العدول لكثرته وسعته ، وتكفي الإشارة إلى بعض صوره ونماذجه وفق التقسيم الآتي : أولاً- العدول في حروف الجر : يبرز هذا العدول من خلال المغايرة في حروف الجر في السياق القرآني وذلك بمجيء بعض الأفعال متعديًا بحرف ، ثم العدول عنه إلى حرف آخر في السياق نفسه ، وكذلك المغايرة لهذه الحروف في تعالقها بالأسماء في السياق نفسه . وهذه المخالفة في تعالق الأسماء والأفعال بالحروف في السياق توحى بدلالات تهمس بها هذه الحروف حينًا وتفصح عنها حيناً آخر ، وهي من الدقائق الداعية لإعمال الفكر والفهم العميق في تتبعها ومعرفة سر العدول فيها ؛ فمن تلك المواطن لهذا النوع من العدول : 1- العدول عن ( على ) إلى ( في ) : من ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾[سبأ: 24] ، فقد ذكر مع الهدى حرف الجر ( على ) ، فقال :﴿ لَعَلَى هُدًى ﴾ ، ثم عدل عنه إلى ( في ) مع الضلال ، فقال :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ . ولو جرى السياق على نسق واحد ، لكان :( لعلى هدى ، أو على ضلال مبين ) . وقد وقف الزمخشري على سر هذا العدول ، فقال(1) :« لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ على فرس جواد يركضه حيث يشاء ، والضال كأنه منغمسٌ في ظلام مرتبكٌ فيه لا يدري أين يتوجه » . يقول ابن القيم في سياق تفسيره قوله تعالى(2) :﴿ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾:« في أداة ( على ) سر لطيف ؛ وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط ، على هدى ، وهو حق ؛ كما قال في حق المؤمنين :﴿ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ﴾[البقرة: 5]. وقال لرسول الله صلى الله عليه [وآله]وسلم :﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾[النمل: 79] ، والله عز وجل هو الحق ، وصراطه حق ، ودينه حق ، فمن استقام على صراطه ، فهو الحق والهدى ؛ فكان في أداة ( على ) على هذا المعنى ، ما ليس في أداة ( إلى ) ، فتأمله فإنه سر بديع ! » . واستطرد ابن القيم قائلاً :« فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ( على ) في ذلك أيضًا ، وكيف يكون المؤمن مستعليًا على الحق وعلى الهدى ؟ قلت : لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى ، مع ثباته عليه ، واستقامته إليه ، فكان في الإتيان بأداة ( على ) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته . وهذا بخلاف الضلال والريب ؛ فإنه يؤتى فيه بأداة ( في ) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه ؛ كقوله تعالى :﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾[التوبة: 45] ، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾[الأنعام: 39] ، وقولـه :﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾[المؤمنون: 54] ، وقولـه :﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾[هود: 110] .. وتأمل قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[سبأ: 24] ، فإن طريق الحق تأخذ علوًا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير ، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل سافلين » . ويضاف إلى هذا دلالة السياق وما يفيده من العلو ، في ﴿ لَعَلَى هُدًى ﴾ ؛ فعلوُّ المكانة والمقام يستوجب علوَّ الإرادة ، ونفاذها واستعلاءها على نوازع التسفل والسقوط ، بإقبالهم على الهدى بمحض اختيارهم ، ويفيد انفساح الرؤية أمام أبصارهم ، فيدركون ما حولهم بوضوح دون حجب أو حواجز ؛ وذلك على النقيض من دلالة التسفل والظرفية في قوله :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ ؛ إذ يستتبع ذلك دلالات سلب الإرادة ، وتقييد الحركة ، وانعدام وضوح الرؤية ، وفقدان حرية الفكر ؛ وذلك يؤدي إلى تمزق النفس وتخبطها . 