:: منتديات ثار الله الإسلامي ::

:: منتديات ثار الله الإسلامي :: (http://www.tharollah.com/vb/index.php)
-   مقالات قرآنية (http://www.tharollah.com/vb/forumdisplay.php?f=163)
-   -   العدولُ في حروف المعاني[وآله] (http://www.tharollah.com/vb/showthread.php?t=3400)

السيد عباس ابو الحسن 10-21-2011 11:11 AM

العدولُ في حروف المعاني[وآله]
 
العدولُ في حروف المعاني




مظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم
د/ عبد الله علي الهتاري
أستاذ مساعد بكلية الآداب والألسن/ قسم اللغة العربية
جامعة ذمار/ اليمن
اللافت للنظر في التعبير القرآني دقته في تناول حروف المعاني والمغايرة بينها ؛ إذ نجده يستعمل الحرف لدلالة مقصودة في السياق ، ثم يعدل عنه إلى حرف آخر في السياق نفسه ، مما يدعو ذلك إلى التدبر وإعمال الفهم لإدراك ما وراء هذا العدول من مقاصد ودلالات . ويصعب في هذا المبحث تناول كل مواطن هذا العدول لكثرته وسعته ، وتكفي الإشارة إلى بعض صوره ونماذجه وفق التقسيم الآتي :
أولاً- العدول في حروف الجر :
يبرز هذا العدول من خلال المغايرة في حروف الجر في السياق القرآني وذلك بمجيء بعض الأفعال متعديًا بحرف ، ثم العدول عنه إلى حرف آخر في السياق نفسه ، وكذلك المغايرة لهذه الحروف في تعالقها بالأسماء في السياق نفسه . وهذه المخالفة في تعالق الأسماء والأفعال بالحروف في السياق توحى بدلالات تهمس بها هذه الحروف حينًا وتفصح عنها حيناً آخر ، وهي من الدقائق الداعية لإعمال الفكر والفهم العميق في تتبعها ومعرفة سر العدول فيها ؛ فمن تلك المواطن لهذا النوع من العدول :
1- العدول عن ( على ) إلى ( في ) :
من ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سبأ: 24] ، فقد ذكر مع الهدى حرف الجر ( على ) ، فقال :﴿ لَعَلَى هُدًى ، ثم عدل عنه إلى ( في ) مع الضلال ، فقال :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ . ولو جرى السياق على نسق واحد ، لكان :( لعلى هدى ، أو على ضلال مبين ) . وقد وقف الزمخشري على سر هذا العدول ، فقال(1) :« لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ على فرس جواد يركضه حيث يشاء ، والضال كأنه منغمسٌ في ظلام مرتبكٌ فيه لا يدري أين يتوجه » .
يقول ابن القيم في سياق تفسيره قوله تعالى(2) :﴿ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ :« في أداة ( على ) سر لطيف ؛ وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط ، على هدى ، وهو حق ؛ كما قال في حق المؤمنين :﴿ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ [البقرة: 5]. وقال لرسول الله صلى الله عليه [وآله]وسلم :﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾[النمل: 79] ، والله عز وجل هو الحق ، وصراطه حق ، ودينه حق ، فمن استقام على صراطه ، فهو الحق والهدى ؛ فكان في أداة ( على ) على هذا المعنى ، ما ليس في أداة ( إلى ) ، فتأمله فإنه سر بديع ! » .
واستطرد ابن القيم قائلاً :« فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ( على ) في ذلك أيضًا ، وكيف يكون المؤمن مستعليًا على الحق وعلى الهدى ؟ قلت : لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى ، مع ثباته عليه ، واستقامته إليه ، فكان في الإتيان بأداة ( على ) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته . وهذا بخلاف الضلال والريب ؛ فإنه يؤتى فيه بأداة ( في ) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه ؛ كقوله تعالى :﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 45] ، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾[الأنعام: 39] ، وقولـه :﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾[المؤمنون: 54] ، وقولـه :﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [هود: 110] .. وتأمل قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[سبأ: 24] ، فإن طريق الحق تأخذ علوًا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير ، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل سافلين » .
ويضاف إلى هذا دلالة السياق وما يفيده من العلو ، في ﴿ لَعَلَى هُدًى ؛ فعلوُّ المكانة والمقام يستوجب علوَّ الإرادة ، ونفاذها واستعلاءها على نوازع التسفل والسقوط ، بإقبالهم على الهدى بمحض اختيارهم ، ويفيد انفساح الرؤية أمام أبصارهم ، فيدركون ما حولهم بوضوح دون حجب أو حواجز ؛ وذلك على النقيض من دلالة التسفل والظرفية في قوله :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ ؛ إذ يستتبع ذلك دلالات سلب الإرادة ، وتقييد الحركة ، وانعدام وضوح الرؤية ، وفقدان حرية الفكر ؛ وذلك يؤدي إلى تمزق النفس وتخبطها .
2- العدول عن ( في ) إلى ( على ) :
من ذلك قوله تعالى :﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾[النحل: 45- 47] . نجد في هذا السياق القرآني تعدِّي الفعل ( أخذ ) أولاً بحرف الجر ( في ) في قولـه :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ، ثم العدول عنه إلى حرف الجر ( على ) في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ؛ لأن إيثار حرف الظرفية مع التقلب قصد به الإدلال على كمال القدرة الإلهية في الوصول بالانتقام إلى من يريد ، مهما بدا للمأخوذ أنه في كمال القدرة والقوة ؛ ذلك أن التقلب يعني حركة الحياة التي أقبل عليها مقترفوا السيئات ، مما يدل على أنهم في كامل صحتّهم وقوتهم ، وكمال سلطانهم وجبروتهم ، وهم في هذه الحال لا يستطيعون أن يفوتوا الله تعالى ويعجزوه هربًا ؛ لذلك ناسب مجيء الفاصلة القرآنية بعدها قوله :﴿ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴾(3) .
