تأملات في متن ودلالة حديث الاقتداء * *
قد أشرنا في المقدمة إلى استدلال القوم بحديث الاقتداء في باب الخلافة والإمامة وفي الفقه والأصول في مسائل مهمة . . .
فقد استدل به القاضي البيضاوي في كتابه الشهير طوالع الأنوار في علم الكلام وابن حجر المكي في الصواعق المحرقة وابن تيمية في منهاج السنة وولي الله الدهلوي - صاحب : حجة الله البالغة - في كتابه قرة العينين في تفضيل الشيخين . . . .
ومن الطريف جدا أن هذا الأخير ينسب رواية الحديث إلى البخاري ومسلم . . .
وهذه عبارته : قوله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .
فعن حذيفة : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر متفق عليه . وعن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود . أخرجه الترمذي ( 1 ) .
إذ لا يخفى أن النسبة كاذبة . . . إلا أن يكون متفق عليه اصطلاحا خاصا بالدهلوي ، يعني به اتفاقهما على عدم الإخراج ! ! واستدل به الشيخ علي القاري . . . . ووقع فيما وقع فيه الدهلوي . . .
فقد جاء في شرح الفقه الأكبر : مذهب عثمان وعبد الرحمن بن عوف : أن المجتهد يجوز له أن يقلد غيره إذا كان أعلم منه بطريق الدين ، وأن يترك اجتهاد نفسه ويتبع اجتهاد غيره . وهو المروي عن أبي حذيفة ، لا سيما وقد ورد في الصحيحين : اقتدوا باللذين من ‹ صفحة 42 › بعدي أبي بكر وعمر .
فأخذ عثمان وعبد الرحمن بعموم هذا الحديث وظاهره . ولعله يريد غير صحيحي البخاري ، ومسلم ! ! وإلا فقد نص الحاكم - كما عرفت - على أنها لم يخرجاه ! ! وهكذا فإنك تجد حديث الاقتداء . . . . يذكر أو يستدل به في كتب الأصول المعتمدة . . . فقد جاء في المختصر . ( مسألة : الإجماع لا ينعقد بأهل البيت وحدهم خلافا للشيعة . ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافا لأحمد . ولا بأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - عند الأكثرين ، قالوا : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي . اقتدوا باللذين من بعدي . قلنا : يدل على أهلية اتباع المقلد ، ومعارض بمثل : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . وخذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء . قال شارحه العضد : أقول : لا ينعقد الإجماع بأهل البيت وحدهم ، مع مخالفة غيرهم لهم ، أو عدم الموافقة والمخالفة ، خلافا للشيعة . ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافا لأحمد . ولا بأبي بكر وعمر عند الأكثرين خلافا لبعضهم . لنا : أن الأدلة لا تتناولهم . وقد تكرر فلم يكرر . أما الشيعة فبنوا على أصلهم في العصمة ، وقد قرر في الكلام فلم يتعرض له . وأما الآخرون فقالوا : قال عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي .
وقال : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .
الجواب : أنهما إنما يدلان على أهلية الأربعة أو الاثنين لتقليد المقلد لهم ، لا على حجية قولهم على المجتهد . ثم إنه معارض بقوله : أصحاب كالنجوم . . . ( 1 ) .
وفي المنهاج وشرحه : وذهب بعضهم إلى أن إجماع الشيخين وحدهما حجة لقوله عليه السلام : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر .
رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والترمذي وقال : حسن ، وذكره ابن حبان في صحيحه . ‹ صفحة 43 ›
وأجاب الإمام وغيره عن الخبرين بالمعارضة بقوله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . وهو حديث ضعيف .
وأجاب الشيخ أبو إسحاق في ( شرح اللمع ) بأن ابن عباس خالف جميع الصحابة في خمس مسائل انفرد بها ، وابن مسعود انفرد بأربع مسائل ، ولم يحتج عليهما أحد بإجماع . . . ( 1 ) .
وفي مسلم الثبوت وشرحه : ولا ينعقد الإجماع بالشيخين أميري المؤمنين أبي بكر وعمر عند الأكثر ، خلافا للبعض ، ولا ينعقد بالخلفاء الأربعة خلافا لأحمد الإمام ولبعض الحنفية . . .
قالوا : كون اتفاق الشيخين إجماعا ، قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر . رواه أحمد ، فمخالفتهما حرام . . . . قلنا : هذا خطاب للمقلدين ، فلا يكون حجة على المجتهدين ، وبيان لأهلية الاتباع ، لا حصر الاتباع فيهم ، وعلى هذا فالأمر للإباحة أو للندب ، وأحد هذين التأويلين ضروري ، لأن المجتهدين كانوا يخالفونهم ، والمقلدون كانوا قد يقلدون غيرهم ولم ينكر عليهم أحد ، لا الخلفاء أنفسهم ولا غيرهم ، فعدم حجية قولهم كان معتقدهم . وبهذا اندفع ما قيل إن الإيجاب ينافي هذا التأويل . . . ( 2 ) .
