ثم إن مما يبطل هذا الحديث من حيث الدلالة والمعنى وجوها أخر
. ‹ صفحة 48 ›
- 1 –
إن أبا بكر وعمر اختلفا في كثير من الأحكام ، والأفعال ، واتباع المختلفين متعذر غير ممكن . . . . فمثلا : أقر أبو بكر جواز المتعة ومنعها عمر . وأن عمر منع أن يورث أحدا من الأعاجم إلا واحدا ولد في العرب . . . . فبمن يكون الاقتداء ؟ ! ثم جاء عثمان فخالف الشيخين في كثير من أقواله وأفعاله وأحكامه . . . . وهو عندهم ثالث الخلفاء الراشدين . . . وكان في الصحابة من خالف الشيخين أو الثلاثة كلهم في الأحكام الشرعية والآداب الدينية . . . . وكل ذلك مذكور في مظانه من الفقه والأصول . . . . ولو كان واقع هذا الحديث كما يقتضيه لفظه لوجب الحكم بضلالة كل هؤلاء ! !
- 2 –
إن المعروف من الشيخين الجهل بكثير من المسائل الإسلامية مما يتعلق بالأصول والفروع ، وحتى في معاني بعض الألفاظ العربية في القرآن الكريم . . . . فهل يأمر النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بالاقتداء المطلق لمن هذه حاله ويأمر بالرجوع إليه والانقياد له في أوامره ونواهيه كلها ؟ !
- 3 –
إن في هذا الحديث بهذا اللفظ يقتضي عصمة أبي بكر وعمر والمنع من جواز الخطأ عليهما ، وليس هذا بقول أحد من المسلمين فيهما ، لأن إيجاب الاقتداء بمن ليس بمعصوم إيجاب لما لا يؤمن من كونه قبيحا . . . .
- 4 –
ولو كان هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله لاحتج به أبو بكر نفسه ‹ صفحة 49 › يوم السقيفة . . . . ولكن لم نجد في واحد من كتب الحديث والتاريخ أنه احتج به على القوم . . . . فلو كان لنقل واشتهر ، كما نقل خبر السقيفة وما وقع فيها من النزاع والمغالبة . . . بل لم نجد احتجاجا له به في وقت من الأوقات .
- 5 –
بل وجدناه في السقيفة يخاطب الحاضرين بقوله : بايعوا أي الرجلين شئتم يعني : أبا عبيدة وعمر بن الخطاب ( 1 ) . ويلتفت إلى أبي عبيدة الجراح قائلا : أمدد يدك أبايعك ( 2 ) .
- 6 –
ثم لما بويع بالخلافة قال : أقيلوني ، أقيلوني ، فلست بخيركم . . . ( 3 ) .
- 7 –
ثم لما حضرته الوفاة قال : وددت أني سألت رسول الله لمن هذا الأمر ، فلا ينازعه أحد ، وددت أني كنت سألت : هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ( 4 ) . ‹ صفحة 50 ›
- 8 –
وجاء عمر يقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وقى المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ( 1 ) . * * *
وبعد : فما هو متن الحديث ؟ وما هو مدلوله ؟ قد عرفت سقوط هذا الحديث معنى على فرض صدوره . . . وعلى الفرض المذكور . . . فلا بد من الالتزام بأحد أمرين : إما وقوع التحريف في لفظه ، وإما صدوره في قضية خاصة . . . أما الأول فيشهد به : أنه قد روى هذا الخبر بالنصب ، أي جاء بلفظ أبا بكر وعمر بدلا عن أبي بكر وعمر وجعل أبو بكر وعمر مناديين مأمورين بالاقتداء . . ( 2 ) .
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر المسلمين عامة بقوله اقتدوا - مع تخصيص . لأبي بكر وعمر بالخطاب - باللذين من بعده وهما الكتاب والعترة ، وهما ثقلاه اللذان طالما أمر بالاقتداء والتمسك والاعتصام بهما ( 3 ) .
وأما الثاني . . .
فهو ما قيل : من أن سبب هذا الخبر : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان سالكا بعض الطرق ، وكان أبو بكر وعمر متأخرين عنه ، جائيين على عقبه ، ‹ صفحة 51 › فقال النبي صلى الله عليه وآله لبعض من سأله عن الطريق الذي سلكه في اتباعه واللحوق به : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وعنى في سلوك الطريق دون غيره ( 1 ) .
وعلى هذا فليس الحديث على إطلاقه ، بل كانت تحفه قرائن تخصه بمورده ، فأسقط الراوي القرائن عن عمد أو سهو ، فبدأ بظاهره أمرا مطلقا بالاقتداء بالرجلين . . . وكم لهذه القضية من نظير في الأخبار والأحاديث الفقهية والتفسيرية والتاريخية . . . ومن ذلك . . . ما في ذيل حديث الاقتداء نفسه في بعض طرقه . . .
وهذا ما نتكلم عليه بإيجاز . . . ليظهر لك أن هذا الحديث - لو كان صادرا - ليس حديثا واحدا ، بل أحاديث متعددة صدر كل منها في مورد خاص لا علاقة له بغيره . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 47 ›
( 1 ) فواتح الرحموت - شرح مسلم الثبوت 2 / 223 - 224 .
( 2 ) فيض القدير 4 / 421 عن البخاري في المناقب .
( 3 ) فيض القدير 4 / 421 .
( 4 ) فيض القدير 4 / 421 .
( 5 ) فيض القدير 4 / 421 .
‹ هامش ص 49 ›
( 1 ) أنظر : صحيح البخاري - باب فضل أبي بكر ، مسند أحمد 1 / 56 ، تاريخ الطبري 3 / 309 ، السيرة الحلبية 3 / 386 ، وغيرها .
( 2 ) الطبقات الكبرى 3 / 128 ، مسند أحمد 1 / 35 ، السيرة الحلبية 3 / 386 .
( 3 ) الإمامة والسياسة 1 / 14 ، الصواعق المحرقة : 30 ، الرياض النظرة 1 / 175 ، كنز العمال 3 / 132 .
( 4 ) تاريخ الطبري 3 / 431 ، العقد الفريد 2 / 254 ، الإمامة والسياسة 1 / 18 ، مروج الذهب 2 / 302 .
‹ هامش ص 50 ›
( 1 ) صحيح البخاري 5 / 208 ، الصواعق المحرقة : 5 ، تاريخ الخلفاء : 67 .
( 2 ) تلخيص الشافي 3 / 35 .
( 3 ) راجع حديث الثقلين لألفاظه وطرقه ودلالاته في الأجزاء الثلاثة الأولى من كتابنا الكبير نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار .
‹ هامش ص 51 ›
( 1 ) تلخيص الشافي 3 / 38 .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .