ويستفاد من أحاديث الشيعة وأخبار السنة أن خديجة كانت عالمة بكتب الرواية المعروفة ، وأنها كانت معروفة - من بين نساء قريش - بالعقل والكياسة إضافة إلى كثرة المال والثراء والضياع والعقار والتجارة التي عرفت بها ، وكانت تدعى منذ ذلك الحين بـ « الطاهرة » و « المباركة » و « سيدة النسوان » ، بل إنها كانت ممن ينتظر خروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) ويعد له عدته ، ولطالما سألت « ورقة » وغيره من العلماء عن علائم النبوة .
وكان أول ما طلبته من النبي ( صلى الله عليه وآله ) حينما التقت به الكشف عن خاتم النبوة .
وقد تبين - في الجملة - في حديث حنة أم مريم مدى الجمال والجلال والكمال والإفضال التي كانت لخديجة ( عليها السلام ) .
ولقد كانت خديجة مؤمنة راسخة الإيمان ، ثابتة الجنان ، مستعدة لقبول الإيمان ، وقد روي أنها آمنت بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) في عصر اليوم الذي بعث فيه وصلت معه ، وروى الشيعة أن النبي بعث يوم الاثنين فآمن به علي ( عليه السلام ) نفس ذلك اليوم ، وأظهرت خديجة الإيمان يوم الثلاثاء .
وفي الخبر : إنها أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به .
قال أبو عمرو والحاكم بن عتبة : هي أول من آمن وعلي أول من صلى إلى القبلة .
وفي النهج : وقال علي ( عليه السلام ) : « ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول الله ! ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان قد آيس من عبادتك ; إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ، ولكنك وزيري ، وإنك لعلى خير » .
فصل فيه فضل إن من مفاخر خديجة ( عليها السلام ) ومناقبها المخفية على أغلب الخواص والعوام قبولها ولاية أمير المؤمنين وإمامة أولاده الأمجاد المعصومين ( عليهم السلام ) ، مع أنها لم تكن يومها مكلفة بقبول الولاية ، بمعنى أن هذا التكليف لم يكن فرضا واجبا إلا بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وذلك إنها سمعت - بأذنها - بإمامة الأئمة الطاهرين من أبناءها المعصومين يوم ولادة فاطمة حينما ذكرتهم واحدا بعد واحد ، فعرفت بذلك مقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومنزلته ، وكانت تسعى جاهدة من أجل تنفيذ ما سمعت وإنجازه وإنجاحه ، والأفضل أن نروي هنا حديثا سارا ورد عن طرق الشيعة الإمامية ; لتتضح - لبعض الغافلين - كمال الكمالات التي تمتعت بها خديجة سلام الله عليها .
روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعى خديجة ( عليها السلام ) وقال لها : « إن جبرئيل عندي يقول لك إن للإسلام شروطا وعهودا ومواثيق : الأول : الإقرار بوحدانية الله جل وعلا .
الثاني : الإقرار برسالة الرسول . الثالث : الإقرار بالمعاد والعمل بأحكام هذه الشريعة .
الرابع : إطاعة أولي الأمر والأئمة الطاهرين واحدا بعد واحد ، والبراءة من أعدائهم ، فصدقت خديجة بهم واحد بعد واحد وآمنت بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) فأشار إلى علي ثم قال : « يا خديجة ! هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي » .
ثم أخذ العهد منهما ، ثم وضع علي يده فوق يد رسول الله ، ووضعت خديجة يدها فوق يد علي فبايع لعلي .
وكذا روي عن الصادقين الباقرين ( عليهما السلام ) في حمزة سيد الشهداء : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعاه عشية شهادته في أحد إلى بيعة أمير المؤمنين وأبناءه الغر الميامين من أولهم إلى قائمهم ( عج ) أرواحنا له الفداء ، فقال حمزة : آمنت وصدقت ورضيت بذلك كله ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قد دعا عليا وحمزة وفاطمة في حديث طويل أخرجه السيد ( رحمه الله ) .
