الوراثة قبل تطورها
تكملة البحث
الطفل بين الوراثة والتربية - الشيخ محمد تقي فلسفي - ج 1 - ص 60 - 64
الوراثة قبل تطورها :
لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماما فيما مضى ، بل كانوا يجهلون خصوصياتها ، إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الانسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة .
إن ما اكتشفه علماء الوراثة اليوم ، وتوصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية والتي
أسموها ( الجينات ) ليس أمرا جديدا كل الجدة . فالرسول الأعظم والأئمة الطاهرون عليهم السلام ، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي والالهام لم يغفلوا ‹ صفحة 61 › أمر هذا القانون الدقيق .
بل أشير إليه في بعض النصوص وأطلق على عامل الورائة فيها اسم ( العرق )
وبعبارة أوضح : فإن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة ( الجينة ) هو نفس المعنى الذي استفادته الأخبار من كلمة ( العرق ) وعلى سبيل المثال نذكر بعض
تلك الروايات .
1 - عن النبي ( ص ) : « أنظر في أي شيء تضع ولذلك ، فإن العرق دساس » ( 1 ) .
وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة ( دساس ) نجد أن بعضها - كالمنجد – يعلق على ذلك بالعبارة التالية : « العرق دساس أي : أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء » ( 2 ) .
فهذا الحديث يتحدث عن قانون الوراثة بصراحة . ويعبر عن العامل فيها بالعراق .
فالنبي ( ص ) يوصي أصحابه بألا يغفلوا عن قانون الوراثة بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها ، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة .
2 - عن الامام أمير المؤمنين ( ع ) : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق » ( 3 ) .
وهذا الحديث يثبت إمكان اكتشاف الطهارة العائلية للفرد من السجايا الفاضلة عنده .
3 - وهذا محمد بن الحنفية ابن الامام علي ( ع ) كان حامل اللواء في حرب الجمل ، فأمره علي بالهجوم ، فأجهز على العدو ، لكن ضربات الأسنة ورشقات السهام منعته من التقدم فتوقف قليلا . . . وسرعان ما وصل إليه الامام وقال له : « إحمل بين الأسنة » فتقدم قليلا ثم توقف ثانية ، فتأثر الامام من ضعف ابنه بشدة فاقترب منه و « . . . ضربه بقائم سيفه وقال : أدركك عرق من ‹ صفحة 62 › أمك ( 1 ) .
فهنا يثبت الامام ( ع ) أن الجبن الذي ظهر واضحا في ابنه محمد ليس موروثا منه ( ع ) لأنه لم يعرف للجبن معنى قط ، فلا بد وأن يكون من أمه ، لأنها لم تكن من الفضيلة بدرجة تكون معها بمنزلة الصديقة الزهراء ( ع ) .
الشذوذ عن قانون الوراثة
وبالرغم من أن قانون الوراثة قانون وثابت وعام .
وأن انتقال الصفات الوراثية من الآباء والأمهات إلى الأبناء أمر مسلم به عند علماء الوراثة فإن هناك ظواهر تثبت شذوذ الطبيعة عن هذا القانون ، ولقد أثبتت التحقيقات العلمية أنواعا من هذا الشذوذ في كثير من الفطريات والأعشاب والأزهار والأشجار والحشرات والحيوانات البرية والمائية والطيور وحتى في البشر .
لقد أثبتت التجارب أن هذه الطفرة الحاصلة في بعض الصفات الوراثية قد تصبح وراثية فتنتقل إلى الأجيال اللاحقة ، بينما تبقى في بعض الحالات جامدة لا تتعدى الأجيال التي تأثرت بهذه الطفرة .
إن هذه الطفرة أو الشذوذ عن قانون الوراثة يمكن أن يعزى إلى سببين رئيسين : أحدهما
: التغيرات الحاصلة في وضع ( الجينات ) و ( الكروموسومات ) الموجودة في الخلية الحية
. وثانيهما : وراثة الصفات الموجودة في الأجداد والأسلاف البعيدين وظهور بعض الصفات
التي كانت مضمرة في الآباء .
والآن لنستعرض هذين العاملين بشيء من الاختصار :
1 - التغيرات الحاصلة في وضع الجينات :
« يجب أن لا يغيب عن البال أنه قد تظهر بعض الخواص الوراثية تبعا للبيئة ،
وعلى العكس فقد تختفي بعض الصفات في أحد الأجيال
‹ صفحة 63 ›
وتقف نهائيا . وقد تستمر الصفات الحادثة في الانتقال من جيل
إلى جيل . هذه العملية تسمى بالطفرة ، والتي لم يتوصل بعد إلى معرفة عللها
الواقعية . وعليه فمن الخواص الأصلية للطفرة هي قابليتها للتوارث ، ويستنتج من
هذا أنه عند حصول نقصان في بعض الجينات أو الكروموسومات في الخلايا التناسلية
، وتحصل تغيرات مهمة في الأجيال اللاحقة من حيث بناء الجسم . ولقد بقي
العلماء مقتصرين على ملاحظة الطفرة التلقائية ( الذاتية ) لمدة . ولكن مولر استطاع في سنة 1927 أن يحدث هذه الطفرة تجريبيا بواسطة توجيه بعض الأشعة على الخلايا التناسلية ثم جاء راديوم فاستطاع أن يجري تجارب دقيقة على تلك الخلايا بتأثير الأشعة السينية » ( 1 ) وكثيرا ما نشاهد طفلا أشهب العينين ، أشقر الشعر ، أبيض البشرة ذا هيكل غربي تماما في حين أن أبويه يملكان عيونا سودا ، وشعرا أسود ، وبشرة سمراء ، وهيكلا شرقيا تماما .