وأما العدول إلى ( على ) في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ فإن الاستعلاء فيها يدل على أن الله تعالى زادهم عذابًا فوق عذاب الخوف وآلامه ، وهو بلاء كان قد وقع بهم من قبل ، وأصابهم بأمراض الذعر والقلق وافتقاد الأمن والطمأنينة ، ثم جاء عقابه وأخذهم بما اقترفوه بلاء فوق البلاء ، وعذابًا على عذاب(4) ، فيكون معنى الظرفية في حرف الجر ( في ) قد دّل على كمال قدرة الله في الأخذ والبطش ، وأفاد معنى الاستعلاء في ( على ) الزيادة في التنكيل والعذاب ، فكل حرف قد جاء في موضعه المناسب له ، ولا يمكن أن يحل محله غيره .
وبهذا ندرك أن دلالة حروف الجر ليس في نفسها- كما هو الحال في الأسماء والأفعال- وإنما تكتسب دلالتها من خلال تعالقها بنظم الكلام في السياق ، ويظهر أثر السياق في تخصيص دلالة الحرف وتحديده . فمعنى الاستعلاء في حرف الجر ( على ) قد يفيد في سياق الخير العلو والتفضيل والتشريف ؛ كما هو الحال في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى ﴾[سبأ: 24] ، وفي سياق الأخذ والعذاب ؛ كما هو الحال في قوله تعالى :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ ، أفاد شدَّة العذاب وزيادته ، وكذلك حرف الظرفية ( في ) في قوله :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ ، أفاد معنى التسفل والسقوط ؛ لأن السياق سياق ذم وتوبيخ لحالهم ، وقد دلَّ على العكس من ذلك في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ (النحل: 46) ؛ إذ دلَّ على كمال القدرة في الأخذ والتعذيب ؛ لأن السياق سياق إبراز قدرة وقوة .
3- العدول عن ( في ) إلى ( الباء ) :
من ذلك قوله تعالى على لسان الملأ من قوم نوح في خطاب نبيهم :﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الأعراف: 60- 61] . فقد جاء حرف الجر ( في ) في كلام قوم نوح لنبيهم بقولهم :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ، وهذا الحرف يفيد الظرفية ؛ فكأن الضلال أصبح ظرفًا لـه ، وهو مظروف فيه ، يحيط به من كل مكان ، فردَّ عليهم بقوله :﴿ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾ ، فعدل في جوابه لهم إلى ( الباء ) ، فلم يوافق جوابه قولهم فيكون :( ليس فيَّ ضلالة ) .
وفي هذا السياق نجد أن جواب نوح عليه السلام قد تضمن عدولين : عدولاً نحويًا متمثلاً في العدول عن حرف الجر ( في ) إلى حرف ( الباء ) . وعدولاً صرفيًا متمثلاً في العدول عن المصدر ( ضلال ) إلى اسم المرة ( ضلالة) ؛ وذلك أن اقتران جوابه بـ( الباء ) فيه إمعان في نفي لصوق أدنى ضلالة به ، فضلاً عن انغماسه في الضلال أصلاً . وهذا يؤكده مجيء اسم المرة ( ضلالة ) ؛ لذا ناسب مجيء جوابه لهم بـ( الباء ) عدولاً عن حرف الوعاء ، « مبالغة في نفي اقترابه من الضلال ، وتلبسه به »(5) ، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الأعراف: 61] ، وهو ما يرد بكثرة في سياق خطاب الأنبياء لأقوامهم . من ذلك قول قوم هود لنبيهم :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ﴾[الأعراف: 66] ، وجاء ردُّه عليهم :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ﴾[الأعراف: 67] .
4- العدول عن ( في ) إلى ( من ) :
ومنه قولـه تعالى :﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً.. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾[النساء: 5- 8] . فقد قال ابتداء :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ، فأتى بحرف الجر ( في ) ، ثم عدل عنه إلى حرف الجر ( منه ) ، فقال :﴿ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ﴾ .
وسر هذا : أن الآية الأولى هي خطاب للأولياء في أموال اليتامى ، بدليل قوله :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾[النساء: 5] ، ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ …﴾[النساء: 6] ، ففي قوله :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا دعوة إلى استثمار أموال اليتامى ، وأن ينفق عليهم من أرباح المال لا من أصله ، وهو ما أشار إليه الزمخشري بقوله(6) :« وارزقوهم فيها : واجعلوها مكانًا لرزقهم بأن تتجروا فيها ، وتتربحوا حتى يكون نفقتهم من الأرباح ، لا من صلب المال ، فلا يأكلها الإنفاق » .
وهذا المعنى ناشئ من تركيب الفعل (فارزقوهم) مع حرف الظرفية ( في ) ، فجعل الأموال ظرفًا للرزق ومكانًا له ، في حين عدل عن ( في ) إلى ( من ) بعد ذلك في قوله :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ﴾[النساء: 8] ؛ لأن المدفوع لذوي القربى واليتامى والمساكين حال حضورهم القسمة هو من أصل مال التركة ، فجاءت ( من ) التبعيضية للدلالة على إعطائهم من بعض الميراث على سبيل المواساة والإحسان .
5- العدول عن ( من ) إلى ( في ) :
من ذلك قوله تعالى:﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ … وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾[ [النحل: 84- 89] . فعدَّى الفعل ( نبعث) بـ( من ) في قوله :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ ، ثم عدل عنه إلى ( في ) في قوله :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ .
وهنا ينشأ السؤال الآتي : لماذا لم يطرد السياق ، فيكون :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً … وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم ) ؟‍ أشار السيوطي(7) إلى أن ( في ) هنا بمعنى :( من ) . فقوله :﴿ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ . أي :( من كل أمة ) ، ويكون قولـه حينئذ :﴿ مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ تكرارًا له .
ويرى الباحث أن القول بتناوب الحروف خروج عن تذوق البيان ، ومعرفة إعجاز القرآن . والذي يظهر- والله أعلم- أن هذا السياق القرآني يقرر الشهادة على مرحلتين : الأولى : مرحلة بعث الشهداء من أممهم ؛ فمن كل أمة يخرج الله شهيدًا منها ، وهذه مرحلة بعث وإخراج فقط . ثم تأتي المرحلة الأخرى والأهم ؛ وهي مرحلة إدلاء الشهادة ، فيدلي كل شهيد على وجه الخصوص بشهادته على أمته . والشهداء هم الرسل والأنبياء ؛ لذا كانت هذه المرحلة أشد من سابقتها على الشهداء والمشهود عليهم ؛ لأنها إدلاء بالشهادة وتقرير بحكم ؛ لذلك ناسب فيها التأكيد والإطناب في تفصيل جنس هؤلاء الشهداء فهم ﴿ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ ، فأفاد حرف الجر ( في ) الظرفية والمخالطة والانغماس . فكل شهيد من هؤلاء قد خبر قومه وعرفهم وخالطهم فهو منهم ، وفيهم قد عاش ودرج ، فكانت ( في ) أدل على هذا المعنى من غيرها .
