عرض مشاركة واحدة
قديم 06-15-2010, 10:52 AM   #4
محمود الحسيني
مشرف عام


الصورة الرمزية محمود الحسيني
محمود الحسيني غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 25
 تاريخ التسجيل :  Jun 2010
 أخر زيارة : 11-28-2010 (10:18 PM)
 المشاركات : 256 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



قال: فخرجت وأنا فرح بما كشف الله عنّي من اللّبس بأنّهم هم. وحمدت الله على ما قدرت عليه.. فلمّا كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متّكئ وبين يديه حنطة مقلوّة - منضجة على النّار - وهو يعبث بها. وقد كان أوقع الشيطان في خلدي أنّه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفةً، والإمام غير مؤوفٍ - غير ذي آقةٍ - .

فقال: اجلس يا فتح، فإنّ لنا بالرّسل أسوة، كانوا يأكلون ويشربون، ويمشون في الأسواق. وكلّ جسم مغذوّ بهذا، إلاّ الخالق الرازق فإنّه جسّم الأجسام، وهو لم يجسّم ولم يجزّأ بتناهٍ، ولم يتزايد ولم يتناقص. مبرّأ من ذاته ما ركّب في ذات مَن جسّمه. الواحد الأحد الصّمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. منشئ الأشياء، مجسّم الأجسام، وهو السّميع العليم، اللطيف الخبير، الرؤوف الرّحيم، تبارك وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً. لو كان كما وصف ولم يعرف الرّب من المربوب ولا الخالق من المخلوق، ولا المنشئ من المنشأ، ولكن فرّق بينه وبين من جسّمه، وشيّأ الأشياء إذ كان لا يشبهه شيء يرى، ولا يشبه شيئاً)(26).

ويلاحظ أنّه سلام الله عليه قد أجاب الفتح بن يزيد الجرجانيّ عمّا دار في خلده في المرّتين بدون أن يسأله، لأنّه كان مطّلعاً على ما يجول في خاطره من إشكالات بمجرّد دخوله عليه، فقد أنبأه الله العليم الخبير العالم بما توسوس به الصّدور، وعرّفه حالتي الشكّ عند صاحبه، لتكون حجّته قاطعة، وليكون قوله الصادق مقبولاً وليثبت أنّه لم يتكلّم من عنده، بل ذكر ما أعلمه به ربّه سبحانه وتعالى بواسطةٍ سماويّة لا قدرة لنا على تحديدها بالدّقة المتناهية. ولذلك فإنه (عليه السلام)، نفى في المرّة الأولى ما لبّس الشيطان على صاحبه من أنّ الأئمّة أرباب، وفي المنزلة الثانية ظهر لصاحبه جالساً يعبث بالقمح المقلوّ لا بداعي العبث الذي جلّ عنه وسما، بل ليبيّن للفتح بن يزيد أنه يأكل ويشرب ويفتقر إلى الغذاء وما يقيم الأود، في حين أنّ الرّبّ سبحانه يجلّ عن ذلك ويتعالى علوّاً كبيراً.
وقال محمد بن عيسى بن عبيد:

(سألت أبا الحسن، عليّ بن محمدٍ العسكريّ (عليهما السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسّماوات مطويّات بيمينه)(27).

فقال: ذلك تعبير الله تعالى لمن شبّهه بخلقه. ألا ترى أنّه قال: (وما قدروا الله حقّ قدره)(28) إذ قالوا: إن (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسّماوات مطويّات بيمينه)(29) كما قال عزّ وجلّ: (وما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر مّن شيء!)(30) ثم نزّة عزّ وجلّ نفسه عن البضة واليمين فقال - في آخر الآية -: (سبحنه وتعالى عمّا يشركون)(31).

وورد في مصدر آخر بهذا اللفظ:

(فقال (عليه السلام): ذلك تعبير الله تبارك وتعالى لمن شبّهه بخلقه، ألا ترى أنّه قال: (وما قدروا الله حقّ قدره)؟ ومعناه: (إذ قالوا أنزل الله على بشر مّن شيءٍ).. ثم نزّه نفسه عن القبضة واليمين فقال: (سبحنه وتعالى عمّا يشركون)(32).

فقد أوضح - سلام الله عليه - أنّ الله تبارك وتعالى كأنه قال: وما قدر الله حقّ قدره من قال: إنّ الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، فإن ذلك قول المجسّمة، وقد تعالى الله سبحانه عمّا يشركون به.

وقال عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضوان الله عليه:

سمعت أبا الحسن، عليّ بن محمدٍ العسكري يقول: معنى الرّجيم، أنّه مرجوم باللّعن، مطرود من مواضع الخير، لا يذكره مؤمن إلاّ لعنه.

