عرض مشاركة واحدة
قديم 06-15-2010, 10:47 AM   #3
محمود الحسيني
مشرف عام


الصورة الرمزية محمود الحسيني
محمود الحسيني غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 25
 تاريخ التسجيل :  Jun 2010
 أخر زيارة : 11-28-2010 (10:18 PM)
 المشاركات : 256 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



وقال الفتح بن يزيد الجرجاني: (سمعته يقول:

هو اللطيف الخبير السّميع البصير، الواحد الأحد الفرد الصّمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.. لو كان كما يقول المشبّهة، لم يعرف الخالق من المخلوق.

وفي توحيد الصدوق زاد.. ولم يكن له كفواً أحد. منشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، ومصور الصّور.. لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ. فرّق بين من جسّمه، وصوّره، وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئاً.

قلت: أجل، جعلني الله فداك، لكنّك قلت: الأحد الصّمد، وقلت: لا يشبهه شيء، ولا يشبه هو شيئاً. والله واحد، والإنسان واحد. أليس قد تشابهت الوحدانيّة؟

قال: يا فتح، أحلت ثبّتك الله - أي أتيت بالمحال - إنّما التشبيه في المعاني، فأمّا الأسماء فهي واحدة، وهي دالّة على المسمّى - أو: دلالة على المسمّى - وذلك أنّ الإنسان وإن قيل: واحد، فإنّما تخبر أنّه جثّة واحدة وليس باثنين. والإنسان نفسه ليس بواحدٍ لأنّ أعضاءه مختلفة، وألوانه مختلفة غير واحدة. ومن ألوانه مختلفة غير واحد، وهو أجزاء مجزّاة ليست بسواءٍ: دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر الخلق. فالإنسان واحد في الاسم، لا واحد في المعنى.

والله جلّ جلاله هو واحد في المعنى، لا واحد غيره. لا اختلاف فيه، ولا تفاوت، ولا زيادة ولا نقصان.. فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع، المؤلّف من أجزاءٍ مختلفةٍ وجواهر شتّى، غير أنّه بالاجتماع شيء واحد(15).

قلت: جعلت فداك، فرّجت عنّي، فرّج الله عنك. فقولك: اللطيف الخبير، فسّره لي كما فسّرت الواحد. فإنّي أعلم أنّ لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل - أي للفرق الطاهر بينه وبين خلقه - غير أنّي أحب أن تشرح ذلك لي.

فقال: يا فتح، إنّما قلنا اللطيف، للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف. أولا ترى - وفّقك الله وثبّتك - إلى أثر صنعه في النّبات اللطيف وغير اللطيف؟ وفي الخلق اللطيف من الحيوان الصّغار والبعوض والجرجس - البعوض الصغير - وما هو أصغر منهما ولا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يتبين لصغره الذّكر من الأنثى، والحدث المولود من القديم؟!.

فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه، واهتدائه للسّفاد - المناكحة - والهرب من الموت، والجمع لما يصلحه، وما في لجج البحار، وما في لحاء الأشجار، والمفاوز والقفار، وفهم بعضها عن بعض منطقها، وما يفهم به أولادها عنها، ونقلها الغذاء إليها، ثم تأليف ألوانها حمرةً مع صفرةٍ، وبياضاً مع حمرة، وما لا تكاد عيوننا تستبينه بتمامٍ لدمامة خلقها، ولحقارة أجسامها وشدّة صغرها، ولا تراه عيوننا، ولا تلمسه أيدينا، علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف، لطف في خلق ما سمّيناه بلا علاج، ولا أداةٍ، ولا آلةٍ، وأنّ صانع كلّ شيءٍ فمن شيءٍ صنع، والله الخالق الجليل، خلق وصنع لا من شيء)(16).

وليس بعد هذا البيان بيان أدق منه وألطف، ولا أشمل منه ولا أكمل.. والتعليق عليه يحطّ من قيمته وقدره مهما بالغ الكاتب في التفكير والتقدير ودقّة التعبير..
وعن الفتح بن يزيد الجرجاني أيضاً، أنّه (عليه السلام) قال:

إنّ لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتمٍ، وإرادة عزم.

ينهى وهو يشاء.. ويأمر وهو لا يشاء.

أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة، وشاء ذلك..

ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى.

وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق - إسماعـــيل على الأصحّ - ولم يشأ أن يذبحــــه، ولو شـــاء، لما غلبت مشيئة إبراهيم مشـــيئة الله تعالى)(17).

وقد علّق السيد الطباطبائي على هذا الكلام بما يلي:

(المشيئة والإرادة انقسام إلى الإرادة التكوينيّة الحقيقيّة، والإرادة التشريعيّة الاعتباريّة. فإنّ إرادة الإنسان التي تتعلّق بفعل نفسه نسبة حقيقيّة تكوينيّة تؤثّر في الأعضاء الانبعاث إلى الفعل، ويستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة إلاّ لمانع.

وأمّا الإرادة التي تتعلّق منّا بفعل الغير، كما إذا أمرنا بشيءٍ أو نهينا عن شيءٍ، فإنها إرادة بحسب الوضع والاعتبار لا تتعلّق بفعل الغير تكوينيّاً.

فإنّ إرادة كلّ شخصٍ إمّا تتعلّق بفعل نفسه من طريق الأعضاء والعضلات، ومن هنا كانت إرادة الفعل أو التّرك من الغير لا تؤثّر في الفعل بالإيجاد والإعدام، بل تتوقّف على الإرادة التكوينيّة من الغير بفعل نفسه حتى يوجد أو يترك عن اختيار فاعله، لا عن اختيار آمره وناهيه.

إذا عرفت ذلك، علمت أن الإرادتين يمكن أن تختلفا من غير ملازمة. كما أنّ المعتاد بفعلٍ قبيح ربّما ينهى نفسه عن الفعل بالتلقين، وهو يفعل من جهة إلزام ملكته الرذيلة الراسخة. فهو يشاء الفعل بإرادة تكوينيّةٍ، ولا يشاؤه بإرادة تشريعيّة، ولا يقع إلاّ ما تعلّقت به الإرادة التكوينيّة.. والإرادة التكوينيّة هي التي يسمّيها (عليه السلام) بإرادة حتم، والتشريعيّة هي التي يسمّيها بإرادة عزم.

وإرادته تعالى التكوينيّة تتعلّق بالشيء من حيث هو موجود؛ ولا موجود إلاّ وله نسبة الإيجاد إليه تعالى بوجوده بنحو يليق بساحة قدسه تعالى. وإرادته التشريعيّة تتعلّق بالفعل من حيث إنّه حسن وصالح غير القبيح الفاسد. فإذا تحقّق فعل موجودٍ قبيحٍ، كان منسوباً إليه تعالى من حيث الإرادة التكوينيّة بوجهٍ، ولو لم يرده لم يوجد، ولم يكن منسوباً إليه تعالى من حيث الإرادة التشريعيّة، فإن الله لا يأمر بالفحشاء.

فقوله (عليه السلام): إن الله نهى آدم (عليه السلام) عن الأكل، وشاء ذلك، وأمر إبراهيم (عليه السلام) بالذّبح ولم يشأه، أراد بالأمر والنّهي التشريعيّين منهما، وبالمشيئة وعدمها التكوينيّين منهما.

واعلم أنّ الرواية مشتملة على كون المأمور بالذّبح إسحاق، دون إسماعيل، وهو خلاف ما تضافرت عليه أخبار الشيعة)(18) وهو بيان جيّد.

***

وقال الفتح بن يزيد الجرجاني في حديثٍ طويل: (ضمّني وأبا الحسن (عليه السلام) الطريق حين منصرفي من مكة إلى خراسان، وهو سائر إلى العراق، فسمعته وهو يقول:

من اتّقى الله يُتّقى، ومن أطاع الله يطاع - أي من اتّقي الله يخافه كلّ شيء - .

فتلطّفت في الوصول إليه. فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، وأمرني بالجلوس. وأول ما ابتدأني به أن قال:

يا فتح، من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقَمِن أن يسلّط الله عليه سخط المخلوق - وفي نسخةٍ: فأيقن أن يحلّ به الخالق سخط المخلوق - . وإنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه. وأتّى يوصف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به؟!. جلّ عمّا يصفه به الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون. نأي في قربه - وقرب في نأيه - فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد.. كيّف الكيف فلا يقال: كيف؟ وأيّن الأين فلا يقال: أين؟ إذ هو منقطع الكيفيّة والأينيّة - الكينونيّة والأينونيّة -(19).

