حديث سارية.. وأحداث أخرى
2-يا سارية الجبل:
عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب بعث جيشاً، وأمَّر عليهم رجلاً يدعى سارية بن زنيم، قال: فبينا عمر يخطب، إذ جعل يصيح، وهو على المنبر: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، يا سارية الجبل.
قال: فقدم رسول الجيش على عمر، فسأله عما جرى لذلك الجيش، فقال: يا أمير المؤمنين، لقينا عدونا فهزمونا، فإذا صائح يصيح: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، يا سارية الجبل. فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم الله.
فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك([1]).
وفي حديث آخر: أنه قال: يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، وفي آخره: فقيل لعمر: ما ذلك الكلام؟!
فقال: والله، ما ألقيت له بالاً، شيء أتى على لساني([2]).
وفي نص آخر: إن سارية كان في فسا، ودارابجرد([3]).
وقيل: بنهاوند([4]).
ويبدو أن ذلك كان في سنة ثلاث وعشرين.
ونقول:
في هذه الروايات مواضع للبحث، فلاحظ ما يلي:
3-التناقض والإختلاف:
في رواية سارية تناقضات تدل على أن ثمة تصرفاً في بعضها على الأقل:
فبعضها يقول: إن سارية ومن معه قد هزموا كما تقدم.
وبعضها يقول: إنهم كانوا يحاصرون الأعداء، ولم يمكنهم فتح حصنهم إلا بالصعود للجبل بعد سماعهم النداء([5]).
كما أن قول عمر: إنه لم يلق بالاً للنداء الذي صدر عنه يتناقض مع ما ذكرته رواية أخرى ذكرها ابن عساكر في كتابه([6])، فراجع.
قال ابن بدران: «مهما اختلفت الروايات وتعددت، فإن أصل القصة صحيح والله أعلم»([7]).
4-ضعف سند الرواية:
وعن سند الرواية نقول:
قال محمد بن درويش الحوت عن قصة سارية: «روى قصته الواحدي، والبيهقي بسند ضعيف، وهم في المناقب يتوسعون»([8]).
وقال أبو القاسم الكوفي:
«على أنَّا قد رأينا جماعة من فقهاء أصحاب الحديث ينكرون صحة هذا الخبر، ويبطلونه، ويطعنون على الرواي له. وفي هذا كفاية لمن فهم ونظر»([9]).
5-أبو حنيفة ومؤمن الطاق:
قال ابن كثير عن حديث رد الشمس:
«روي عن أبي حنيفة: إنكاره، والتهكم بمن رواه. قال أبو عباس بن عقدة: حدثنا جعفر بن محمد بن عمير، حدثنا سليمان بن عباد: سمعت بشار بن دراع، قال: لقي أبو حنيفة محمد بن النعمان، فقال: عمن رويت حديث رد الشمس؟!
فقال: عن غير الذي رويت عنه: يا سارية الجبل»([10]).
وفي نص آخر: أن أبا حنيفة قال له ذلك كالمنكر عليه.. وأن مؤمن الطاق أجابه: عمن رويت أنت عنه: يا سارية الجبل([11]).
وهذا يدل على: أن مؤمن الطاق ينكر ويتهكم بمن يروي حديث: «يا سارية الجبل».
وقد حاول ابن كثير أن يخفف من وقع جواب مؤمن الطاق، فقال: «وقول محمد بن النعمان له ليس بجواب، بل مجرد معارضة بما لا يجدي، أي أنا رويت في فضل علي هذا الحديث، وهو إن كان مستغرباً، فهو في الغرابة نظير ما رويته أنت في فضل عمر بن الخطاب في قوله: يا سارية الجبل.
وهذا ليس بصحيح من محمد بن النعمان، فإن هذا ليس كهذا إسناداً ولا متناً، وأين مكاشفة إمام قد شهد الشارع له بأنه محدث بأمر خبر رد الشمس طالعة بعد مغيبها، الذي هو أكبر علامات الساعة»([12]).
ونقول لابن كثير:
أولاً: إن حديث رد الشمس متواتر وقطعي الصدور، فقد روي في مصادر أهل السنة عن ثلاثة عشر صحابياً([13]).
وروي عن بعضهم بطرق عديدة، فقد روي عن أسماء مثلاً بخمسة طرق([14]).
وصرح الطحاوي، والقاضي عياض بصحته([15]).