وإنّ في علم الله السابق، أنّه إذا خرج القائم (عليه السلام)، لا يبقى مؤمن في زمانه إلاّ رجمه بالحجارة كما كان قبل ذلك مرجوماً باللّعن)(33).

فالشيطان الرّجيم معناه - لعنه الله - أنه المطرود من رحمة الله بعد معصيته حين لم يطع أمر ربّه بالسجود لآدم (عليه السلام). وقد صار منذئذ ملعوناً من سائر المؤمنين بقول الله: وهم يرجمونه بالحجارة في منىً أيام الحج رامزين بذلك إلى طرده ودحره لأنه عدوّ بني آدم الذي يغريهم بالفساد. وفي أيام القائم عجّل الله تعالى فرجه يسلم أهل الأرض ويرجمونه جميعاً بالحجارة بعد الإفاضة من عرفات والمزدلفة، علامةً على إيمانهم، بما جاء من عند الله، وإشارةً إلى عداوته لهم وإلى إبعاده عنهم برميه بالحجارة.

وقال العباس بن هلال:

سألت أبا الحسن، عليّ بن محمدٍ (عليه السلام)، عن قول الله عزّ وجلّ: (الله نور السّماوات والأرض..)(34)؟.

فقال (عليه السلام): يعني: هادي من في السّماوات ومن في الأرض)(35).

نعم، وما الهدى سوى ذلك النّور الذي يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده لينقذهم من ظلمات الجهل والكفر، ويهديهم إلى الحقّ والإيمان.. الذي يعمر القلب وينير الدّرب.. ولذلك قال تبارك وتعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام - أي التسليم له بالرّبوبيّة والوحدانيّة - ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاٍ كأنّما يصّعّد في السّماء..)(36) فهو يشرح صدر من يهديه بنور هداه، ويبقي صدر الضالّ مظلماً تائهاً في الضلالة، لاهثاً وراء جهله، ضائقاً بأمره، متعباً كالذي يمشي طلوعاً نحو السماء..
وفي عهد سلام الله عليه - عهد الفتن والخلافات حول المذاهب وغيرها - كثر الجدل حول خلق القرآن أو قدمه، وخاض النّاس في ذلك أيّ خوض حتى خرجوا عن حدّ المعقول لشدّة ما انحرف بهم الكلام.. فحذّر إمامنا (عليه السلام) شيعته من النزول إلى تلك المعركة التي ضلّ فيها الجدلّيون ضلالاً كبيراً؛ فلم يشترك الشيعة في ذلك النزاع حول صنع الله عزّ وجلّ وحول كلامه الكريم. وقد قال محمد بن عيسى بن عبيد - اليقطيني:

(كتب عليّ بن محمد بن علي بن موسى الرّضا (عليه السلام) إلى بعض شيعته ببغداد:

بسم الله الرّحمن الرّحيم: عصمنا الله وإيّاك من الفتنة، فإن يفعل فقد تعظم بها نعمة، وإلاّ يفعل فهي الهلكة.

نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطي السائل ما ليس له، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه؛ وليس الخالق إلاّ الله عزّ وجلّ، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله.. لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين.

جعلنا الله وإيّاك من (الّذين يخشون ربّهم بالغيب وهم مّن السّاعة مشفقون)(37).

فما أبلغ ما جاء في هذا الكتاب الكريم المختصر الذي يجتثّ تلك البدعة من أصولها، ويقرّر رأي الإمام (عليه السلام) بأوضح بيانٍ وأقوى دليلٍ، إذ الله تعالى وحده هو الخالق وما سواه مخلوق قد فاض عن إرادته سبحانه ومشيئته، والكلام خارج هذا الإطار لغو ولهو وضلالة تؤدّي بالسائل إلى الوقوع في المحذورات حين يتكلّم بما هو من شأن الخالق عزّ وجلّ، وتؤدّي بالمجيب إلى التكلّم رجماً بالغيب إذ يقرّر أفعال ربّه سبحانه بحسب موازين عقله المطفّفة.. وكلاهما غير مكّلفين بما يقومان به سواءً أكان حقّاً أم لغواً.
ومن جملة المسائل الهامة التي ثار الجدل حولها - أيضاً - في ذلك العصر، وكثر الأخذ والردّ مسألة الجبر والتفويض التي أدّت إلى انقسام المسلمين انقساماً كان ذا خطرٍ دخل في صميم العقيدة، إذ نسبت فئة منهم، وقوع الذنب من العبد، إلى الله - والعياذ بالله من ذلك - محتجّة بأنّ الذنب يقع بعلمه تعالى وتقديره، وبإقدار العبد على ذلك بما خلق له من آلاتٍ يباشر الذنب بواسطتها، وبأنّ العبد لا اختيار له في تجنّب الذنب لأنه محمول عليه قد كتبه الله تعالى وقضى به عليه!. ثم أنكرت فئة أخرى ذلك، وقالت بأنّ للعبد أن يختار، وهو الذي يرتكب الذنب بتمام إرادته، وبكامل اختياره، وبواسطة الآلات الّتي منحه الله تعالى إيّاها لطاعته لا لمعصيته.