وبهذا يتضح معنى قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ما كمل من النساء إلا أربعة أولهن خديجة » لأن تلك المخدرة آمنت بأصول الدين وفروعه وأحكامه واحدة واحدة ، وآمنت بروح الأصول والفروع كلها ، وآمنت بالميزان الذي به تقبل وترد الأعمال والعقائد ، حيث أنها آمنت بإمامة الأئمة ( عليهم السلام ) في وقت لم تك خديجة بعد مكلفة بها ، نظير إيمان فاطمة بنت أسد حينما جلس الرسول ( صلى الله عليه وآله ) على شفير قبرها وقال لها : « ابنك ابنك علي ، لا جعفر ولا عقيل » مع أنها لم تكن مكلفة بعد بقبول الإمامة .
ونظيره ما روي في البحار أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إذا سأل نكير ومنكر في القبر من فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) عن إمامها فإنها تقول : « هذا الجالس على شفير قبري بعلي إمامي : علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) » .
وهذه المقامات خاصة بالأولياء الكاملين من أهل هذا البيت ، حيث تكون الولاية فرض وحتم على فواصلهم ، وإن كانت متأخرة عنهم ; لأنها شرط كمال الإيمان ، وبدونها تكون الشريعة قالبا خاويا لا روح فيه وكلاما فارغا لا معنى له .
ولهذا نزل يوم الغدير - عند تنصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للخلافة - قوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وقوله تعالى : ( فإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) والآيتان تشهدان لنا نحن الشيعة الإمامية . الحاصل : لقد أودع الله في تلك الذات القدسية - يعني ذات خديجة المقدسة ( عليها السلام ) - ودائع نفيسة وذخائر شريفة لم يودعها - في ذلك الزمان - في ايحاءات أخرى من سكان السماوات والأرض ; وأعظم تلك الودائع الجوهر الثمين لولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حيث أنها آمنت وصدقت بها قبل الإعلان عنها وقبل خروجها من القوة إلى الفعل ، وبذلك سبقت خديجة إلى الإيمان بجميع مراتبه ومقاماته وتفصيلاته ، وهذا المستوى من الإيمان الكامل لم يتيسر لعموم الناس ، لأن أمر الإمامة كان مخفيا على أهل ذاك الزمان إلى يوم غدير خم ، حيث رفع عنها الستار بعد نزول قوله تعالى : ( والله يعصمك من الناس ) فبشرت النبي ( صلى الله عليه وآله ) برفع الخوف ودفع أذية القوم ، وعندها صار قوله تعالى : ( فإذا فرغت فانصب ) عليا حكما منجزا .
ويكفي خديجة شرفا أنها عاشت مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) أربعا وعشرين سنة ، فلم يختر عليها امرأة حتى ماتت ، فلما هاجر ( صلى الله عليه وآله ) تزوج في فترة وجيزة عدة زوجات وظل يلهج باسم « خديجة » ويترحم عليها ويستغفر لها ويحترم أرحامها ويقربهم ولم يغفل عن ذكرها أبدا ، وكان يرى في فاطمة حنان أمها وحبها وودها وإحسانها فيلزمها ويحبها ويقبلها ويتذكر فيها أمها .
وفي الخبر أن فاطمة امتنعت يوما عن الطعام وقالت لا آكل حتى اعلم أين أمي خديجة ، فنزل جبرئيل الأمين وقال : إن خديجة في الجنة بين آسية وسارة .
الخلاصة : لقد وفقت خديجة لخدمة ابنتها فاطمة الزهراء ، وتزودت من تلك الروح الغالية مدة خمس سنين ، ثم توفيت في السنة العاشرة من البعثة ، على الرواية المشهورة ، وقارنت وفاتها وفاة أبي طالب ، فسمى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ذاك العام بـ « عام الحزن » ثم هاجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد ثلاث سنوات من وفاتها إلى المدينة المنورة .
