المشرف العام
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 11
|
تاريخ التسجيل : May 2010
|
أخر زيارة : 11-30-2012 (04:20 PM)
|
المشاركات :
735 [
+
] |
التقييم : 10
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
والفرق بين القولين : أن التدرج في الصفات ، أو الترقي فيها على قول السامرائي من ( الكثرة إلى القلة ) ، وعلى قول ابن جزي من ( الأدنى إلى الأعلى ) ، والقولان ليسا بشيء ؛ فليس في الآية ما يدل على كثرة وقلة ، أو أدنى وأعلى . ومتى كانت صفات الله عز وجل تقاس على صفات مخلوقاته ، حتى يقال فيها هذه الأقوال التي تمس بقدسيتها وجلالها ، وتجعل منها صفات لذوات مختلفة ؟ لاحظ قول العلامة المبدع :« فانتقل من الكثرة للقلة ، من حيث دلالة الكلمة بالعدد : الرب كثير ، الملك أقل ، وأما الإله فهو واحد » ، سبحان الله وتعالى عن ذلك ، وعلا علوًّا كبيرًا .
وكان المتوقع من العلامة السامرائي ، وهو يتحدث عن اللمسات البيانية في سورة الناس ، أن يستفيد مما ذكره ابن قيم الجوزية وغيره في التعليل لمجيء هذه الصفات الثلاثة على هذا الترتيب البديع ، كما استفاد في معظم ما أتى به في هذه اللمسات من كلام ابن قيم الجوزية ، فأكثر كلام السامرائي في هذه اللمسات مأخوذ من كلام ابن قيم الجوزية على ( المعوذتين ) ، ومع ذلك لم يستطع أن يأتي بشيء يسير فيها مما أتى به ابن القيم .
يقول ابن قيم الجوزية في التفسير القيم ، وفي بدائع الفوائد :« وقدَّم ( الربوبية ) لعمومها وشمولها لكل مربوب ، وأخَّر ( الإلهية ) لخصوصها ؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها ، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه ، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ، ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره ، ووسط صفة ( الملك ) بين ( الربوبية والإلهية ) ؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره ، فهو المطاع إذا أمر ، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم ؛ فملكه من كمال ربوبيته ، وكونه إلاههم الحق من كمال ملكه ، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه ، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها ، فهو الرب الحق ، الملك الحق ، الإله الحق خلقهم بربوبيته ، وقهرهم بملكه ، واستعبدهم بإلاهيته . فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنته هذه الألفاظ الثلاثة ، على أبدع نظام وأحسن سياق : رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس » !
وهذا القول ذكره البقاعي في نظم الدُّرر ، وزاد عليه قوله :« وقد وقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الوحدانية ؛ لأن من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة ، علم أن له مربيًا . فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى ، علم أنه غني عن الكل ، والكل إليه محتاج ، وعن أمره تجري أمورهم ، فيعلم أنه ملكهم . ثم يعلم بانفراد بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها » .
وهنا يكمن السر في مجيء هذه الصفات الثلاثة على هذا الترتيب البديع ، وهذا ما أشار إليه الرازي في التفسير الكبير بقوله :« بدأ بذكر ( الرب ) ، وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه ، وهو من أوائل نعمه ، إلى أن رباه وأعطاه العقل ، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك ، وهو ملكه ، فثنَّى بذكر ( الملك ) ، ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه ، وعرف أن معبوده مستحق لتلك العبادة عرف أنه ( إله ) ؛ فلهذا ختم به » .
وهذا القول الذي قاله الرازي حكاه ابن عادل في تفسير اللباب عن ابن الخطيب ، وهو قول مختصر ، زيد بيانًا وتفصيلاً في ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ) ، فقد جاء فيه :« في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال :(رَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلَهِ النَّاسِ )؛ ولكأنها لأوَّل وهلة تشير إلى ( الرَّبِّ ، الْمَلِكِ ) هو ( الإلهُ الحقُّ ) الذي يستحق أن يعبَد وحده ، ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة الإخلاص قبلها :﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ ، وهذا هو منطق العقل والقول الحق ؛ لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية ، والعبودية تستلزم التأليهَ والتوحيد في الألوهيَّة ؛ لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك ، وإن كان مالكه عبدًا ، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه ؟ وكيف بالمالك الإله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ؟
وقد جاءت تلك الصفات الثلاث :( الرب ، الملك ، الإله ) في أوَّل افتتاحيَّة أوَّل المصحف :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾(الفاتحة: 2-4) ، والقراءة الأخرى :﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ ، وفي أول سورة ( البقرة ) نداء موجَّه للناس بعبادة الله تعالى وحده ؛ لأنه ربهم ، مع بيان الموجبات لذلك ، في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾(البقرة: 21) ، ثم بيَّن الموجب لذلك بقوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾(البقرة: 21) ، وقوله تعالى :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾(البقرة: 22). وهذا كله من آثار ( الربوبيَّة ) ، واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة . ثم بيَّن موجب إفراده وحده بذلك بقوله :﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 22) . أي : كما أنه لا نِدَّ له في الخلْق ولا في الرزق ولا في شيء ممَّا ذكر ، فلا تجعلوا لله أندادًا أيضًا في عبادةٍ ، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك . وكون ( الربوبيَّة ) تستوجب العبادة جاء صريحًا في قوله تعالى :﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾(قريش: 3-4) ، فالموصول وصلته في معنى التعليل لموجب العبادة .
وفي مجيء قوله تعالى :﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾ بعد قوله :﴿ ِرَبِّ النَّاسِ ﴾ تدرُّجٌ في التنْبيه على تلك المعاني العظام ، وانتقالٌ بالعباد من مبدأ الإيمان بالرب ، لما شاهدوه من آثار الرُّبُوبِيَّةِ في المخلوق والرزق ، وجميع تلك الكائنات ؛ كما تقدَّم في أوَّل نداء وجِّه إليهم :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 21- 22) .
كل هذه الآثار التي لمسوها وأقرُّوا بموجبها ، بأن الذي أوجدها هو ربهم ، ومن ثَمَّ ينتقل بهم إلى الدرجة الثانية ، وهي أن ربهم الذي هذه أفعاله هو ملكهم ، وهو المتصرِّف في تلك العوالم ، وملك لأمرهم وجميع شئونهم ، وملك لأمر الدنيا والآخرة جميعًا . فإذا وصلوا بإقرارهم ِإلى هذا الإدراك ، أقرَّوا له ضرورةً بالألوهية ، وهي المرتبة النهاية ﴿ إِلَهِ النَّاسِ ﴾ . أَيْ : مألوههم ومعبودهم ، وهو ما خلقهم إليه ؛ كما قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾(الذاريات: 56)» .
قال البقاعي في نظم الدُّرر :« وهذه دائمًا طريقة القرآن ، يحتج عليهم بإقرارهم بتوحيدهم له في الربوبية والملك على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة ؛ فمن كان ربهم وملكهم ، فهم جديرون بأن لا يتألهوا سواه ، ولا يستعيذوا بغيره ؛ كما أن أحدهم إذا دهمه أمر استعاذ بوليه من أبناء جنسه واستغاث به ، والإله من ظهر بلطيف صنائعه التي أفادها مفهوم الرب والملك في قلوب العباد ، فأحبوه واستأنسوا به ، ولجؤوا إليه في جميع أمورهم » .
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾(فاطر: 13) . قال الرازي :« أي : ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات والأرض وإرسال الأرواح وإرسال الرياح وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك ، له الملك كله ، فلا معبود إلا هو لذاته الكامل ، ولكونه ملكًا . والملك مخدوم بقدر ملكه ، فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها ، ثم بين ما ينافي صفة الإلهية ، وهو قوله :﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾. وههنا لطيفة :
وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف : أحدهما : أن الخلق بالقدرة الإرادة . والثاني : الملك ، واستدل بهما على أنه إله معبود ؛ كما قال تعالى :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس * مَلِكِ الناس * إله الناس ﴾ ، ذكر الرب والملك ، ورتب عليهما كونه إلهًا . أي : معبودًا ، وذكر فيمن أشركوا به سلب صفة واحدة ، وهو عدم الملك بقوله :﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾، ولم يذكر سلب الوصف الآخر ، لوجهين :
أحدهما : أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله ؛ وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها ، فقال : لا ملك لهم ، ولا ملَّكهم الله شيئًا ، ولا مَلَكوا شيئًا .