وحسَّنه شيخ الإسلام أبو زرعة، وتبعه غيره([16]).
وأخرجه ابن مندة، وابن شاهين بإسناد حسن.
ورواه ابن مردويه، عن أبي هريرة بإسناد حسن.
ورواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، كما حكاه ولي الدين العراقي([17]).
وأورد طرقه السيوطي في كتابه كشف اللبس بأسانيد كثيرة، وصححه بما لا مزيد عليه([18]).
وقالوا أيضاً: رواه الطبراني بأسانيد رجال أكثرها ثقات([19]).
ثانياً: لو كان كلام مؤمن الطاق لا يجدي، بل هو لمجرد المعارضة لاعترض عليه أبو حنيفة مباشرة، وقال له: إن هذا قياس مع الفارق.. ولذكر له: أن رواة حديث سارية من الثقات الأثبات، بخلاف حديث رد الشمس.
ثالثاً: من الذي قال: إن المقصود مجرد المعارضة، لبيان المشابهة في الغرابة؟! فإن هذا مجرد افتراض، لا سيما وأن السؤال هو عن رواة حديث رد الشمس، فاللازم هو المقارنة بينهم وبين رواة حديث سارية..
وليس في الكلام أية إشارة إلى استغراب الحدث نفسه.. ولو أن مؤمن الطاق قصد ذلك لاعترض عليه أبو حنيفة: بأن هذا خروج عن محل الكلام.
رابعاً: بالنسبة للحديث عن كون عمر محدثاً نقول:
إن هذا أول الكلام، وهو يحتاج إلى إثبات.. وإنما يرويه له أتباعه ومحبوه، ولا يعترف له به غيرهم، بل يرون في سيرته مع الناس، ومع رسول الله «صلى الله عليه وآله» خصوصاً قوله في مرض موته «صلى الله عليه وآله»: إن النبي ليهجر، أو نحو ذلك. ما يمنع من صحة هذه الأحاديث في حقه..
خامساً: بالنسبة لكون رد الشمس حدثاً كونياً عظيماً، لا يقاس بحديث سارية نقول:
ألف: إن مؤمن الطاق لم يقايسه به، بل قايس سند هذا بسند ذاك.
ب: إن حادثة رد الشمس كونية كحادثة شق القمر، فلماذا قبل ابن كثير هذه ورد تلك؟!
وقد تحدثنا عن هذه القضية في كتابنا: رد الشمس لعلي «عليه السلام» فراجع.
6-أبو القاسم الكوفي ماذا يقول؟!:
قال أبو القاسم الكوفي عن حديث سارية:
«ومثله في الكذب والمحال، وفظيع المقال روايتهم: أن عمر نادى في المدينة: يا سارية الجبل، وهو بنهاوند، فسمع سارية وهو بنهاوند صوته حين وقعت عليه الهزيمة وعلى أصحابه، وهو يقول: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل.
فهذه معجزة من أجلِّ معجزات الرسل والأنبياء «عليهم السلام»، لو ظهرت منهم، و (لم) نجد مثلها لأحد منهم.
ولعمري لو ظهرت منهم ما استبعدنا ذلك ولا استعظمناه منهم، ولكنها عند كثير من الناس من المحالات ولو رويت.
ومن كان في محل من يأتي بمثل هذه المعجزة، من المحال أن لا يأتي بآية دونها أو مثلها، أو فوقها.
فلما لم يجد القوم لها نظيراً في المعجزات ولا ما هو دونها، ووجدنا مع ذلك أولياءه إذا طولبوا بالإقرار: أنه كان له أو لمن تقدم من صاحبه الذي هو عندهم أفضل منه معجزة أنكروا أن تكون المعجزات إلا للرسل، وكان هذا كله دالاً على إبطال تخرصهم([20]).
7-راوية الخصيبي:
وقد روى الخصيبي هذه الرواية بنحو آخر، فقال ما ملخصه:
عن جابر بن عبد الله الأنصاري: إن عمر خلا بأمير المؤمنين «عليه السلام» ملياً، ثم رقيا منبر رسول الله «صلى الله عليه وآله» جميعاً، فمسح أمير المؤمنين «عليه السلام» على وجه عمر، فصار عمر يرتعد، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم صاح ملء صوته: يا سارية الجأ [إلى] الجبل..