وكان عمر خديجة عند وفاتها خمسة وستون عاما - على ما ذكر - وكان عمر فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) عند الهجرة ثمان سنوات حيث بقيت في مكة ثلاث سنين بعد وفاة أمها .
وروى في ذيل قوله تعالى ( ووجدك عائلا فأغنى ) أن الله من على نبيه وأغناه بأموال خديجة ( عليها السلام ) .
وقد وردت الأخبار عن العامة والخاصة في كثرة أموال خديجة ، حتى قال العلامة المجلسي في المجلد السادس من بحار الأنوار أنه « كان لخديجة في كل ناحية عبيد ومواش ، حتى قيل : إن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان » وكانت خديجة أميرة عشيرتها وسيدة قومها ووزيرة صدق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فكانت كأنها الملكة في الحجاز وأطرافها ، لكثرة ما كانت تملكه من المواشي والخدم والحشم والضياع والعقار والأملاك والأموال والتجارة والعبيد والإماء والجواهر الغالية والذهب والفضة ، وقد قدمتها جميعا - وهي في غاية الرضا والإمتنان - إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) خصوصا خلال فترة الحصار في شعب مكة ، حيث استمر ثلاث سنوات منعت قريش القوت والإمداد عن بني هاشم ، فكانت خديجة تغدق عليهم بكل سخاء ، وتنفق على تلك الجماعة من الرجال والنساء من بني هاشم ومن الحراس والحفظة الذين كانوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان الربيع بن العاص صهر خديجة على بنتها يحمل الحنطة والتمر على الإبل ويبعث بها إليهم تحت جنح الظلام ، حتى نفذت ذخائرهم ولم يبق لهم شئ ، وآل أمرهم إلى أن قنعوا بثوب واحد يستر عوراتهم . وهكذا كانت خديجة ( عليها السلام ) مؤمنة حقا ، آمنت بنبي آخر الزمان بالقلب واللسان والمال والجنان .
نعم ; لقد ساوى بذل خديجة ( عليها السلام ) سيف علي ( عليه السلام ) في الإسلام ، وتساويا من قبل في السبق إلى الإسلام ، وفي هذا من الشرف ما يكفي خديجة ( عليها السلام ) ، علاوة على أنها قامت عن بنت كفاطمة ( عليها السلام ) ، وبها تشرفت على نساء العالمين .
وقبل نزول الأجل وحلول زمن الفراق والتوجه إلى العالم الأعلى ظهرت لخديجة الطاهرة من مبدأ المراحم الإلهية الخاصة ، من الألطاف والمراحم ما لا يعد ولا يحصى حتى كانت مسلية لخاطر النبي الرؤوف .
ومنذ البعثة والنبوة لم يقبض عزرائيل وعماله روح أحد له تلك الألطاف المتواترة والأفضال المتكاثرة ، ولم يكن يومها على وجه الأرض امرأة بل حتى رجل بصلابة الإيمان وحسن الإسلام الذي كانت عليه خديجة .
حيث كان في ذلك الزمان أربعة نفر ; رجلان وامرأتان من كل ما أظلته السماء من شيوخ وشبان ورجال ونسوان ، كانوا أركان العالم وقوام الشرع ، أما الرجلان فأمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) وأبوه أبو طالب الذي توفي في عام الحزن ، وأما النساء فخديجة الطاهرة وبنتها فاطمة المطهرة .
والآن انظر إلى ما داخل السيد المختار من فقدان هذين الركنين .