وثانيهما : أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق ؛ لأنه لو خلق شيئًا لملكه ، فإذا لم يملك قطميرًا ، ما خلق قليلاً ولا كثيرًا ».
ونظير ذلك قوله تعالى في مطلع سورة النساء :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾(النساء: 1) ، وهو نداء للناس كافة ، يأمرهم بتقوى ( الربوبية ) ، مع بيان الموجب لذلك ، وهو خلقهم من نفس واحدة وخلق زوجها منها .. ثم أتبع بالأمر بتقوى ( الألوهيَّة ) ، وقدم الأمر بتقوى الربوبية ؛ لأن لفظ ( الربَّ ) يدل على الإحسان والتربية ؛ إذ الربّ هو المالك الذي يَرِبُّ مملوكه ويحسن إليه ، ولا يكون إلا مطاعًا . قال موسى عليه السلام :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾(طه: 84) .أما لفظ ( الله ) فيدل على القهر والهيبة ، وهو اسم علم لله المنعم على عباده بنعمه التي لا تعد ولا تحصى ، وهو المتفضل بها عليهم . ولما كان المقام هنا مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة والجلالة والرهبة ، استعمل فيه اسم ( الله ) ، بخلاف مقام الربوبية الذي هو مقام ترغيب ، فبنى التقوى أولاً على الترغيب ، وثانيًا على الترهيب . ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقًا حذرًا عن العقاب العظيم ، وأن الثاني يدعو إليها وفاءً بالشكر الواجب .
وقد جعل الله سبحانه هذا المطلع ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ مطلعًا لسورتين : إحداهما : سورة النساء ، وهي الرابعة من النصف الأول من المصحف . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من نصفه الثاني . وعُلِّل في النساء الأمرُ بتقوى الرب جل وعلا بما يدل على معرفة المبدأ ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾(النساء: 1) ، وعُلِّل في سورة الحج بزلزلة الساعة بما يدل على معرفة المعاد ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾(الحج: 1) ، فكان ارتباط قوله تعالى :﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ بقوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ من سورة النساء ، وبقوله تعالى :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ من سورة الحج ، في غاية الحسن والانتظام ؛ إذ جعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، ثم قدم السورة الدالة على معرفة المبدأ على السورة الدالة على معرفة المعاد . فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية وحكم مطوية ، لا يعرفها إلا الخواصُّ من عباده .
ومن تأمَّل براهين القرآن على وحدانيَّة الله تعالى وتفرده بالإلهية ، وعلى قدرته على البعث ، وهما أهمُّ القضايا العقائديَّة ، يجد أهمَّها وأوضحها وأكثرها هو دليل الربوبيَّة المتضمن معنى : الملك والتدبير ، والخلق والتصوير ؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(غافر: 64) .
وبهذه النصوص وغيرها كثير يتبيَّن لك سر البيان في مجيء هذه الصفات ( رَبّ الناس * مَلِكِ الناس * إله الناس ) على هذا الترتيب البديع ، وهذا ما لم يصل إليه علم السامرائي بعد ، ولم يدخل في دائرة إبداعه ، ولن يدخل أبدًا ؛ ولهذا تجده كمن يخبط في الوحل خبط عشواء ، وتراه يشرق ويغرب ضاربًا أخماسًا لأسداس ؛ ليوهم المشاهدين بأنه قد أتاهم بجديد ، فيتوهمون ويصفقون ، وهكذا يخدع نفسه ويخدعهم بتلك التأويلات الغريبة العجيبة ، وينخدع هو بما يثنون به عليه ، فيحسب أنه بذلك قد أحسن صنعًا .
