وقوله « إن الله » أي « لأن الله » .
قد يقال : إنه قال « فلما ولدت فاطمة سماها الله تعالى فاطمة » أي إن الله هو الذي سماها بهذا الاسم ، ثم قال « لما أخرج منها جعل في ولدها فقطعهم عما طمعوا » أي إن الله هو الذي جعل الوراثة والخلافة في ولدها ، وهو الذي قطع طمع الناس فهو الفاعل والجاعل تماما ; وقوله « فقطعهم » يفيد أن الله هو القاطع والفاطم ، وهو يعارض قوله « لأنها فطمت » أي أن فاطمة هي فاطمة .
والجواب : إن الجمع بين الفقرتين من قبيل الجمع بين الآيات الكريمة في قوله تعالى : ( الله يتوفى الأنس ) و ( يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ) و ( تتوفاهم الملائكة ) .
فالآية الأول صريحة في أن القابض للأرواح هو الله جل شأنه ، وفي الثانية : ملك الموت ، وفي الثالثة : الملائكة .
ومثله إذا قطع السكين شيئا فهو منسوب إلى السكين وإلى اليد وإلى الروح معا ، لكن الأصل هو الروح والقطع حاصل ظاهرا من اليد بواسطة السكين .
فالله سبحانه اختار فاطمة منذ الأزل بإرادته الحتمية وسماها بهذا الاسم وجعل الوراثة والخلافة في أولادها وقطع طمع الآخرين بفاطمة ، فلما ولدت فاطمة الطاهرة آيس الآخرين بوجودها الشخصي وقطع طمعهم .
وبعبارة أخرى : إن وجودها قطع الطمع لوجود تلك المقدمات جميعا ، ولكنه كان بإرادة الله وجعله .
ونظير قوله ( صلى الله عليه وآله ) : فطمتك بالعلم ، وفطمتك عن الطمث ، وفطمتك عن الشر ، فعلى كل التقدير يكون الفاعل هو الله العلام لا سيد الأنام ( صلى الله عليه وآله ) ، أي لأن الله العالم أراد ذلك فأنا - أيضا - أردته ، وإني فطمتها كما فطمها الله عن الجهل وعن الطمث .
الوجه السابع في البحار معنعنا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : « من عرفها حق معرفتها أدرك ليلة القدر ، وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن كنه معرفتها » .
وفي حديث آخر قال : إنما سميت فاطمة لأن أعدائها فطموا عن حبها .
وفي الحديث وجه آخر سيأتي بيانه ضمن بيان تأويل ليلة القدر بفاطمة الزهراء ( عليها السلام )
تعريف لطيف يظهر من الحديث الأول أمران : الأول : إن معرفة فاطمة حق المعرفة يعني إدراك ليلة القدر .
الثاني : انقطاع الناس عن حقيقة معرفتها .
فالأول تعليق ، والثاني إخبار عن المحال لاستحالة معرفة فاطمة . ويستفاد من الأمر الثاني إستحالة إدراك ليلة القدر لاستحالة معرفة فاطمة حق المعرفة .
ونظيره بوجه قوله ( عليه السلام ) « من عرف نفسه فقد عرف ربه » حيث يفيد استحالة معرفة النفس لاستحالة معرفة الرب سبحانه .
ومعرفة فاطمة الزهراء تكون على نحوين : الأول : معرفة اسمها ونسبها وجملة من حالاتها ، كما فعل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) حينما أخذ بيدها ( عليها السلام ) وقال : من عرفها فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بضعة مني وروحي التي بين جنبي . . إلى آخر الحديث .
أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهذا التعريف أن يخبر عن إتحاده بفاطمة الزهراء الدال على كمال فضلها وشرفها ، وأراد أن يقول للناس إعرفوا فاطمة بهذه المعرفة فإنها روحي وقلبي ، ونتيجة هذه المعرفة أن يتعامل الناس مع روح النبي وقلبه وفؤاده وبضعته كما يتعاملون معه تماما ، وحرمة روح النبي كحرمة النبي ، واحترام الجزء الأعظم احترام للكل .
