بعد التشبث بذيل عنايات المرحوم المجلسي طاب ثراه فإن لي وجها آخر قد يكون وجيها في نظر أهل الخبر .
أولا : إن قوله « فسماها » و « ثم » متفرع على نزول الملك وإجراء اسم فاطمة على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فسماها ( صلى الله عليه وآله ) على حسب ما جرى من الملك على لسانه ، ومن ثم قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) « فطمتك بالعلم » أي بالعلم الأزلي الإلهي ، أو بعلمي السابق فطمتك عن سائر النساء بهذا الاسم ، يعني إني أعلم أنك فاطمة وأنك قطعت عن سائر النساء في كل شئ ، ولكني تريثت أنتظر الوحي لئلا يكون قد حصل بداء ; لأن هذا الملك قد أجرى الاسم على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالعلم القديم ، فالتفت وقال : إنك أنت فاطمة المقطوعة والمصطفاة على الفواطم التسعة ونساء عالمك بل نساء الأولين والآخرين ، وكان هذا في علمي فطمتك بما كنت أعلم .
ويفهم من عبارة « فطمتك عن الطمث » وتذييل الإمام بـ « الميثاق » ، أن العهد والميثاق كان من اليوم الأول على طهارتك من كل الأدناس والأرجاس الظاهرة والباطنة .
وقوله : « بالعلم » قد يكون متعلقا بالعلم الإلهي أو بالعلم النبوي ، ولا مشاحة لإمكان الجمع بينهما .
ولا يمكن أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاطم الطمث ولا فاطم فاطمة عن الفواطم وعن النساء ، بل كلاهما راجعان إلى الله تبارك وتعالى وهو الفاطر والفاطم ، وفاطمة الطاهرة ( عليها السلام ) هي المفطومة عن نساء العالمين وعن الطمث خاصة .
وذكر الطمث بعد الفطم عن النساء ذكر الخاص بعد العام ، فالفطام عن الطمث خاص والفطام بالعلم عن النساء عام ، والفطام عن الطمث أحد أفراد العام ، والعلم أحد أفراد العام ، وبعبارة أخرى فطمت فاطمة بالعلم الإلهي في جميع الكمالات خصوصا العلم ، وكان في علم الله أن فاطمة عالمة وجامعة لكل الكمالات الممدوحة ، وقد جعلها الله كذلك منذ يوم « ألست » يوم العهد والميثاق ; لتأتي منزهة عن كل الخبائث الظاهرية والباطنية ، ولما كانت عقوبة الطمث في النساء لها خصوصية اهتم بذكر رفعها والنص عليها ، وهذا المعنى يدل على علم فاطمة بالصفات الأخرى أيضا .
وقوله : « بالعلم » و « بالميثاق » إشارة إلى عدم الجهل وإلى الطهارة الأصلية لفاطمة الزكية .
وقوله : « بالميثاق » مفسر ومبين لقوله « بالعلم » ، وقد ذكره الإمام الباقر ( عليه السلام ) في كلامه توضيحا وتفسيرا .
والباء في « بالعلم » و « بالميثاق » سببية ومتعلقها « اسم فاطمة » ، وطريق الإنفطام معلوم وفيه قرينة مفيدة . ففاطمة موسومة « بفاطمة » بالعلم القديم والميثاق المأخوذ ، ويشهد لذلك الأمر الذي حمله ذلك الملك العظيم ويؤيده ويؤكده قوله « بالميثاق » ; فقوله « بالعلم » لا يرجع - ولو بالكناية -
إلى علم فاطمة ، بل يرجع إلى علم الله ورسوله ، وهذا النوع من التعبير كثير في الآيات وكلمات الأئمة الطاهرين مع ملاحظة الإختصار والإيجاز في كلامهم ( عليهم السلام ) ، فتأمل .
لطيفة ظريفة خطرت في بالي لطيفة طريفة في المقام : قيل في حديث « لا رضاع بعد فطام » أن الطفل إذا رضع اللبن من الغير بعد الفطام وإتمام الرضاع ، فرضاعه هذا لا ينشر الحرمة ، فيقال في هذا المقام إذا كانت فاطمة قد فطمت عن الجهل منذ بدو الخلقة ومنذ يوم « ألست » فهي لا تحتاج إلى استرضاع ، بل جاءت إلى هذا العالم وهي في غاية الإستغناء ، وما قاله عنها كان بيانا للواقع ليس إلا ، ومقارنة التسمية مع الولادة دليل على أن « لا رضاع بعد فطام » .
الوجه الرابع روى في البحار عن الصادق ( عليه السلام ) : تدري أي شئ تفسير فاطمة ؟ قال : فطمت من الشر .
ويقال : إنما سميت فاطمة لأنها فطمت عن الطمث .
وفي الأمالي والعلل عن عبد العظيم الحسني ( عليه السلام ) قال : حدثني الحسن بن عبد الله بن يونس بن ظبيان قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : لفاطمة ( عليها السلام ) تسعة أسماء عند الله عز وجل - وذكر الأسماء - ثم قال : أتدري أي شئ تفسير فاطمة ( عليها السلام ) ؟ قلت : أخبرني يا سيدي .
قال : فطمت من الشر . . » .
فإذا قلنا : إن الفعل هنا لازم ، فيكون المعنى أن فاطمة ( عليها السلام ) هي التي فطمت نفسها من الشر وتباعدت عنه .