وأمعن السياق القرآني في تأكيد الشهادة ، وأنها شهادة إدلاء بقولـه أيضًا :﴿ شَهِيداً عَلَيْهِم ﴾ ، وقولـه أيضًا :﴿ مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ ، في حين لم يذكر ذلك في الآية السابقة ؛ إذ اكتفى بالقول :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ ، فحسب .
ومنه قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] . وكان يقتضي السياق أن يطرد على نسق واحد فيقول :( منه تسميون ) ؛ لكنه عدل عن ( من ) إلى ( في ) لدلالة أوضحها ابن عاشور بقوله(8) :« والشّجر : يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ، ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليبًا ، وروعي هذا التغليب هنا ؛ لأنه غالب مرعى أنعام أهل الحجاز ؛ لقلة الكلأ في أرضهم ، فهم يرعون الشعاري والغابات ، وفي حديث ضَالَّةُ الإِبلِ تَشْرَبُ الماءَ وترعى الشَّجَرَ حتى يأتيَها ربُّها “(9) . ومن الدقائق البلاغية الإتيان بحرف ( في ) الظرفية ، فالإسامة فيه تكون بالأكل منه ، والأكل مما تحته من العشب » .
وقد فهم ابن عاشور هذا المعنى الدقيق لحرف الجر ( في ) من معرفته بحياة بادية الحجاز التي تنزل فيها القرآن ، فجاء المقال موافقًا تمام الموافقة لمقتضى الحال .

السيد عباس ابو الحسن 10-21-2011 11:13 AM

ثانيًا- العدول في حروف العطف :

لحروف العطف أهمية كبيرة في أداء وظيفة الربط في الجملة العربية ، وتضفي هذه الحروف دلالات خاصة يكشف عنها السياق الواردة فيه ، وقد قرر علماء اللغة أن لكل حرف دلالة عامة تختص به ، فقرروا أن ( الواو ) يرد لمطلق الجمع . يقول سيبويه(10) :« قولك : مررتُ بعمروٍ وزيد . وإنما جئت بالواو ؛ لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما ، وليس فيه دليل على أنَّ أحدهما قبل الآخر » .
يقول الرضي في شرح الكافية(11) :« فقوله :( فالواو للجمع مطلقًا ) ، معنى المطلق : أنه يحتمل أن يكون حصل من كليهما في زمان واحد ، وأن يكون حصل من زيد أولاً ، وأن يكون حصل من عمرو أولاً ، فهذه ثلاثة احتمالات عقلية ، لا دليل في الواو على شيء منها . هذا مذهب جميع البصريين والكوفيين » .
وذكروا أيضًا أن ( الفاء ) تفيد الترتيب والتعقيب يقول سيبويه(12) ، في معرض التمييز بين الواو والفاء :« و( الفاء ) ، وهي تضم الشيء إلى الشيء ؛ كما فعلت ( الواو ) ، غير أنها تجعل ذلك متَّسقًا بعضه في إثر بعض ؛ وذلك قولك : مررتُ بعمروٍ فزيدٍ فخالدٍ . وسقط المطر بمكان كذا وكذا ، فمكان كذا وكذا ؛ وإنما يقرو(13) أحدهما بعد الآخر » .
وأما ( ثَمَّ ) فقد ذكروا أنها تفيد الترتيب مع التراخي . يقول المرادي(14) :« ثم حرف عطف يشرك في الحكم ، ويفيد الترتيب بمهلة ؛ فإذا قلت : قام زيد ثم عمرو ، آذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة » .
وقد علل السهيلي دلالة التراخي في ( ثم ) من دلالة اشتقاقها فقال(15) :« لا غرو أن يتقارب معنى الحرف من معنى الاسم المشتق المتمكن في الكلام ؛ فهذه ( ثم ) حرف عطف ، ولفظها كلفظ ( الثَّم ). والثَّمُ هو رمُّ الشيء يعضه إلى بعض … وأصله من ثمَمْتُ البيتَ ، إذا كانت فيه فُرَج فَسُدَّ بالثَّمَام(16) .
وقال الشاعر :
وَأَمَّا الرِّيَاحُ فقد غَادَرَتْ ** رَواكدَ واستَمْتَعتْ بالثُمام
والمعنى الذي في ( ثُمَّ ) العاطفة قريب من هذا ؛ لأنه ضمّ الشيء إلى شيء ، بينهما مهلة ؛ كما أن ثَمَّ البيت : ضَمُّ بين شيئين بينهما فرجة » .
فامتازت ( ثم ) عن ( الواو ) بالترتيب والمهلة ، وعن ( الفاء ) بالتراخي في الزمن . يقول سيبويه- مفرقًا بين هذه الأحرف الثلاثة(17) :« فإذا قلت : مررتُ برجل راكب وذاهب ، استحقهما ، لا لأن الركوب قبل الذهاب . ومنه : مررتُّ برجل راكب فذاهب ، استحقهما ؛ إلا أنه بَيَّنَ أن الذهاب بعد الركوب ، وأنه لا مهلة بينهما ، وجعله متصلاً به . ومنه : مررتُ برجل راكب ثم ذاهب ، فبيَّنَ أن الذهاب بعده ، وأن بينهما مهلة ، وجعله غير متصل به ، فصَّيَره على حِدَة » .
والذي يهمنا في هذا الموضع هو المخالفة والمغايرة الحاصلة بين حروف العطف في السياق القرآني ، والدلالات التي تنتج عن هذا العدول ، وسيكون تناولنا للعدول في حروف العطف مقتصرًا على أهمها وأكثرها ورودًا في التعبير القرآني ؛ وهي ( الواو ) ، و( الفاء ) ، و( ثم ) ؛ وذلك لكثرة ورود العدول بين هذه الحروف ، مما يدعو ذلك إلى التأمل في أسراره ، وما يحققه من دلالات تكشف عن جوانب الإعجاز في هذا القرآن .
ويتمثل العدول في هذه الحروف على النحو الآتي :
1- العدول عن ( الواو ) إلى ( الفاء ) ، والعكس :
من ذلك قوله تعالى :﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ﴾[ النازعات: 1- 5] . فقد عدل هذا السياق عن ( الواو ) في قوله :﴿ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً ﴾ إلى ( الفاء ) في قولـه :﴿ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ﴾ . ولو اطرد السياق على نمط واحد ، لكانت :( والسابقات سبقًا ، والمدبرات أمرًا ) .
ويمكننا فهم سر هذا العدول من تعليق الزمخشري على ذلك بقوله(18) :« أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها . أي : تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها . أي : تسرع فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمرًا من أمور العباد » .
فالذي نفهمه من كلام الزمخشري أن الملائكة في اختصاصها ووظائفها على طوائف ؛ فمنها طوائف تنزع الأرواح من الأجساد ، وطوائف تخرجها ، وأخرى تسبح في مضيها ؛ لتنفيذ ما أمرت به . وهذه الأخيرة وقف عندها القرآن بالوصف ، فوصفها بأنها تسبح فتسبق فتدبِّر ؛ فهي طائفة توصف بثلاث صفات متتابعة ؛ وهي : السبح والسبق والتدبير ؛ لذلك عطف بين صفاتها هذه بـ( الفاء ) ، وعطف بين ذوات هذه الطوائف المختلفة بـ( الواو ) .
فكانت ( الواو )- في هذا السياق- لعطف الذوات ، و( الفاء ) لعطف الصفات ، فدل العدول عن ( الواو ) إلى ( الفاء ) أن هذه الطائفة من الملائكة هي طائفة واحدة ، تتصف بصفات متعدِّدة ، لا طوائف مختلفة ؛ وإنما دلت ( الفاء ) هنا على تعاقب هذه الصفات وتتابعها .
وهو ما يرد أيضًا في قوله تعالى :﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ﴾[المرسلات: 1- 5] ؛ إذ جاء العدول عن ( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾ إلى ( الواو ) في قولـه تعالى :﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾ ؛ ليفرق بين طائفتين من الملائكة، فما قبل ( الواو ) يمثل طائفة مستقلة في الملائكة مهمتها الإرسال والعصف ، وطائفة أخرى جاء ذكرها بعد ( الواو ) مهمتها النشر والفرق وإلقاء الذكر . وهو ما أوضحه الزمخشري(19)بقوله :« أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره ، فعصفن في مضيهن ؛ كما تعصف الرياح تخففًا في امتثال أمره ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ، أو نشرن الشرائع في الأرض ، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين ، ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرًا إلى الأنبياء » .
ويزيد الألوسي الأمر إفصاحًا ، فيقول(20) :« وعَطفُ الناشرات على ما قبل ( الواو ) ظاهرٌ للتغاير بالذات بينهما ، وعطف العاصفات على المرسلات ، والفارقات على الناشرات ، وكذا ما بعد ( الفاء ) ؛ لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذات » ، فدل هذا على أن الصفات المعطوفة بـ( الفاء ) تكون لموصوف واحد(21) .
2- العدول عن ( الواو ) إلى ( ثم ) ، والعكس :

من ذلك قوله تعالى:﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [الشعراء: 63- 66] . فقد جاء السياق على هذا النحو :﴿ وَأَزْلَفْنَا … وَأَنجَيْنَا ثُمَّ أَغْرَقْنَا ، فعدل عن ( الواو ) إلى ( ثم ) .
فما دلالة ( ثم ) هنا ؟ وهل هناك تراخٍ زمني بين إنجاء المولى عز وجل موسى ومن معه ، وبين إغراق فرعون وقومه ؟ ولماذا لم يقل :﴿ وَأَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ؛ كما هو الحال في قولـه تعالى :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾[البقرة: 50] ، فأتى بـ( الواو ) في قوله :﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ؟
ويرى الباحث أن سياق المقام هو الذي يقتضي حرف عطف معين لدلالة معينة ؛ فالسياق في سورة الشعراء سياق تدرج في النعم ، فالنعمة الحاصلة من إغراق فرعون وجنده أعظم من سابقتها ، وهي إنجاء الفئة المؤمنة ، فأفادت ( ثم ) التراخي الرتبي ، لا الزمني ؛ وذلك أن سياق سورة الشعراء يذكر تكبر فرعون وإعراضه وظلمه . قال تعالى :﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾[الشعراء: 53- 58] .
فالسياق مركز على فرعون وجنده ، فكانت الإشارة بـ( ثم ) في الإغراق للدلالة على عظم هذه النعمة ، وإبراز عظم القدرة في أخذ فرعون وجنده . بينما كان السياق في سورة البقرة ، سياق تعديد نعم فحسب ، فقال تعالى :﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾[البقرة: 50] . وكذلك أنه ليس لفرعون وجنده ظهور على مسرح الأحداث هناك ؛ كما هو الحال في سورة الشعراء ، فأدى الاختلاف في المقال إلى اختلاف نظم الكلام تبعًا له .
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة: 25] . فقد عدل السياق عن( الواو ) إلى( ثم ) ، فقال :﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ، ولم يقل :( وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَوَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) ؛ ليصور الحالة النفسية التي انتابت المسلمين في حنين عند هزيمتهم ؛ إذ صورت ( ثم ) شدة وطأة الزمن ، واستطالته في ذلك الموقف العصيب الذي أصابتهم فيه الدهشة والحيرة والاضطراب ، ﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ . ولو أتى ( بالواو ) ، لما أفاد تلك الدلالة(22) .
ومنه أيضًا في قوله تعالى على لسان نبيه نوح عليه السلام :﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ﴾[يونس: 71] . ونلحظ في هذا السياق القرآني نبرة التحدي ظاهرة بارزة على لسان نبي الله نوح عليه السلام ، في مخاطبة قومه الذين أعرضوا عن دعوة الله عز وجل ، فدعاهم إلى أن يتَّحدوا هم وشركاؤهم ضدَّه للفتك به ، وأمهلهم بأن يتدبَّروا أمرهم علانية على الملأ لا غمة فيه ، ثم أمهلهم أخرى في إعداد عُددهم وعدَّتهم للفتك به والقضاء عليه . فإذا تسنى لهم ذلك فليقضوا عليه دون أي إنظار منهم له أو إمهال ، فدل العدول إلى ( الواو ) على نفي وجود أدنى زمن للمهلة والإنظار . وفي ذلك إمعان في التحدي لهم ، وعدم المبالاة بهم ، وعظم ثقته بالله عز وجل . ولو اطرد السياق بـ( ثم ) لما كان فيه من الدلالة على ذلك ما ذكر .
