![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
.::||[ آخر المشاركات ]||::. |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
|
![]() |
#1
|
|||||||
|
|||||||
![]()
وعظتني نفسي
وعظتني نفسي فعلمتني حب ما يمقته الناس ومصافاة من يضاهونه وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في الحب بل في المحبوب , وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدوداً بين وتدين متقاربين، أما الآن فقد تحول إلى هالة أولها آخرها وآخرها أولها تحيط بكل كائن وتتوسع ببطء لتضم كلّ ما سيكون. *** وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة ، وأن أحدق متبصرا بما يعده الناس شناعة حتى يبدو لي حسنا . وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان واضمحل فلم أغد أرى سوى ما يشتعل. *** وعظتني نفسي الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة ولا تضج بها الحناجر , وقبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضها ، لا أعي سوى الجلبة والصياح ، أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور ، مرتَّلة تسابيح الفضاء ، معلنة أسرار الغيب. *** وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر ولا يسكب بكؤوس لا ترفع ولا تلمس بالشفاء . وقبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد أُخمدها بهبَّةٍ من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة . أما الآن فقد صار شوقي كأسي ، وغلتني شرابي ، ووحدتي نشوتي . وأنا لا ولن أرتوي . ولكن في هذه الحرفة لا تنطفيء مسرةً لا تزول. *** وعظتني نفسي لمس ما لم يتجسد ولم يتبلور ، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول . وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه . وقبل أن تعظني نفسي كنت أكتفي بالحار إن كنت بارداً. والبارد إن كنت حارً. وبأحدهما إن كنت فاترا أما الآن فقد انتثرت ملامسي المنكمشة وانقلبت ضبابا دقيقا يخترق كلّ ما يظهر من الوجود ليمتزج بما خفي منه . *** وعظتني نفسي فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين ولا تنشره المجامر . وقبل أن تعظني نفسي كنت إن اشتهيت عطرا طلبته من البساتين أو من القوارير أو المباخر. أما الآن فقد صرت أشمُّ ما لا يحترق ولا يهرق . أملأ صدري من أنفاس زكية لم تمر بجنة من جنات هذا العالم ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء *** وعظتني نفسي فعلمتني أن أقول "لبيّك " عندما يناديني المجهول والخطر . وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته , ولا أسير إلا على سبيل خبرتها فاستهونتها . أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول ، والسهل سلماً أتسلق درجاته لأبلغ الخطر. *** وعظتني نفسي فعلمتني ألا أقيس الزمن : كان بالأمس وسيكون غداً . وقبل أن تعظني نفسي كنت أتوّهم الماضي عهداً لا يُرد والآتي عصراً لن أصل إليه . أما الآن فقد عرفت أن في الهنيهة الحاضرة كلّ الزمن بكلّ ما في الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق . *** وعظتني نفسي ألاّ أحدّ المكان بقولي : هنا وهناك وهنالك . وقبل أن تعظني نفسي كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيداً عن كلِّ موضع آخر . أما الآن فقد علمت أن مكاناً أحلُّ فيه هو كل مكان . وأن فسحة أشغلها هي كلّ المسافات . *** وعظتني نفسي فعلّمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون . وأن أنام وهم منتبهون . وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي ولا يرصدون أحلامي في غفلتهم . أما الآن فلا أسبح مرفرفاً في منامي إلا وهم يرقبونني ولا يطيرون في أحلامي إلا وفرحت بانعتاقهم . *** وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة . وقبل أن تعظني نفسي كنت أظلّ مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها حتى تنبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها , أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهو في الربيع وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء . وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة . *** وعظتني نفسي فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك ، ولا أدنى من الجبابرة . وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين : رجلاً ضعيفاً أرقُّ له أو أزدري به ، ورجلاً قويا أتبعه أو أتمرد عليه . أما الآن فقد علمت أنني كونت فرداً مما كون البشر منه جماعة . فعناصري عناصرهم . وطويتي طويتهم . ومنازعي منازعهم . ومحجتي محجتهم. فأن أذنبوا فأنا المذنب . وإن أحسنوا عملاً فاخرت يعملهم . وإن نهضوا نهضت وإياهم . وإن تقاعدوا تقاعدت معهم . *** وعظتني نفسي فعلمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي ، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي . فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور ، وأنا وإن كنت عوداً مشدود الأوتار فلست بالعوّاد *** وعظتني نفسي يا أخي فعلمتني. ولقد وعظتك نفسك وعلمتك. فأنت وأنا متشابهان متضارعان . وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عمّا بي وفي كلامي شيء من اللجاجة . وأنت تكتم ما بك وفي تكتمك شكل من الفضيلة . (العواصف " جبران خليل جبران " ) ![]() |
![]() |
|
|
![]() |
![]() |
![]() |