اختيار للخيار : مختصر في معنى الخير والشر إن غرضي الأساسي هو إظهار وإثبات فضل المخدرة الكبرى ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، وقد بلغ بنا الكلام إلى فطام فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) عن الشرور ، لذا أحببت أن أطلع القراء عما يدور في خلدي حول معنى الخير والشر ، فأقول بإيجاز : إن إجراء الخير والشر منحصر في يد القدرة الإلهية ، بل إن الله تبارك وتعالى هو خالق الخير والشر كما في رواية الكافي عن معاوية بن وهب عن الصادق ( عليه السلام ) : إن مما أوحى الله إلى موسى ( عليه السلام ) . . . : « إني أنا الله خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب ، فطوبى لمن أجريته على يديه ، وأنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده ، فويل لمن أجريته على يديه » .
قال بعض المحققين : إن هذا الحديث يعارض قوله « والخير في يديك والشر ليس إليك » ، فلا بد أن يقال : إن معنى الخير والشر مقدر بالتقديرات الإلهية ، أو أن الخير والشر هي الجنة والنار والمراد من إجراء الخير والشر إقبال التوفيق وإدباره المستتبع للغفران والخسران .
وقالوا أيضا : إن الخير ذاتي والشر عرضي ، وتركيب العالم قائم على الخير والشر حسب ما تقتضيه الحكمة ، فكل قهر تقابله رحمة ، وكل شر يقابله خير ، إلا أن مراتب الخير والشر متفاوتة ، فخلق النار - إذن - خير وشرها نادر ، ولأن في خلقها مصالح وحكم ، وأما شرها فلا ينسب إلى الحق جل وعلا ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) .
وعلى أي حال فالأشياء لا تخرج عن أحد الأمور الخمسة التالية : إما أن يكون الشئ خيرا محضا ، أو يكون شرا محضا ، أو يكون الخير والشر معا بالتساوي ولكن الخير غالب ، أو يكون الشر غالبا أو يكونان متساويين .
أما القسم الأول : أي يكون الشئ خيرا محضا ، فمثل عالم الروحانيات التي لم يلحظ فيها الشر أصلا ، ومنه الأنبياء والأولياء ومنهم الصديقة الكبرى والعصمة العظمى ، فهي مبرأة وعارية بالحقيقة من الشرور والمفاسد منذ اليوم الأول ; لأن الله خلقها خيرا محضا وصلاحا صرفا ، فليس للشر والفساد إليها سبيلا ، ولهذا فالأفضل أن تستعمل لها صيغة البناء للمجهول فيقال « فطمت عن الشر » ، أي أنها قطعت عن كل شر وفساد ظاهرا وباطنا ، وكانت تلك المخدرة منبع الخيرات ومصدر البركات ، ولم يكن في وجودها المبارك شئ من الشرور والمعاصي والملكات الذميمة ، ولا يتصور ذلك في حقها ، بل لا يتصور احتمال ارتكاب المخالفة في حقها ، وكانت كذلك منذ الأزل لمقتضى الصلاح والحكمة .
أما إذا قيل فطمت بالبناء للمعلوم ، فيعني أن فاطمة ( عليها السلام ) هي التي أبعدت نفسها عن الشرور ، وهذا الإبتعاد يحتاج إلى تأييد من الله جل وعلا .
قال العلامة المجلسي ( رحمه الله ) : ويمكن أن يقال : إنها فطمت نفسها وشيعتها من النار وعن الشرور ، وفطمت نفسها عن الطمث ، ولكون السبب في ذلك ما علم الله من محاسن أخلاقها ومكارم خصالها فالإسناد مجازي » .
الوجه الخامس عن البحار ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « سميت فاطمة فاطمة لفطمها عن الدنيا ولذاتها وشهوتها » ، فلما نزل الملك وأجرى اسمها على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كانت فاطمة عازفة عن الدنيا ، معرضة عما سوى الله ، موجهة قلبها من المهد إلى اللحد نحو الآخرة ونحو الله ; لأن حب الدنيا قطع عنها قطعا واستغرقت في محبة الحق تعالى ، ولهذا عاشت في هذه الدنيا فترة قصيرة وكابدت فيها المصائب مكابدة وهي في غاية القدرة وكمال الكرامة ، ومن قرأ كتاب « زهد فاطمة » علم أنها « ليست كالآدميين » .
تكون التسمية بيان لما ستأول إليها ( عليها السلام ) كما قاله المجلسي طاب ثراه إن شاء الله تعالى .
الوجه السادس في كتاب علل الشرائع ، عن عبد الله المحض بن الحسن المثنى عن أبي الحسن السجاد ( عليه السلام ) قال : قال لي أبو الحسن ( عليه السلام ) : لم سميت فاطمة فاطمة ؟ قلت : فرقا بينه وبين الأسماء .
قال : « إن ذلك لمن الأسماء ، ولكن الاسم الذي سميت به إن الله تبارك وتعالى علم ما كان قبل كونه ، فعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يتزوج في الأحياء وأنهم يطمعون في وراثة هذا الأمر فيهم من قبله ، فلما ولدت فاطمة سماها الله تبارك وتعالى فاطمة لما أخرج منها وجعل في ولدها فقطعهم عما طمعوا ، فبهذا سميت فاطمة لأنها فطمت طمعهم ، ومعنى فطمت : قطعت » .
قال العلامة المجلسي في ذيل هذا الخبر : « قوله « فرقا بينه وبين الأسماء » لعله توهم ( أي عبد الله المحض ) أن هذا الاسم مما لم يسبقها إليه أحد ، فلذا سميت به لئلا يشاركها فيه امرأة ممن مضى ، فأجاب ( عليه السلام ) بأنه كان من الأسماء التي كان يسمون بها قبل .
|