فهذه نماذج من استدلال القوم بحديث الاقتداء بالشيخين . . . في مسائل الفقه والأصولين . . .
لكن الذي يظهر من مجموع هذه الكلمات أن الأكثر على عدم حجية إجماعهما . . . وإذا ضممنا إلى ذلك أن الأكثر - أيضا - على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينص على خلافة أحد من بعده . . .
كما جاء في المواقف وشرحها والإمام الحق بعد النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : أبو بكر ثبتت إمامته بالإجماع وإن توقف فيه بعضهم . . . ولم ينص رسول الله صلى الله [ وآله ] وسلم على أحد خلافا للبكرية ، ‹ صفحة 44 › فإنهم زعموا النص على أبي بكر ، وللشيعة فإنهم يزعمون النص على علي كرم الله وجهه ، إما نصا جليا وإما نصا خفيا .
والحق عند الجمهور نفيهما ( 1 ) .
وقال المناوي بشرحه : فإن قلت : هذا الحديث يعارض ما عليه أهل الأصول من أنه لم ينص على خلافة أحد .
قلت : مرادهم : لم ينص نصا صريحا ، وهذا كما يحتمل الخلافة يحتمل الاقتداء بهم في الرأي والمشورة والصلاة ونحو ذلك ( 2 ) .
علمنا أن المستدلين بهذا الحديث في جميع المجالات - ابتداء بباب الإمامة والخلافة ، وانتهاء بباب الاجتهاد والإجماع - هم البكرية وأتباعهم . . . . إذن . . . . فالأكثر يعرضون عن مدلول هذا الحديث ومفاده . . .
وإن المستدلين به قوم متعصبون لأبي بكر وإمامته . . . وهذا وجه آخر من وجوه وضعه واختلافه . . قال الحافظ ابن الجوزي : قد تعصب قوم لا خلاق لهم يدعون التمسك بالسنة فوضعوا لأبي بكر فضائل . . . ( 3 ) .
لكن من هم ؟ هم البكرية أنفسهم ! ! قال العلامة المعتزلي : فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة ( 4 ) وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث ، نحو : ( لو كنت متخذا خليلا ) فإنهم وضعوه في مقابلة ( حديث الإخاء ) .
ونحو : ( سد الأبواب ) فإنه كان لعلي عليه السلام ، فقلبته البكرية إلى أبي بكر .
ونحو : ( إيتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان ) ثم قال : ( يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ) فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه : ( إيتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده ‹ صفحة 45 › أبدا .
فاختلفوا عنده وقال قوم منهم : لقد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله ) ونحو حديث : ( أنا راض عنك ، فهل أنت عني راض ؟ ) ونحو ذلك ( 1 ) .
وبعد ، فما مدلول هذا الحديث ونحن نتكلم هنا عن هذه الجهة وبغض النظر عن السند ؟ يقول المناوي : أمره بمطاوعتهما يتضمن الثناء عليهما ، ليكونا أهلا لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه . . . . لكن أول شئ يعترض عليه به تخلف أمير المؤمنين عليه السلام ومن تبعه عن البيعة مع أمرهما به ، ولذا قال : فإن قلت : حيث أمر باتباعهما فكيف تخلف علي رضي الله عنه عن البيعة ؟ قلت : كان لعذر ثم بايع ، وقد ثبت عنه الانقياد لأوامرهما ونواهيهما . . . ( 2 ) .
أقول : لقد وقع القوم - بعد إنكار النص وحصر دليل الخلافة في الإجماع - في مأزق كبير وإشكال شديد ، وذلك لأنهم قرروا في علم الأصول أنه إذا خالف واحد من الأمة أو اثنان لم ينعقد الإجماع . قال الغزالي : إذا خالف واحد من الأمة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه ، فلو مات لم تصر المسألة إجماعا ، خلافا لبعضهم . ودليلنا : أن المحرم مخالفة الأمة كافة . . . . ( 3 ) وفي مسلم الثبوت وشرحه : قيل : إجماع الأكثر مع ندرة المخالف بأن يكون واحدا أو اثنين إجماع . . . . والمختار أنه ليس بإجماع لانتفاء الكل الذي هو مناط العصمة . ثم اختلفوا فقيل : ليس بحجة أصلا كما أنه ليس بإجماع ، وقيل : بل حجة ظنية غير الإجماع ، لأن الظاهر إصابة السواد الأعظم . . . قيل : ربما كان الحق مع الأقل ‹ صفحة 46 › وليس فيه بعد . . . .
فقال المكتفون بإجماع الأكثر : صح خلافة أبي بكر مع خلاف علي وسعد بن عبادة وسلمان .