والثاني : معرفة كنهها وحقيقتها ، والإحاطة التامة بتمام مقاماتها وكمالاتها وفضائلها وفواضلها إضافة إلى اسمها ورسمها ونسبها وحسبها ، فهذا ما لا يبلغه أحد ، وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : « وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى » المراد به المعرفة الإجمالية ، لأن فاقد المقامات العالية يعيش دائما في المرتبة الدانية ، فلا يصل إلى المقام العالي ولا يستطيع معرفته وإدراكه .
وإنما يعجز الإنسان عن إدراك الشئ أو الشخص لكثرة أوصافه وآياته فكلما ازدادت أوصاف الموصوف عظم قدره وعلا شأنه في الأعين .
فكيف يمكننا إدراك حقيقة النبوة ومعرفة كنهها ؟ إن الحديث السابق يدل على أن معرفة فاطمة و « ليلة القدر » أشد وأعظم من معرفة الإمام ( عليه السلام ) ، حيث قالوا في معرفة الإمام حق المعرفة : أن تعرف أنه إمام مفترض الطاعة ، وأن معرفته معرفة الله - أي به يعرف الله - ، بينما قالوا في فاطمة : إنها لا يمكن معرفتها بحال ، فهي كالاسم الأعظم والساعة المستجابة وليلة القدر .
وهذا البيان بنفسه نقوله في النبي والوصي والإمام ، حيث لا يمكن الوصول إلى معرفة كنههم بحال .
لا يقال : إن معرفة الإمام واجبة لازمة بناء على قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » وغيره ، أما معرفة فاطمة فغير واجبة ولا لازمة لأنها ليست إماما ولا تكون إماما يوما ما .
كيف نقول ذلك ونعتقد صحته ونؤمن به ، مع أن الإمام قال غير ذلك وأمر الناس عن لسان النبي الأكرم والسلطان الأعظم بمعرفة فاطمة ، واعتبر معرفة تلك المستورة الكبرى من الإيمان بل جزءه المقوم « وأنها أعرف بالأشياء كلها » .
والبرهان العقلي يقول : لا بد للمحب أن يحب محبوب الحبيب ، وفاطمة الزهراء حبيبة الله ورسوله ، ومودتها ومحبتها محبة الرسول ، والمحبة فرع المعرفة ، فمن أحب فاطمة عليه أن يعرفها ، ولما كانت معرفة كنهها مستحيلة وجب أن يعرفها قدر الوسع والإمكان ، ومقتضى الفرض والحتم .
هذا الإجمال ، وسيأتيك التفصيل في خصائص أخرى إن شاء الله تعالى .
وقد تبين من الحديث الآخر أن أعداء فاطمة فطموا عن محبتها ، أي أن من كان يحب الله ورسوله أحب فاطمة ، ومن أحب فاطمة أحب الله ورسوله .
فالحديث الأول عام في عدم إدراك معرفة فاطمة ، والحديث الثاني خاص في عدم محبة أعداء فاطمة لفاطمة ( عليها السلام ) .
الوجه الثامن في البحار عن مصباح الأنوار عن الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) قال : إنما سميت فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) الطاهرة لطهارتها عن كل دنس ، وطهارتها من كل رفث ، وما رأت يوما قط حمرة ولا نفاسا .
وقد روى هذا الحديث في معنى الطاهرة والبتول ، والتعليل في معنى الحديث ظاهر ، ولكنه مأخوذ من « فطمت عن الطمث » ، وهاتان الطهارتان إشارة إلى نزاهة فاطمة الزهراء عن الدنس ظاهرا وباطنا ، وتكرار ذكر الطهارة باعتبار تعدد المتعلق من قبيل تكرار ذكر الاصطفاء في حق مريم ( عليها السلام ) ، فالدنس والرفث صريح في الأدناس الظاهرة والأرجاس الباطنة ، والدنس هو الوسخ حقيقة ، ولكنه يستعمل في غير مجاز وكناية ، فيقال : فلان دنس الثياب إذا كان خبيث الفعل والمذهب .