2- العدول عن ( في ) إلى ( على ) : من ذلك قوله تعالى :﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾[النحل: 45- 47] . نجد في هذا السياق القرآني تعدِّي الفعل ( أخذ ) أولاً بحرف الجر ( في ) في قولـه :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾ ، ثم العدول عنه إلى حرف الجر ( على ) في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ ؛ لأن إيثار حرف الظرفية مع التقلب قصد به الإدلال على كمال القدرة الإلهية في الوصول بالانتقام إلى من يريد ، مهما بدا للمأخوذ أنه في كمال القدرة والقوة ؛ ذلك أن التقلب يعني حركة الحياة التي أقبل عليها مقترفوا السيئات ، مما يدل على أنهم في كامل صحتّهم وقوتهم ، وكمال سلطانهم وجبروتهم ، وهم في هذه الحال لا يستطيعون أن يفوتوا الله تعالى ويعجزوه هربًا ؛ لذلك ناسب مجيء الفاصلة القرآنية بعدها قوله :﴿ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴾(3) . وأما العدول إلى ( على ) في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ فإن الاستعلاء فيها يدل على أن الله تعالى زادهم عذابًا فوق عذاب الخوف وآلامه ، وهو بلاء كان قد وقع بهم من قبل ، وأصابهم بأمراض الذعر والقلق وافتقاد الأمن والطمأنينة ، ثم جاء عقابه وأخذهم بما اقترفوه بلاء فوق البلاء ، وعذابًا على عذاب(4) ، فيكون معنى الظرفية في حرف الجر ( في ) قد دّل على كمال قدرة الله في الأخذ والبطش ، وأفاد معنى الاستعلاء في ( على ) الزيادة في التنكيل والعذاب ، فكل حرف قد جاء في موضعه المناسب له ، ولا يمكن أن يحل محله غيره . وبهذا ندرك أن دلالة حروف الجر ليس في نفسها- كما هو الحال في الأسماء والأفعال- وإنما تكتسب دلالتها من خلال تعالقها بنظم الكلام في السياق ، ويظهر أثر السياق في تخصيص دلالة الحرف وتحديده . فمعنى الاستعلاء في حرف الجر ( على ) قد يفيد في سياق الخير العلو والتفضيل والتشريف ؛ كما هو الحال في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى ﴾[سبأ: 24] ، وفي سياق الأخذ والعذاب ؛ كما هو الحال في قوله تعالى :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ ، أفاد شدَّة العذاب وزيادته ، وكذلك حرف الظرفية ( في ) في قوله :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ ، أفاد معنى التسفل والسقوط ؛ لأن السياق سياق ذم وتوبيخ لحالهم ، وقد دلَّ على العكس من ذلك في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾(النحل: 46) ؛ إذ دلَّ على كمال القدرة في الأخذ والتعذيب ؛ لأن السياق سياق إبراز قدرة وقوة . 3- العدول عن ( في ) إلى ( الباء ) : من ذلك قوله تعالى على لسان الملأ من قوم نوح في خطاب نبيهم :﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الأعراف: 60- 61] . فقد جاء حرف الجر ( في ) في كلام قوم نوح لنبيهم بقولهم :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ ، وهذا الحرف يفيد الظرفية ؛ فكأن الضلال أصبح ظرفًا لـه ، وهو مظروف فيه ، يحيط به من كل مكان ، فردَّ عليهم بقوله :﴿ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾ ، فعدل في جوابه لهم إلى ( الباء ) ، فلم يوافق جوابه قولهم فيكون :( ليس فيَّ ضلالة ) . وفي هذا السياق نجد أن جواب نوح عليه السلام قد تضمن عدولين : عدولاً نحويًا متمثلاً في العدول عن حرف الجر ( في ) إلى حرف ( الباء ) . وعدولاً صرفيًا متمثلاً في العدول عن المصدر ( ضلال ) إلى اسم المرة ( ضلالة) ؛ وذلك أن اقتران جوابه بـ( الباء ) فيه إمعان في نفي لصوق أدنى ضلالة به ، فضلاً عن انغماسه في الضلال أصلاً . وهذا يؤكده مجيء اسم المرة ( ضلالة ) ؛ لذا ناسب مجيء جوابه لهم بـ( الباء ) عدولاً عن حرف الوعاء ، « مبالغة في نفي اقترابه من الضلال ، وتلبسه به »(5) ، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الأعراف: 61] ، وهو ما يرد بكثرة في سياق خطاب الأنبياء لأقوامهم . من ذلك قول قوم هود لنبيهم :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ﴾[الأعراف: 66] ، وجاء ردُّه عليهم :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ﴾[الأعراف: 67] . 4- العدول عن ( في ) إلى ( من ) : ومنه قولـه تعالى :﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً.. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾[النساء: 5- 8] . فقد قال ابتداء :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾ ، فأتى بحرف الجر ( في ) ، ثم عدل عنه إلى حرف الجر ( منه ) ، فقال :﴿ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ﴾ . وسر هذا : أن الآية الأولى هي خطاب للأولياء في أموال اليتامى ، بدليل قوله :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾[النساء: 5] ، ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ …﴾[النساء: 6] ، ففي قوله :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾ دعوة إلى استثمار أموال اليتامى ، وأن ينفق عليهم من أرباح المال لا من أصله ، وهو ما أشار إليه الزمخشري بقوله(6) :« وارزقوهم فيها : واجعلوها مكانًا لرزقهم بأن تتجروا فيها ، وتتربحوا حتى يكون نفقتهم من الأرباح ، لا من صلب المال ، فلا يأكلها الإنفاق » . وهذا المعنى ناشئ من تركيب الفعل (فارزقوهم) مع حرف الظرفية ( في ) ، فجعل الأموال ظرفًا للرزق ومكانًا له ، في حين عدل عن ( في ) إلى ( من ) بعد ذلك في قوله :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ﴾[النساء: 8] ؛ لأن المدفوع لذوي القربى واليتامى والمساكين حال حضورهم القسمة هو من أصل مال التركة ، فجاءت ( من ) التبعيضية للدلالة على إعطائهم من بعض الميراث على سبيل المواساة والإحسان . 5- العدول عن ( من ) إلى ( في ) : من ذلك قوله تعالى:﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ … وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾[ [النحل: 84- 89] . فعدَّى الفعل ( نبعث) بـ( من ) في قوله :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ ، ثم عدل عنه إلى ( في ) في قوله :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ . وهنا ينشأ السؤال الآتي : لماذا لم يطرد السياق ، فيكون :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً … وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم ) ؟ أشار السيوطي(7) إلى أن ( في ) هنا بمعنى :( من ) . فقوله :﴿ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ . أي :( من كل أمة ) ، ويكون قولـه حينئذ :﴿ مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ تكرارًا له . ويرى الباحث أن القول بتناوب الحروف خروج عن تذوق البيان ، ومعرفة إعجاز القرآن . والذي يظهر- والله أعلم- أن هذا السياق القرآني يقرر الشهادة على مرحلتين : الأولى : مرحلة بعث الشهداء من أممهم ؛ فمن كل أمة يخرج الله شهيدًا منها ، وهذه مرحلة بعث وإخراج فقط . ثم تأتي المرحلة الأخرى والأهم ؛ وهي مرحلة إدلاء الشهادة ، فيدلي كل شهيد على وجه الخصوص بشهادته على أمته . والشهداء هم الرسل والأنبياء ؛ لذا كانت هذه المرحلة أشد من سابقتها على الشهداء والمشهود عليهم ؛ لأنها إدلاء بالشهادة وتقرير بحكم ؛ لذلك ناسب فيها التأكيد والإطناب في تفصيل جنس هؤلاء الشهداء فهم ﴿ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ ، فأفاد حرف الجر ( في ) الظرفية والمخالطة والانغماس . فكل شهيد من هؤلاء قد خبر قومه وعرفهم وخالطهم فهو منهم ، وفيهم قد عاش ودرج ، فكانت ( في ) أدل على هذا المعنى من غيرها . وأمعن السياق القرآني في تأكيد الشهادة ، وأنها شهادة إدلاء بقولـه أيضًا :﴿ شَهِيداً عَلَيْهِم ﴾ ، وقولـه أيضًا :﴿ مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ ، في حين لم يذكر ذلك في الآية السابقة ؛ إذ اكتفى بالقول :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ ، فحسب . ومنه قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾[النحل: 10] . وكان يقتضي السياق أن يطرد على نسق واحد فيقول :( منه تسميون ) ؛ لكنه عدل عن ( من ) إلى ( في ) لدلالة أوضحها ابن عاشور بقوله(8) :« والشّجر : يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ، ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليبًا ، وروعي هذا التغليب هنا ؛ لأنه غالب مرعى أنعام أهل الحجاز ؛ لقلة الكلأ في أرضهم ، فهم يرعون الشعاري والغابات ، وفي حديث ” ضَالَّةُ الإِبلِ تَشْرَبُ الماءَ وترعى الشَّجَرَ حتى يأتيَها ربُّها “(9) . ومن الدقائق البلاغية الإتيان بحرف ( في ) الظرفية ، فالإسامة فيه تكون بالأكل منه ، والأكل مما تحته من العشب » . وقد فهم ابن عاشور هذا المعنى الدقيق لحرف الجر ( في ) من معرفته بحياة بادية الحجاز التي تنزل فيها القرآن ، فجاء المقال موافقًا تمام الموافقة لمقتضى الحال .
![]() |
|
|
![]() |
![]() |
![]() |