ثم لم يلبث أن قبل صدر أمير المؤمنين، ثم نزل وهو ضاحك.
فطالبه علي «عليه السلام» أن يفعل ما وعده به.
فقال له عمر: امهلني يا أبا الحسن حتى أنظر ما يرد من خبر سارية. وهل ما رأيته صحيحاً أم لا.
ثم سألوا علياً أمير المؤمنين «عليه السلام» عن حقيقة ما جرى، فأخبرهم: أن عمر أحب أن يعلم خبر جيوشه في نهاوند بعد قتل عمرو بن معدي كرب، فقال له الإمام «عليه السلام»: كيف تزعم أنك الخليفة في الأرض، والقائم مقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأنت لا تعلم ما وراء أذنك وتحت قدمك؟! والإمام يرى الأرض ومن عليها، ولا يخفى عليه من أعمالهم شيء؟!
فقال لي: يا أبا الحسن، أنت بهذه الصورة؟! فأت خبر سارية، وأين هو؟! ومن معهم؟! وكيف صورهم؟!
فقلت له: يا ابن الخطاب، فان قلت لك لا تصدقني، ولكني أريك جيشك وأصحابك. وسارية قد كمن بهم جيش الجبل في واد قعيد [قفر خ. ل]، بعيد الأقطار، كثير الأشجار، فإن سار به جيشك يسيراً خلصوا بها، وإلا قتل أول جيشك وآخره.
فقال: يا أبا الحسن، ما لهم ملجأ منهم، ولا يخرجون من ذلك الوادي؟!.
ثم طلب عمر منه: أن يريه إياهم، أو أن يحذرهم من عدوهم، فأخذ عليه عهداً إن رقى به المنبر، وكشف عن بصره، وأراه جيشه، وصاح بهم وسمعوه، ولجأوا إلى الجبل، وظفروا بعدوّهم أن يخلع نفسه، ويسلم إليه حقه..
إلى أن قال علي «عليه السلام»: ورقيت المنبر، فدعوت بدعوات، وسألت الله أن يريه ما قلت، ومسحت على عينيه، وكشفت عنه غطاءه، فنظر إلى سارية وسائر الجيش، وجيش الجبل، وما بقي إلا الهزيمة لجيشه.
فقلت له: صح يا عمر إن شئت.
قال: يسمع؟!
قلت: نعم، يسمع، ويبلغ صوتك إليهم.
فصاح الصيحة التي سمعتموها: يا سارية إلجأ [إلى] الجبل [الجبل]، فسمعوا صوته، ولجأوا إلى الجبل، فسلموا، وظفروا بجيش الجبل، فنزل ضاحكا كما رأيتموه، وخاطبته وخاطبني بما سمعتموه.
قال جابر: آمنا وصدقنا، وشك آخرون إلى ورود البريد بحكاية ما حكاه أمير المؤمنين، واراه عمر، ونادى بصوته، فكاد أكثر العوام المرتدين أن يعبدوا ابن الخطاب، وجعلوا هذا منقباً له، والله ما كان إلا منقلباً([21]).
ولم يف عمر بما كان قد وعد به كما هو معلوم.
ولعل هذه الرواية هي الأقرب والأصوب، فقد تعودنا الكثير مما يدخل في هذا السياق.
8-أين الإنصاف؟!:
وقد ذكرت بعض الروايات ما ملخصه:
أن الإمام الباقر «عليه السلام» شكا من ظلم كثير من الأمة لعلي.. فذكر «عليه السلام» أنهم يتولون محبي أبي بكر، ويبرؤون من أعدائه كائناً من كان، وكذلك الحال بالنسبة لعمر وعثمان.. فإذا وصل الأمر لعلي، قالوا: نتولى محبيه، ولا نتبرأ من أعدائه، بل نحبهم..
مع أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، كما أنهم إذا ذكر لهم ما اختص الله به علياً «عليه السلام»، بدعاء رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وكرامته على ربه جحدوه.. وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة.
هذا عمر بن الخطاب إذا قيل لهم: إنه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته: يا سارية الجبل (وكان سارية بنهاوند)..
إلى أن قال: وكان بين المدينة ونهاوند مسيرة أكثر من خمسين يوماً. فإذا كان هذا لعمر، فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب «عليه السلام»، لكنهم قوم لا ينصفون، بل يكابرون([22]).
|