والرواية المشهورة على أن ملائكة الرحمة جاءت بالكفن لخديجة ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) خرج في جنازتها وهو في غاية الحزن ، ونزل في قبرها ووسدها بيده الشريفة في لحدها ، وقبرها المطهر في الحجون من مكة في مقبرة المعلى قبالة قبر آمنة بنت وهب أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد بني على قبرها قبة سنة سبعمائة وسبع وعشرين ، ولا زال أهل مكة يزورون تلك التربة الزاكية والبقعة السامية لإظهار الخلوص والمحبة ، فينشدون الأشعار وينظمون القصائد ويعلقونها هناك ، ويخرجون يوم ولادة الرسول من بيت خديجة إلى مزارها ، يحتفلون ويبتهجون ، وقد أثبتت التجربة أن زيارتها ترفع الهم وتكشف الغم وتدفع المصائب والنوائب الدنيوية والأخروية ، رزقنا الله محبتها ، وثبتنا على مودتها ، وجعلنا من خيار زائريها ، وخاصة مواليهم إن شاء الله تعالى .
لا يخفى : أن هناك اختلافا شديدا في سنة وفاة أبي طالب وخديجة ، وأيهما المتقدم ؟ فقد ذكر صاحب المناقب أن أبا طالب عاش إلى تسع سنين وثمانية شهور بعد النبوة . وروى في كتاب المعرفة : أن خديجة ماتت بعد أبي طالب بثلاثة أيام .
وقيل : مات أبو طالب قبل خديجة بشهر وخمسة أيام .
فلما ماتا ( عليهما السلام ) حزن النبي ( صلى الله عليه وآله ) حزنا شديدا ، وجلس في بيته إلى أن هاجر إلى الطائف فبقي فيها شهرا ثم عاد إلى مكة ، وكان غالبا ما يعتزل في شعب مكة المعروف بمقبرة المعلى ( شعب أبي طالب ) ، ثم أنه أمر جماعة بالهجرة إلى الحبشة . فنزل قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ) ( فإن تولوا فقل حسبي الله ) .
وفي الحديث : اجتمعت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مصيبتان واشتد عليه البلاء ولزم بيته وأقل الخروج . . .
الخ .
هذا ; وقد استطرفت من أشعار خديجة المروية في المجلد السادس من البحار جملة من الأبيات أحببت ذكرها هنا ، ليطلع القراء على أشعارها المليحة الفصيحة ويعرفوا كمالاتها .
قالت ( عليها السلام ) :
ولو أنني أمسيت في كل نعمة * ودامت لي الدنيا وملك الأكاسرة
فما سويت عندي جناح بعوضة * إذا لم تكن عيني بعينك ناظرة
ومنها :
وقى فرمى من قوس حاجبه سهما * تصادفني حتى قتلت به ظلما
وأسفر عن وجه وأسبل شعره * فبات يباهي البدر في ليلة ظلما
ومنها : جاء الحبيب الذي أهواه من سفر * والشمس قد أثرت في وجهه أثرا
عجبت للشمس من تقبيل وجنته * والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا
وكانت أشعار خديجة بأجمعها في مدح سيد الأنام والتعبير عن حبها وأشواقها ، بل كانت تحكي عشقها له كما في الأبيات الآتية :
قلب المحب إلى الأحباب مجذوب * وجسمه بلهيب النار ملهوب
وقائل كيف طعم الحب قلت له * الحب عذب ولكن فيه تعذيب
كأنما يوسف في كل راحلة * والحي في كل بيت فيه يعقوب
ومنها :
نطق البعير بفضل أحمد مخبرا * هذا الذي شرفت به أم القرى
هذا محمد خير مبعوث أتى * فهو الشفيع وخير من وطأ الثرى
يا حاسديه تمزقوا من غيظكم * فهو الحبيب وما سواه في الورى
ومنها :
ألذ حياتي وصلكم ولقاؤكم * ولست ألذ العيش حتى أراكم
على الرأس والعينين جملة سعيكم * فمن ذا الذي في فعلكم قد عصاكم
وما غيركم في الحب يسكن مهجتي * فإن شئتم تفتيش قلبي فهاكم
ومنها :
كم أستر الوجد والأجفان تهتكه * وأطلق الشوق والأعضاء تمسكه
جفاني القلب لما أن تملكه * غيري فوا أسفا لو كنت املكه
|