فأجيب : ويدفع بأن الإجماع بعد رجوعهم إلى بيعته . هذا وأضح في أمير المؤمنين علي . فلو سلمنا ما ذكروه من بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، فما الجواب عن تخلف سعد بن عبادة ؟ ! أما المناوي فلم يتعرض لهذه المشكلة . . .
وتعرض لها شارح مسلم الثبوت فقال بعد ما تقدم : لكن رجوع سعد بن عبادة فيه خفاء ، فإنه تخلف ولم يبايع وخرج عن المدينة ، ولم ينصرف إلى أن مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف مضتا من خلافة أمير المؤمنين عمر ، وقيل : مات سنة إحدى عشرة في خلافة أمير المؤمنين الصديق الأكبر . كذا في الاستيعاب وغيره .
فالجواب الصحيح عن تخلفه : أن تخلفه لم يكن عن اجتهاد ، فإن أكثر الخزرج قالوا : منا أمير ومنكم أمير ، لئلا تفوت رئاستهم . . . ولم يبايع سعد لما كان له حب السيادة ، وإذا لم تكن مخالفته عن الاجتهاد فلا يضر الإجماع . . . . فإن قلت : فحينئذ قد مات هو رضي الله عنه شاق عصا المسلمين مفارق الجماعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وأصحابه وسلم : لم يفارق الجماعة أحد ومات إلا مات ميتة الجاهلية . رواه البخاري . والصحابة لا سيما مثل سعد برآء عن موت الجاهلية .
قلت : هب أن مخالفة الإجماع كذلك ، إلا أن سعدا شهد بدرا على ما في صحيح مسلم ، والبدريون غير مؤاخذين بذنب ، مثلهم كمثل التائب وإن عظمت المصيبة ، لما أعطاهم الله تعالى من المنزلة الرفيعة برحمته الخاصة بهم . وأيضا : هو عقبي ممن بايع في العقبة ، وقد وعدهم رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وأصحابه وسلم الجنة ‹ صفحة 47 › والمغفرة . فإياك وسوء الظن بهذا الصنيع . فاحفظ الأدب . . . . ( 1 ) .
ولو تنزلنا عن قضية سعد بن عبادة ، فما الجواب عن تخلف الصديقة الزهراء عليها السلام ؟ ! وهي من الصحابة ، بل بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . فإذا كان الصحابة - لا سيما مثل سعد - برآء عن موت الجاهلية ، فما ظنك بالزهراء التي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني ( 3 ) وقال : فاطمة بضعة مني ، يقضبني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها ( 2 ) وقال : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران ( 4 ) هذه الأحاديث التي استدل بها الحافظ السهيلي وغيره من الحفاظ على أنها أفضل من الشيخين فضلا عن غيرهما ( 5 ) . . . . .
فإن من ضروريات التاريخ أن الزهراء عليها السلام فارقت الدنيا ولم تبايع أبا بكر . . .
وأن أمير المؤمنين عليه السلام لم يأمرها بالمبادرة إلى البيعة ، وهو يعلم أنه لم يفارق الجماعة أحد ومات إلا مات ميتة الجاهلية ! ! أقول : إذن . . . لا يدل هذا الحديث على شئ مما زعموه أو أرادوا له الاستدلال به فما هو واقع الحال ؟ سنذكر له وجها على سبيل الاحتمال في نهاية المقال . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 41 ›
( 1 ) قرة العينين : 189 .
‹ هامش ص 42 ›
( 1 ) شرح المختصر في الأصول 2 / 36 .
‹ هامش ص 43 ›
( 1 ) الإبهاج في شرح المنهاج 2 / 367 .
( 2 ) فواتح الرحموت في مسلم الثبوت 2 / 231 .
‹ هامش ص 44 ›
( 1 ) الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين 2 / 643 - 644 .
( 2 ) فيض القدير 2 / 56 .
( 3 ) الموضوعات 1 / 303 .
( 4 ) الذي صنعته الشيعة أنها استدلت بالأحاديث التي رواها أهل السنة في فضل أمير المؤمنين عليه السلام
‹ هامش ص 45 ›
باعتبار أنها نصوص جلية أو خفية على إمامته كما ذكر صاحب شرح المواقف وغيره .
( 1 ) شرح نهج البلاغة 11 / 49 .
( 2 ) فيض القدير 2 / 56 .
( 3 ) المستصفى 1 / 203 .
‹ هامش ص 47 ›
( 1 ) فواتح الرحموت - شرح مسلم الثبوت 2 / 223 - 224 .
( 2 ) فيض القدير 4 / 421 عن البخاري في المناقب .
( 3 ) فيض القدير 4 / 421 .
( 4 ) فيض القدير 4 / 421 .
( 5 ) فيض القدير 4 / 421 .