3- العدول عن ( الفاء ) إلى ( ثم ) ، والعكس :
من ذلك قوله تعالى:﴿ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ [هود: 53- 55] . فعطف طلب الكيد بـ( الفاء ) وعدم الإنظار بـ( ثم ) .
وجاء على العكس من ذلك في تحدي الرسول صلى الله عليه [وآله]وسلم للمشركين ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ [الأعراف: 191-195] . فعطف طلب الكيد بـ( ثم ) ، وعدم الإنظار بـ( الفاء ) .
والذي يبدو- والله أعلم- أن سياق سورة الأعراف فيه تسفيه لهذه الأصنام التي اتخذوها أندادًا من دون الله عز وجل ، ثم ارتفعت نبرة التحدي في الخطاب ، فوجه الله عز وجل الأمر لنبيه صلى الله عليه [وآله]وسلم أن يتحدَّى المشركين بأن يدعو هؤلاء الشركاء ، ويتضامنوا معهم في الكيد له ، و« أمهلهم من الزمن ما يتيح لهم فرصة الاستعداد والاحتشاد لـه ، فعطف الأمر بالكيد على الأمر بدعوة شركائهم بحرف المهلة ؛ إمعانًا في الاستهانة بالشركاء ، وعدم مبالاة بكيدهم ، وجاء عطف عدم الإنظار بـ( الفاء ) ؛ إغراقًا في التحدي والاستهانة حين لا يطلب لنفسه نفس المهلة للرد على كيدهم »(23) ، فطلب معاجلتهم بالقضاء عليه ، والإيقاع به ، وفي ذلك من الاحتقار لهم والتهكم بهم ما فيه .
أما في سورة هود فقد ادعى قوم هود أن آلهتهم المزعومة قد مست هود بسوء ، وأنها تضر وتنفع ، فعندئذ باشرهم بالتحدي السريع دون مهلة ؛ لأنهم « ما داموا يثبتون لآلهتهم هذه القدرة على إنزال الضُّرِّ به . فليس بحاجة إلى أن يطلب منهم دعوتها ، وإمهالهم لحشد قواهم ، فهم قد بدأو حربه بالفعل ، فطلب منهم التعجيل بالكيد له والقضاء عليه ، فأدخل ( الفاء ) على الأمر بالكيد ؛ لتدل على طلب المبادرة به »(24) .
ثم عدل بعد ذلك إلى ( ثم ) ؛ ليعطي لهم ولآلهتهم المزعومة مهلة طويلة من الزمن ، حتى يبلغوا في الكيد غايته . وقد أثبتت الياء في ( فيكيدوني ) ؛ لتطيل زمن النطق بالكلمة مع طول النطق بـ( ثم ) ، فيتسق طول النطق في التعبير مع طول الزمن في الإمهال »(25) .
ثم « إنهم ذكروا أن آلهتهم اعترته بسوء ، فكانت نبرة التحدي لديه أشد وآكد ، فتحدى الجميع بقولـه :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، ثم أظهر نفسه في التحدي ؛ وذلك بإثبات الياء ، زيادة في التحدي لهم والظهور »(26) .
ومنه قولـه تعالى :﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾[المدثر: 18- 25] .
نجد هذا السياق القرآني العجيب قد مضى في اطراد في تكرار ( ثم ) ، فقال :﴿ ثُمَّ قُتِلَ .. ثُمَّ نَظَرَ .. ثُمَّ عَبَسَ .. ثُمَّ أَدْبَرَ .. فَقَالَ .. . ثم عدل عن ( ثم ) إلى ( الفاء ) فجأة في قوله بعد ذلك :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ . ولم يطرد السياق ، فيكون :( ثم قال : إن هذا إلا سحر يؤثر ) .
وعندما نمعن النظر في هذا السياق نجد أن حرف التراخي ( ثم ) قد صور لنا أبلغ تصوير حالة الصراع النفسي الذي عاشه الوليد بن المغيرة الذي نزلت في شأنه هذه الآيات ، وكيف أنه أجال التفكير في شأن القرآن وأعوزته الحيلة بعد مهلة من الزمن وتريث ، فلم يجد ما يعيب به القرآن ، ثم بعد ذلك كله سارع إلى إلقاء كلمة مفتراة في وصف هذا القرآن العظيم بقوله :﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . فدلت ( الفاء ) في قوله :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا .. ﴾ على أن هذا القول قد صدر منه دون إعمال نظر ، أو فكر في المقول ، فلم يقل ما قاله عن قناعة ويقين ؛ وكأنها كلمة ألقاها على عجل ، ووّلى هاربًا مدبرًا من شدَّة الهزيمة النفسية التي حلت به(27) . ولو اطرد هذا السياق القرآني فكان :( ثم قال : إن هذا إلا سحر يؤثر ) ، لدل على أن هذا القول قد قاله بعد إعمال فكر وتريث ، ونظر واعتقاد ويقين ، وليس الأمر كذلك .
ومنه أيضًا قوله تعالى :﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴾[طه: 20] . فقد جاء التعبير- في هذا السياق- عن تولي فرعون ، وجمعه الجموع والحشود والأعوان وكل ما يستطيعه من كيد ، بحرف العطف( الفاء ) ، فقال :﴿ فَتَوَلَّى .. فَجَمَعَ .. ﴾ ، ثم عدل في التعبير عن إتيان فرعون ومواجهته موسى عليه السلام إلى حرف التراخي ( ثم ) ، حيث قال :﴿ ثُمَّ أَتَى ﴾ .
وكان مقتضى السياق أن يكون :( فتولى فرعون ، فجمع كيده ، فأتى ) ، لا سيما أن جمع الناس وحشدهم والإعداد للمواجهة يحتاج إلى مهلة من الزمن ، في حين أن الإتيان بعد ذلك هو أيسر وأسهل ، وكان التعبير في هذا السياق يقتضي العكس ، بأن يقول :( ثم جمع كيده فأتى ) ، فمثل التعبير في هذا السياق خروجًا عن مقتضى الظاهر ؛ وذلك لدلالة نفسية عميقة يوحي بها هذا السياق ، مفادها أن الجمع كان أهون على فرعون من مواجهة موسى عليه السلام ، فدلت ( الفاء ) في قوله :﴿ فَجَمَعَ ﴾ إلى سرعة تحقق الجمع له وحشد الناس ؛ لكونه ملكًا جبارًا يخشى سطوته الجميع ، فأمره بالجمع نافذ وسريع ، وهو مع هذا كله يعيش هزيمة نفسية كبيرة في داخله من مواجهة موسى عليه السلام ، فهو يقدم رجلاً ، ويؤخر أخرى ؛ لذا عبَّر القرآن عن هذه الهزيمة النفسية بحرف التراخي ( ثم ) بقوله :﴿ ثُمَّ أَتَى ﴾ .
وإلى هذه النكتة في العدول أشار أبو السعود بقوله(28):« وفي كلمة التراخي إيحاء إلى أنه لم يسارع إليه ؛ بل أتاه بعد لأي وتلعثم » . وهو ما سرى في نفوس قوم فرعون وأعوانه أيضًا في قولهم :﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً ﴾[طه: 64] ، « وكأني بهم ، وهم يطيلون زمن النطق بـ( ثم ) قبل الدعوة إلى لقائه ، يستهلكون الوقت ، ويتهربون من المواجهة ، ويتمنون ألا تكون »(29) .

السيد عباس ابو الحسن 10-21-2011 11:15 AM

ثالثًا- العدول في حروف النفي :

نجد أن التعبير القرآني قد خالف في الاستعمال بين أداتي النفي بـ( ما ) ، و( إِنْ ) ، فعدل في الأسلوب عن ( ما ) إلى ( إنْ ) كثيرًا . وقد ذكر النحاة أنَّ ( إنْ )(30): حرف نفي يدخل على الجملة الفعلية والاسمية ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾[التوبة: 107] . أي : ما أردنا إلا الحسنى . وقال مجاهد (ت 103هـ) :« كل شيء في القرآن ( إنْ ) فهو إنكار »(31).
وقال الراغب (ت 502هـ) في ( إنْ ) هذه(32) : « وأكثر ما يجيء يتعقبه ( إلا ) ؛ نحو :﴿ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً ﴾[الجاثية: 32] . و:﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾[المدثر: 25]. و:﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ [ هود: 54] ». وكذلك الحال مع حرف النفي ( ما ) ، فهو يدخل على الجملة الفعلية والاسمية .
ويذكر النحاة أن ( إنْ ) بمنزلة ( ما ) في نفي الحال(33) . ويقول برجشتراسر(34) :« و( إنْ ) تكاد تطابق ( ما ) في وظيفتها ، وأكثر وقوعها قبل ( إلا ) للجناس بينهما ؛ نحو :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ﴾[يوسف: 40] » .
ويذكر أحمد ماهر البقري في أساليب النفي في القرآن أنه(35) « لا نكاد نجد فرقًا بين ( إنْ ) ، و( ما ) ؛ إذ هما لنفي ما في الحال غالبًا » .
والحقيقة أن التعبير القرآني قد فرق بينهما في الاستعمال ، من خلال ما نلحظه من المخالفة بينهما ، والعدول عن حرف إلى آخر منهما . وقد تتبع فاضل السامرائي المخالفة بين الأداتين في الاستعمال القرآني ، فوجد أن النفي بـ( إن ) آكد من ( ما )(36) ، يدل على ذلك- كما قال- اقترانها الكثير بـ( إلا ) . وهذا ما يعطيها قوة وتأكيدًا ؛ فإن في القصر قوة ؛ وذلك نحو قوله تعالى :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [إبراهيم: 10]. وقوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ﴾[الإسراء: 44] .
ونضيف إلى ما قاله السامرائي أن ( ما ) قد تأتي مقترنة بـ( إلا ) ؛ ولكن هذا ليس هو الغالب في استعمالها ، في حين أن ( إنْ ) النافية غالب في استعمالها اقترانها بـ( إلا ) ، والقصر بـ( إلا ) يرد للتأكيد ؛ وذلك يوحي بقوتها في التأكيد أكثر من ( ما ) .
ومن خلال السياقات القرآنية التي وردت فيها ( إن ) النافية ، نجد أن النفي بها آكد وأقوى . وهذا يفسر لنا دلالة المخالفة في السياقات القرآنية التي ورد فيها العدول عن ( ما ) إلى ( إن ) ؛ نحو قوله تعالى على لسان النسوة :﴿ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾[يوسف: 31] . فقد جاء النفي ابتداء بـ( ما ) ، فقال :﴿ مَا هَـذَا بَشَراً ﴾ ، ثم عدل عنه إلى النفي بـ( إن ) ، فقال :﴿ إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ . ولم يطرد السياق على نمط واحد من النفي فيكون :( ما هذا بشرًا ، ما هذا إلا ملك كريم ) ؛ وذلك لأن نفي البشرية عنه أهون من إثبات وصف الملائكية له ، فأتى بـ( إنْ ) فيما هو آكد ؛ إمعانًا في تأكيد صفة الملائكية له في الحسن والهيئة ، ونفي ما سواها عنه ؛ إذ القصر بـ( إلا ) يفيد دلالتي النفي ، والإثبات معًا(37) ، فقد أثبت له صفة الملائكية ، ونفى عنه ما دونها .
ومنه قولـه تعالى :﴿ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾[يس: 15] . فأتى بحرف النفي ( ما ) ابتداء ، فقال :﴿ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا .. وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن ﴾ ، ثم عدل بعد ذلك إلى ( إن ) ، فقال :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ . ولو جرى السياق على نسق واحد لكان :( وما أنتم إلا تكذبون ) . ويرجع هذا إلى أن « نفي الثاني أقوى ، فجاء به بـ( إنْ ) ، فإن الأول إثبات البشرية ، والثاني الكذب ، وهم بشر لا شك في ذلك ، فجاء به بـ( ما ) ، والثّاني إثبات الكذب للرسل -عليهم السلام- وإنكار أن يكونوا صادقين ، وهو يحتاج إلى توكيد أكثر فجاء به بـ( إنْ ) »(38) .