وفي وصف الأئمة ( عليهم السلام ) : « لم تدنسكم الجاهلية الجهلاء » كذا في مجمع البحرين .
والرفث أصلا الفحش ، وفي الحديث « ويكره للصائم الرفث » ، وقال تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) .
وقد يكون قوله « وما رأت يوما » بيانا للفقرة الأولى من الحديث ، وقد يكون غير ذلك ، بأن يكون لكل تعبير معنى غير المعنى الآخر ، فالمراد من « الطهارة من الدنس » غير المراد من « الطهارة من الرفث » ورؤية دم النفاس وغيره . ومضمون هذا الحديث متواتر عند الشيعة والسنة ، ولكني اكتفيت بذكر حديث واحد في المقام ومؤداه : فطام فاطمة وتنزيهها وتهذيبها من أدناس النساء خاصة ، ومن الخصال الرذيلة في البشر عامة ، وهذه موهبة من مواهب الرحمن ومكرمة من مكارم الملك المنان ، وذلك فضل الله لها ورحمته عليها .
الوجه التاسع في علل الشرائع للمرحوم الصدوق طاب ثراه ، عن محمد بن مسلم الثقفي قال : سمعت أبا جعفر ( الباقر ) ( عليه السلام ) يقول : لفاطمة وقفة على باب جهنم ، فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل مؤمن أو كافر ، فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار ، فتقرأ بين عينيه محبا فتقول : إلهي وسيدي سميتني فاطمة وفطمت بي من تولاني وتولى ذريتي من النار ، ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد .
فيقول الله عز وجل : صدقت يا فاطمة إني سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاك وأحب ذريتك وتولاهم من النار ، ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد ، وإنما أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه ، ليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني ومكانتك عندي ، فمن قرأت بين عينيه مؤمنا فجذبت بيده وأدخلته الجنة .
وفي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) عن الرضا ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إني سميت ابنتي فاطمة لأن الله عز وجل فطمها وفطم من أحبها عن النار .
وعن أبي هريرة مثله .
والخركوشي في شرف النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وابن بطة في الإبانة عن الكلبي عن جعفر بن محمد ( الصادق ) ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : هل تدري لم سميت فاطمة ؟ قال علي : لم سميت فاطمة يا رسول الله ؟ قال : لأنها فطمت هي وشيعتها من النار .
وفي العيون : بالإسناد إلى دارم قال : حدثنا علي بن موسى الرضا ومحمد بن علي قالا : سمعنا المأمون يحدث عن الرشيد ، عن المهدي ، عن المنصور ، عن أبيه عن جده قال : قال ابن عباس لمعاوية : أتدري لم سميت فاطمة فاطمة ؟ قال : لا .
قال : لأنها فطمت هي وشيعتها من النار ; سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقوله .
ومر في الحديث عن معنى المنصورة حديثا بهذا المضمون .
وسيأتي في خصائص الزهراء ( عليها السلام ) حديث ابن أبي جمهور الإحسائي من أن نار الدنيا لا تحرق بدن فاطمة وذريتها وشيعتها ، وهو من أعجب الأحاديث ، ويحتاج إلى خصيصة مستقلة . والخلاصة : إن ظهور هذا الوجه سيكون في الآخرة ، وإنه أعظم معاني اسم فاطمة ، وهو حديث متفق عليه لا تجد من ينكره ، والمخالفون جميعا يذعنون بصحته ، وكأن اسم فاطمة وضع للدلالة على الشفاعة ، ونجاة الشيعة من النار ، والوجوه السابقة المتعلقة بالدنيا كلها أوصاف يتصف بها من صاحب الشفاعة العظمى ، ولا تعارض بينها .
|