وقد تكلّم إمامنا (عليه السلام) في هذا الموضوع الهامّ - كما تكلّم آباؤه - وجدّاه الصادق والرّضا بالخصوص (عليه السلام) جميعاً، لئلاّ يقع شيعته في فخّ الكفر وزخرف القول الذي يحاول الإقناع بأنّه لا اختيار للعبد في تصرّفاته لأنها مكتوبة عليه.. ولم يدع شيعته نهب تلك الفوضى التي تجرّأ فيها القائلون على الله عزّت قدرته جرأةً عظيمةً، فمالت بهم الأهواء عن سواء القصد؛ ثم بدأ حديثة معهم بأنّه إذا لم يكن للعبد اختيار ولا تدخّلّ فلم اختاروا خليفة الرسول وانصرفوا عن اختيار الله لهم، وعن نصّ القرآن الصريح، وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الفصيح؟!. فإمّا أن يكون العبد مختاراً في كلّ شيءٍ، وإمّا أن لا يكون له اختيار في شيءٍ.. ثم تكلّم في الجبر والاختيار كلاماً بليغاً يقطع كلّ جدلٍ ونقاش، فكان كأنّه يغترف من بحرٍ، أو أنّه ينهمر كالقطر!.

وهذا نصّ رسالته (عليه السلام) في الردّ على أهل الجبر والتفويض، وإثبات العدل بين المنزلة والمنزلتين:

(من عليّ بن محمدٍ: سلام عليكم وعلى من اتّبع الهدى، ورحمة الله وبركاته.

فإنّه ورد عليّ كتابكم(38) وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر، ومقالة من يقول منكم بالجبر، ومن يقول بالتفويض، وتفرّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم، وفهمت ذلك كلّه.

اعلموا رحمكم الله أنّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار، فوجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممّن يعقل عن الله عزّ وجلّ، لا تخلو من معنيين: إمّا حقّ فيتّبع، وإمّا باطل فيجتنب.

وقد أجمعت الأمّة قاطبةً، لا اختلاف بينهم، أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال اجتماعهم، مقروناً بتصديق الكتاب وتحقيقه، مصيبون مهتدون: وذلك بقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): لا تجتمع أمّتي على ضلالة.. وأخبر أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأمّة كلّها حقّ. هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً.

والقرآن حقّ لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه. فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه، وأنكر الخبر طائفة من الأمّة، لزمهم الإقرار به ضرورةً حين اجتمعت في الأصل على تصديق الكتاب. فإن هي جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملّة.

فأول خبرٍ يعرف تحقيقه من الكتاب، وتصديقه والتماس شهادته عليه، خبر ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم، حيث قال: إنّي مخلّف فيكم الثّقلين: كتاب الله، وعترتي - أهل بيتي - لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما. وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

فلمّا وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصّاً مثل قوله جلّ وعزّ: (إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون ومن يتولّ الله ورسوله والّذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون)(39) وروت العامّة أخباراً لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه تصدّق بخاتمه وهو راكع، فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه؛ فوجدنا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أتى بقوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه. وبقوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي. ووجدناه يقول: عليّ يقضي ديني، وينجز موعدي، وهو خليفتي عليكم من بعدي.

فالجزء الأول الذي استنبطت منه هذه الأخبار، خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم، وهو أيضاً موافق للكتاب.


 
 توقيع : محمود الحسيني

اللهم صلّي و سلّم وبارك على محمّد و على آل محمّد كما صليت و سلمت و باركت على ابراهيم و آل ابراهيم, إنك سميع مجيد.
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن, صلواتك عليه و على آبائه في هذه الساعة, و في كل ساعة وليّاً و حافظاً وقائداً و ناصراً و دليلاً و عيناً, حتى تسكنه أرضك طوعاً و تماتعه فيها طويلًا.

إن عدّ اهل التقى كانوا أئمتهم, إن قيل من خير أهل الأرض قيل هم


رد مع اقتباس