وهذا الأمر يطرد في التعبير القرآني ، فحيثما وجد النفي بـ( إن ) ، فهو آكد من النفي بـ( ما ) . ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] . فقد اطرد النفي بـ( ما ) في السياق كله ؛ إلا قوله :﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، فقال :﴿ مَا هِيَ .. وَمَا يُهْلِكُنَا .. وَمَا لَهُم بِذَلِكَ .. إِنْ هُمْ ﴾ . وسبب هذا العدول إلى ( إن ) النافية هنا : أن هذا التعقيب هو رد من المولى عز وجل على كلامهم السابق ، فناسب ذلك الإمعان في التأكيد على مرحلتين : الأولى : بالنفي بـ( ما ) ، في قوله :﴿ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ ، بدليل مجيء ( من ) للتأكيد في قوله : ﴿ مِنْ عِلْمٍ ﴾ ، فأفادت نفي وجود أي شيء لهم من العلم ، ثم ارتقى التأكيد بالنفي-في المرحلة الثانية- إلى مستوى أعلى من سابقه ، فقال :﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، فكانت ( إن ) هنا أنسب في التأكيد من ( ما ) .
وهو ما يظهر لنا جليًّا أيضًا في خطاب نبي الله شعيب- عليه السلام- لقومه بقوله : ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾[هود: 88] . فعدل في النفي عن ( ما ) إلى ( إن ) ، فقال :﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ ﴾ ، ولم يقل :( وما أريد إلا الإصلاح ) ، فيطرد النفي بـ( ما ) ؛ لأن نبرة التأكيد قد ارتفعت لدى نبي الله شعيب عليه السلام ، فأمعن في التأكيد لقومه المكذبين له بقوله :﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ ﴾ ، مؤكدًا بذلك هدفه من رسالته ودعوته .
ويستوقفنا في هذا المقام قول المولى عز وجل مخاطبًا نبيه صلى الله عليه[وآله] وسلم بقوله :﴿ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾[فاطر: 22- 23] . فلم يطرد النفي بـ( ما ) ، فيكون :( وما أنت إلا نذير ) ؛ كما قال :﴿ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴾ ؛ وذلك لأن النفي في الأولى :﴿ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴾ ، أمر مسلم به ، فلا يحتاج إلى مزيد تأكيد . فإسماع الموتى أمر مستحيل تصوره وحصوله ، سواء أكانوا موتى القلوب ، أم موتى الأجساد ؛ لكنه عدل بعد ذلك إلى ( إن ) ، فقال :﴿ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾ ؛ لأن المولى عز وجل أراد في هذا السياق الإمعان في التأكيد لنبيه صلى الله عليه[وآله]وسلم أنه نذير فحسب ، ولا يملك القدرة على هداية قلوب الخلق ؛ وإنما وظيفته الإنذار .
والرسول صلى الله عليه[وآله] وسلم يعلم أنه نذير، فما دلالة التأكيد بالقصر في هذا السياق ؟ والجواب :« أنهُ نزّل الرسول صلى الله عليه[وآله] وسلم منزلة من يعتقد أنه يملك مع صفة الإنذار القدرة على هداية الناس ؛ لأنه لما كان جاهدًا في دعوة القوم ، شديد الحرص على هدايتهم ، صار في حكم من يظن أنه يملك مع صفة الإنذار صفة الهداية ، فجرى الأسلوب كما يجري في خطاب الشك فقيل :﴿ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾ »(39) .
وقد يرد العدول في النفي متمثلاً في المخالفة بين ( لم ) ، و( ما ) . وعلماء النحو يذكرون أن ( لم ) تدخل على المضارع ، فتقلب زمانه إلى الماضي ، و( ما ) تنفي الفعل الماضي ، فتقول : ( لم أذهب ) ، و( ما ذهبت ) ، فيفيدان الدلالة على المضي .
ولكن ، هل النفي بـ( لم ) ، و( ما ) يتماثلان ، فيكون النفي في قولهم :( لم أذهب ) هو معنى النفي في قولهم :( ما ذهبت ) ؟ وأن جملة ( لم أذهب ) هي في المعنى :( ما ذهبت ) ؛ لتحول الفعل المضارع إلى الماضي مع ( لم ) ، أم أن هناك فرقًا دلاليًّا بينهما ؟
ويرى الباحث أن ( لم ) ، و( ما ) ليستا متماثلتين تمامًا في النفي ؛ بل بينهما فرق دقيق ، « فليس من حكمة العربية أن تجعل أداتين مختلفتين متشابهتين تمامًا في المعنى ، ولا بد أن يكون لكل واحد منهما خصوصية ليست في الأخرى »(40) ، « والعربية تميل إلى التفريق والتخصيص »(41) .
وقد ذهب بعض علماء اللغة المعاصرين إلى التفريق بينهما ؛ فإبراهيم أنيس يرى(42):« أن ( لم ) منحوتة من :( لا ) ، و( ما ) ، ويترتب على ذلك التأصيل أنها آكد من النفي بأداة بسيطة مثل ( ما ) . أو على الأقل لا يمكن أن يصبح النفي بـ( لم ) أضعف من النفي بـ( ما ) » . وكذلك قال براجشتراسر عن ( لم )(43)، قال :« إنها ربما ركبت من :( لا ) ، و( ما ) الزائدة » .
ويرى شيخنا الدكتور سمير استيتية(44):« أن النفي بـ( لم ) الداخلة على الفعل المضارع تفيد استغراق النفي لكل جزيئات الزمن الماضي ، في حين أن النفي بـ( ما ) يفيد نفي الماضي بعمومه ؛ لذلك كان نفيها آكد من ( ما ) . وهو ما نجده واضحًا في الاستعمال القرآني ؛ من ذلك قوله تعالى :﴿ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾[البقرة: 259] . « فجاء بـ( لم ) ؛ وذلك لأن تغير الشراب والطعام يحصل تدريجيًّا ويستمر ، وليس دفعة واحدة ، فجاء بـ( لم ) للدلالة على أنه لم يحصل شيء من ذلك . ولو جاء بـ( ما )، وقال :( ما تسنه ) ، لأفاد نفي التسنَّه ، وهو التغير بصورته النهائية التامة »(45) .