إن هذه التغيرات التي تخالف السير الطبيعي لقانون الوراثة يمكن أن تستند إلى التغيرات الأولية والفجائية للجينات . وهذا التغير يوجد في النبات والحيوان والانسان على السواء . وكثيرا ما يقع هذا التغير حيث يؤدي إلى اختلاف العناصر ومنشأ هذا كله راجع إلى الطفرة . ولكن العلوم البشرية لم تتوصل بعد إلى العلل الواقعية لأمثال هذه الطفرات الحاصلة ، اللهم إلا مجرد بعض النظريات والاحتمالات الفارغة . « من المحتمل أن تكون الطفرات التلقائية التي تظهر من دون علة واضحة ناشئة من تأثير بعض الأشعة الطبيعية كاشعاعات الأرض المتصلة بالقوة الناقلة لأمواج الراديو في الترية ، أو إشعاعات الهواء الناشئة من الشمس أو إشعاعات ما وراء السدم والمجرات . . . » ( 2 ) ‹ صفحة 64 ›
1 - الوراثة عن الأجيال البعيدة :
كان الفرض الأول يتضمن ظهور علل في الطبيعة تبعث على التغيرات الابتدائية للجينات ، وظهور صفات جديدة من دون سابقة ما ، ولكن الفرض الثاني في الموضوع هو وجود الجينات الصانعة للصفات الجديدة في خلايا الأجيال السابقة بصورة مضمرة ، وظهور عند حصول الشروط المساعدة لها .
« إذا أخذنا فأرتين إحداهما بيضاء والأخرى رمادية وزاوجنا بينهما ، فالجيل
الناشئ منها يكون رمادي اللون هجيني . وهذا يدلنا على أن لبعض الألوان خاصية الغلبة ، ولبعضها خاصية المغلوبية . فإذا لقحنا الفئران الناتحة من الجيل الأول فيما بينها كان الجيل الثاني على ثلاثة أنواع : - رمادي نقي ( غالب ) في ربع الحالات ورمادي هجيني في نصف الحالات ، وأبيض نقي ( مغلوب ) في ربع الحالات ، ومن هنا نستنتج أن اللون الأبيض الذي اختفى في الجيل الأول لم يندثر تماما بل ظهر في الجيل الثاني بنسبة 1 / 3 عند تلقيح فأرتين رماديتين هجينيتين » ( 1 ) « يمكن تمييز المجرم الذي نشأ على الاجرام من صغره عن غيره في علم النفس بأنه يشبه الانسان القديم في اختلال تركيب الوجه أو الجمجة .
واندفاع الجبهة إلى الأعلى وحدة الأذن وعدم التصاقها تماما . إن ظهور هذه العلامات ناتج من الوراثة والأخذ من الأجداد ، ولذلك فمن السهل ملاحظة غرائز الانسان القديمة في هؤلاء الأفراد . كما يمكن مشاهدة صفات الحيوانات القديمة المندثرة في بعض الحيوانات الحاضرة بلا فرق » ( 2 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 61 ›
( 1 ) المستطرف من كل فن مستظرف ج 2 / 218 .
( 2 ) المنجد ، مادة دس .
( 3 ) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 167 ط دار الثقافة في النجف الأشرف .
‹ هامش ص 62 ›
( 1 ) تتمة المنتهى ص 17 .
‹ هامش ص 63 ›
( 1 ) چه ميدانيم ؟ سرطان ص 42
( 2 ) نفس المصدر ص 102
‹ هامش ص 64 ›
( 1 ) چه ميدانيم ؟ سرطان ص 42 ، وتمسى الصفة الغالبة في علم الوراثة بالعامل الغالب والصفة المغلوبة بالعامل المتنحي .
( 2 ) چه ميدانيم ؟ جنايت ص 36 . هذا هو رأي علماء القانون الذين ينتمون إلى ( المدرسةالوضعية ) .
إذ ترى هذه المدرسة في شخص المجرم والصفات الوراثية التي تلقاها من أسلافه العامل الحاسم في تقرير مصيره ، من هؤلاء ( لو مبروزو ) ، بينما تبرز ( النظرية الاجتماعية ) في هذه المدرسة أهمية الأسباب الاجتماعية المتصلة ببيئة الجرم . ومن دعاتها ( فيري ) و ( جاروفالوا ) .
|