رابعًا-بقي أن تعلم أن الله تعالى قال في فاتحة الكتاب :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾(الفاتحة: 2- 4) ،وقال تعالى في آل عمران:﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾(آل عمران: 26) ، وقال تعالى في خاتمة الكتاب :﴿ مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ ، فذكر سبحانه في فاتحة الكتاب أنه ( مالك يوم الدين ) ، وذكر في آل عمران أنه ( مالك الملك ) ، وذكر في خاتمة الكتاب أنه ( ملك الناس ) . قال البقاعي :« وقد أجمع القراء هنا على إسقاط الألف من ( ملك ) ، بخلاف الفاتحة ؛ لأن ( الملك ) إذا أضيف إلى ( اليوم ) أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض ، وأنه لا أمر لأحد معه ولا مشاركة في شيء من ذلك ، وهو معنى المُلْك ، بالضم . وأما إضافة ( المالك ) إلى الناس فإنها تستلزم أن يكون ملكهم ، فلو قرىء به هنا لنقص المعنى . وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه ؛ لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء . والمِلْك ، بكسر الميم ، أليق بهذا المعنى ، وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول ؛ وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه ، وأن باديه إلى الخافي يسير » .
وقال الرازي في سورة الناس :« لا يجوز ههنا :( مالك الناس ) ، ويجوز :( مالك يوم الدين ) في سورة الفاتحة ، والفرق أن قوله :( رب الناس ) أفاد كونه مالكًا لهم ، فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ؛ ليفيد أنه مالك ، ومع كونه مالكًا فهو ملك . فإن قيل : أليس قال في سورة الفاتحة :( رب العالمين ) ، ثم قال :( مالك يوم الدين ) ، فليزم وقوع التكرار هناك ؟ قلنا : اللفظ دل على أنه رب العالمين ، وهي الأشياء الموجودة في الحال ، وعلى أنه مالك ليوم الدين . أي : قادر عليه ، فهناك ( الرب ) مضاف إلى شيء ، و( المالك ) إلى شيء آخر ، فلم يلزم التكرير . وأما ههنا لو ذكر ( المالك ) لكان ( الرب والمالك ) مضافين إلى شيء واحد ، فيلزم منه التكرير ، فظهر الفرق . وأيضًا ، فجواز القراءات يتبع النزول ، لا القياس ، وقد قرىء :( مالك ) ؛ لكن في الشواذ » .
وقال ابن عاشور في سورة الفاتحة :« وقوله :( مَلِك ) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم ، وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ( مَالِك ) بالألف ؛ فالأول صفة مشبهة صارت اسمًا لصاحب المُلْك ، بضم الميم ، والثاني اسم فاعل من مَلِك إذا اتصف بالمِلْك ، بكسر الميم ، وكلاهما مشتق من ( مَلَك ) . فأصل مادة ( مَلَك ) في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشدِّ والضبط ، كما قاله ابن عطية ، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز ، والتحقيق والاعتبار . وقراءة ( مَلِك ) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين ؛ لأن ( المَلِك ) ، بفتح الميم وكسر اللام ، هو ذو المُلْك ، بضم الميم ، والمُلْك أخص من المِلْك ؛ إذ المُلْك ، بضم الميم ، هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ، ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم ومواطنهم ؛ فلذالك يقال : مَلِكُ الناس ، ولا يقال : مَلِكُ الدواب ، أو الدراهم . وأما المِلْكُ ، بكسر الميم ، فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره » .
وأضاف ابن عاشور قائلاً :« وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة ( مَلِك ) ، بدون ألف ، وقراءة ( مَالِك ) ، بالألف ، من خصوصيات ، بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة ( ملك ) ، ومفهوم كلمة ( مالك ) ، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى ( يوم الدين ) . فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك . ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة ( ملك ) ، أو ( مالك ) إلى ( يوم ) بتأويل شؤون يوم الدين ، على أن ( مالك ) لغة في ( ملك ) ، ففي القاموس : وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك » . يريد : أن معنى ( مَليك ، ومَلِك ، ومَالك ) : ذو المُلك . أي : صاحب المُلْك . والمُلْك : العظمة والسلطان ؛ كقوله تعالى :﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾(غافر: 16) . وفي تاج العروس :« والمَلْكُ ، بالفَتْحِ ، وكـ( كَتِف وأَمِيرِ وصاحِبِ ) : ذُو المُلْكِ ، وبهِنَّ قُرِئَ قوله تعالى :﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ و﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ و﴿مَلِيكِ يَومِ الدِّينِ﴾ و﴿مَلْكِ يَومِ الدِّينِ﴾ » .. والله تعالى أعلم بمراده ، وأسرار بيانه ، والحمد لله رب العالمين !
|