ونجد هذا المعنى في تأكيد النفي بـ( لم ) واضحًا أيضًا في قول العذراء :﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾[مريم: 20] . فهو إمعان في النفي من أن تكون قد تلبست بهذا الوصف في أي مرحلة من مراحل حياتها ، فضلاً من أن يكون هذا وصفًا معروفًا لها . في حين كان خطاب قومها لها :﴿ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾[مريم: 28] ، فجاء النفي منهم بـ( ما ) ، فلم يقولوا :( ولم تك أمك بغًّاً ) ؛ لأنه ليس بمقدورهم الإطلاع على كل أزمنة حياة أمها حتى يصدر النفي منهم بصيغة التجدد والحدوث ؛ وإنما جاء النفي منهم بصيغة العموم ، فقالوا :﴿ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ ، فهذا هو المعروف والمشهور للناس من حال أمها بصفة العموم ؛ لذا كان النفي منها أبلغ وأدق وأنفى للتهمة ؛ لكونها أدرى بكل لحظات حياتها وتصرفاتها(46) .
ومما سبق يتضح أن النفي بـ( لم ) للفعل المضارع يفيد نفي أدنى درجات حدوث الفعل في زمنه الماضي ، فالفعل في حدوثه يمر بمراحل متفاوتة في التحقق والحصول . ونفيه بـ( لم ) يقع على أولى فترات تشكله وحدوثه ، كما أنه يفيد استغراق النفي للزمن الماضي بكل جزئياته ، في حين أن النفي بـ( ما ) يفيد نفي الحدث في الماضي ، بصورته النهائية وبعمومه(47) .
وقد خلص الباحث بعد ذلك من بحثه إلى أن العدول في حروف المعاني هو من أبرز الظواهر الأسلوبية في التعبير القرآني ، وأكثرها ورودًا ، ويمثل مظهرًا من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم . وأن السياق له دور بارز ومهم في تحديد الدلالة المناسبة لهذا العدول . وأنه من خلال تحليل سياقات العدول المتعددة في النص القرآني ، نخلص إلى أن كل عدول في المبنى يصاحبه عدول في المعنى قطعًا .
وتوصل الباحث من خلال تحليل مواطن العدول في حروف المعاني أن كل حرف يختص بدلالة لا يشاركه فيها غيره ، والسياق هو الذي يحدد الدلالة المرادة ؛ وبناء على ذلك لا تناوب في حروف المعاني .
وفي الختام كان المقصد من تناول هذا العدول في القرآن الكريم هو التحليل والتعليل لصوره وأنماطه ، لا الوقوف عند ظاهر التركيب . وهذا جهدٌ لا أزعم فيه أنني قد استوفيت كل جزئيات هذا العدول في القرآن الكريم ، فالنص القرآني أكبر من أن يحيط به دارس ، لكني أفدت منه ما يحقق لي هدف هذا البحث .
د/ عبد الله علي الهتاري
أستاذ مساعد بكلية الآداب والألسن/ قسم اللغة العربية
جامعة ذمار/ اليمن
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الهوامش
(1) الكشاف، 3/289.
(2) التفسير القيم، ابن القيم، جمعة محمد أويس الندوي، ت: محمد حامد الفقي، 15-16.
(3) من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم، 69.
(4) من أسرار حروف الجر، 69.
(5) من أسرار حروف الجر، 69.
(6) الكشاف، 1/500.
(7) انظر: الإتقان في علوم القرآن، 1/167.
(8) التحرير والتنوير، 14/114.
(9) رواه البخاري، 5/2027، برقم (4986).
(10) لكتاب، 4/216.
(11) شرح الكافية، 6/145.
(12) الكتاب، 4/217.
(13) يقرو: يتبع.
(14) الجنى الداني، 426.
(15) نتائج الفكر، 124.
(16) الثَّمام هو عشب، المعجم الوسيط، 1/101
(17) الكتاب، 1/429.
(18) الكشاف، 4/112.
(19) الكشاف: 4/202.
(20) روح المعاني، 29/169.
(21) انظر: من أسرار حروف العطف، 40.
(22) انظر: من أسرار حروف العطف، 164، والتحرير والتنوير، 10/157.
(23) من أسرار حروف العطف في الذكر الحكيم، محمد الأمين الخضري، 286-287.
(24) المصدر السابق، 287.
(25) نفسه، 287.
(26) انظر: التعبير القرآني، 81.
(27) انظر: من أسرار حروف العطف، 161، والتعبير القرآني والدلالة النفسية، 256.
(28) تفسير أبي السعود، 6/24.
(29) من أسرار حروف العطف، 163.
(30) انظر: مغني اللبيب، 33-34، وحاشية الدسوقي، 1/24، ومعاني القرآن، الفراء، 2/214، 370، والكشاف، 1/374.
(31) الإتقان في علوم القرآن، 1/155.
(32) مفردات القرآن، 27.
(33) انظر: المفصل، الزمخشري، 307، والهمع، 2/116.
(34) التطور النحوي: 174.
(35) أساليب النفي في القرآن، 93.
(36) معاني النحو، 4/200.
(37) انظر: معاني التراكيب، عبد الفتاح لاشين، 2/8-9.
(38) معاني النحو، 1/258.
(39) عبد الفتاح لاشين، 2/27، وانظر: دلائل الإعجاز، 334.
(40) معاني النحو، 1/252.
(41) التطور النحوي، 90.
(42) من أسرار اللغة، 115، وانظر: البرهان، 2/379.
(43) التطور النحوي، 173.
(44) سماعاً منه.
(45) معاني النحو، 4/196.
(46) انظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي، 2/395.
(47) لا يتفق الباحث في هذا الأمر مع فاضل السامرائي فيما ذهب إليه في كتابه معاني النحو (4/193) من أن النفي بـِ( ما ) آكد من النفي بـ( لم ) ، فما ذكرناه في هذا المقام من أقوال العلماء ، وما تدل عليه سياقات نصوص القرآن يدلل على ما قررناه هنا .


الساعة الآن 08:37 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
Support : Bwabanoor.Com
HêĽм √ 3.1 BY:
! ωαнαм ! © 2010

Security team