هو الواحد الأحد، الفرد الصّمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فجلّ جلاله.

أم كيف يوصف بكنهه محمد (صلّى الله عليه وآله) وقد قرنه الجليل باسمه، وشركه في عطائه، وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته إذ يقول: (وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله..)(20) وقال - يحكي قول من ترك طاعته، وهو يعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها -: (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسولا)(21).

أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولى الأمر منكم..)(22) وقال: (ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولى الأمر منهم..)(23) وقال: (إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها)(24). وقال: (فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون)(25).

يا فتح، كما لا يوصف الجليل جلّ جلاله، والرسول، والخليل، وولد البتول، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا!. فنبيّنا أفضل الأنبياء، وخليلنا أفضل الأخلاّء، ووصيّه أفضل الأوصياء. واسمها - أي البتول (عليها السلام) أفضل الأسماء، وكنيتهما أفضل الكنى وأجلاها.

لو لم يجالسنا إلاّ كفوء، لم يجالسنا أحد!. ولو لم يزوّجنا إلاّ كفوء، لم يزوّجنا أحد!.

أشدّ الناس تواضعاً - يقصد النبيّ ووصيّه صلوات الله عليهما وأعظمهم حلماً، وأنداهم كفّاً وأمنعهم كنفاً، ورث عنهما أوصياؤهما علمهما؛ فاردد إليهم الأمر وسلّم إليهم.

قال فتح: فخرجت.. فلمّا كان من الصباح تلطّفت في الوصول إليه، فسلّمت عليه، فردّ علّي السلام، فقلت: يا بن رسول الله، أتأذن لي في مسألةٍ اختلج في صدري أمرها الليلة؟

قال: سل، وإن شرحتها فلي، وإن أمسكتها فلي. فصحّح نظرك وتثبّت في مسألتك، وأصغ إلى جوابها سمعك. ولا تسأل مسألة تعنيتٍ، واعتن بما تعتني به، فإنّ العالم والمتعلّم شريكان في الرشد، مأموران بالنّصيحة، منهيّان عن الغش.

وأمّا الذي اختلج في صدرك ليلتك، فإن شاء العالم - أي الإمام - أنبأك:

إنّ الله لم يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول. فكلّ ما كان عند رسول الله، كان عند العالم. وكلّ ما اطّلع عليه الرسول، فقد اطّلع أوصياؤه عليه لئلاّ تخلو أرضه من حجّةٍ يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته.

يا فتح، عسى الشيطان أراد اللّبس عليك فأوهمك في بعضٍ ما أودعتك، وشكّكك في بعض ما أنبأتك، حتى أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم فقلت: متى أيقنت أنّهم كذا، فهم أرباب؟!.

معاذ الله!. إنّهم مخلوقون، مربوبون، مطيعون لله، داخرون، راغبون.. فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به.

فقلت: جعلت فداك، فرّجت عنّي، وكشفت ما لبّس الملعون عليّ بشرحك؛ فقد كان أوقع في خلدي أنّكم أرباب.

قال: فسجد أبو الحسن وهو يقول في سجوده: راغماً لك يا خالقي، داخراً، خاضعاً.

قال: فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي، ثم قال: يا فتح، كدت أن تهلك وتُهلك!. وما ضرّ عيسى إذا هلك من هلك - ممّن قالوا بربوبيته - فاذهب إذا شئت، رحمك الله.


 
 توقيع : محمود الحسيني

اللهم صلّي و سلّم وبارك على محمّد و على آل محمّد كما صليت و سلمت و باركت على ابراهيم و آل ابراهيم, إنك سميع مجيد.
اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن, صلواتك عليه و على آبائه في هذه الساعة, و في كل ساعة وليّاً و حافظاً وقائداً و ناصراً و دليلاً و عيناً, حتى تسكنه أرضك طوعاً و تماتعه فيها طويلًا.

إن عدّ اهل التقى كانوا أئمتهم, إن قيل من خير أهل الأرض قيل هم


رد مع اقتباس