وفي هذا المضمار اتخذ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) خطوات عدّة لتثبيت هذا الهدف الرسالي العظيم, ومن تلك الخطوات حسب المعطيات العملية في سيرة أهل البيت(عليهم السلام) ما يلي:
1ـ القرآن مصدر الإلهام الفكري للمسلمين
تقوم نظرية الإمامة في الفكر الشيعي على ثنائية القرآن والعترة في ترشيد الحياة الدينية والإنسانية للمسلمين وحثّها باتجاه الأهداف الإلهية العليا, إلاّ أنّ هذا لا يتمّ بحسب نهج مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) إلاّ بعد تثبيت الأساس القرآني المحكم في التفكير والسلوك العملي للمسلمين.
إنّ التركيز على مرجعية القرآن المطلقة للفكر الإسلامي وجعله المحور والمعيار في المعرفة والسلوك العامين للمسلمين هو من أهم أولويات دور الأئمة المعصومين(عليهم السلام), إذ قد عمدوا على تطبيق ثقافة القرآن الكريم بوصفه مصدر الإلهام الفكري الذي يستقي منه المسلمون الأصول الفكرية والتشريعية في العقيدة والسلوك.
وهذا ما نراه في أقوال أهل البيت(عليهم السلام) وأفعالهم, يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): عليكم بكتاب الله, فإنّه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع، والعصمة للمتمسّك, والنجاة للمتعلّق، لا يعوّج فيقام، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الردّ وولوج السمع, من قال به صدق، ومن عمل به سبق (8).
قال الإمام علي(عليه السلام): وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه(9).
2ـ التثقيف المباشر على كتاب الله
وتأكيداً للهدف الأول الذي حقّقه أهل البيت(عليهم السلام) ولو على المستوى التبليغي في تثبيت مرجعية القرآن الكريم, فانّهم(عليهم السلام) مارسوا تثقيف الأمّة المباشر على كتاب الله وتثبيت الأصل القرآني في الوعي العامّ من خلال الاستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة, سواء في المجال التشريعي في عملية استنباط الأحكام الشرعية؛ إذ قد لعب الأئمة الأطهار دوراً مهمّاً في تعليم شيعتهم كيفية استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم والاستدلال لها بالآيات الشريفة، كما في معتبرة معاوية بن عمار قال: سألت: أبا عبد الله (عليه السلام) عن طائر أهلي أدخل الحرم حيا، فقال: لا يمس لان الله تعالى يقول: {ومن دخله كان آمنا}(10) . أو في المجال العقائدي والكلامي في تأصيل وتثبيت العقائد الإسلامية وتكوين المعرفة الدينية بشكل عام.
قال الإمام الرضا (عليه السلام): إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره، فقال: {إني جاعلك للناس إماما} فقال الخليل عليه السلام سرورا بها: {ومن ذريتي} قال الله تبارك وتعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}. فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة(11) .
إنّ من راجع تاريخ آل البيت(عليهم السلام) ومجالس الأئمّة في حلقات العلم أو الوعظ والإرشاد والتوجيه, أو جلساتهم مع أصحابهم يجد صورة تعلّق أهل البيت(عليهم السلام) بالقرآن الكريم وشدّة تعظيمهم له وحث الناس على التمسك به؛ إذ كانت تلك الحلقات والمجالس لا تخلو من تفسير آية أو تأويل نصّ في القرآن. قال الإمام الصادق (عليه السلام): كان في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لأصحابه: اعلموا أن القرآن هدى الليل والنهار ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة(12).
كما أنّ كثيراً من الاعتراضات التي يوجهها البعض على فتاوى أهل البيت(عليهم السلام), أو تبنّيهم لفكرة أو نهج ما في مواقفهم وآرائهم كانت تحلّ عبر الرجوع لكتاب الله وذكر الدليل القرآني والآية التي تدل على ذلك.
روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): لقد تجلى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون(13) .
نموذج من دفاع أهل البيت(عليهم السلام) عن القرآن
من الأدوار المهمّة والخطيرة التي مارسها أهل البيت(عليهم السلام) لأجل تثبيت مرجعية القرآن الكريم في حياة المسلمين, هي الدفاع عن حريم القرآن الكريم والتصدّي للشبهات والتشكيكات التي تصدرها التيارات الفكرية والعلمية آنذاك.
ومن الحقائق التي رسخها أهل البيت(عليهم السلام) في الوعي الإسلامي مسألة مصونية القرآن من التحريف والزيادة والنقصان, وأنّ يد التحريف والتزييف لا يمكن أن تطال القرآن؛ لأنّه المعجزة الإلهية الخالدة لهداية البشرية. كما وأوضحوا أنّ القرآن الكريم خالٍ من الأخطاء والتناقض والتضاد في مضامين آياته الشريفة، ممّا أسّسوا بذلك لنهج واضح ورصين في تأصيل السلامة والمصونية الدينية والفكرية للقرآن الكريم.
والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1- ما ذكرناه سابقا من دلالة حديث الثقلين، حيث أن الأمر بالتمسك بالقرآن فرع وجود القرآن بين المتمسكين.
2- أخبار العرض، قال الإمام الصادق(عليه السلام): ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف(14) .
حيث يقول الشيخ السبحاني: إن الإمعان في مجموع روايات العرض يثبت أن الشرط اللازم هو عدم المخالفة، وعدمها إلا إذا كان المقيس (القرآن) بعامة سوره وأجزائه موجوداً عندنا وإلا فيمكن أن يكون الخبر مخالفاً لما سقط وحرّف(15) .
وكنموذج لذلك نورد في المقام الدور الكبير والمهم للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) في تأصيل المنهج القرآني في حياة المسلمين, فقد قام(عليه السلام) بتفسير القرآن الكريم وبيان المعارف والعلوم القرآنية وذلك بتناوله جزءاً كبيراً من آيات سورة البقرة، وهي المجموعة اليوم في الكتاب المعروف باسم تفسير الإمام العسكري، رغم الاختلاف الموجود في تحقيق هذه النسبة، إلاّ أنّ المتداول والمعروف أنّ العلماء قد تناقلوا هذا التفسير واعتمدوا عليه في إيضاح بعض الآيات. ففي هذا السياق عمل الإمام على إبطال الشبهات التي رُوّج لها في عصره في قضية إثبات الانسجام والسلامة في القرآن الكريم, وذلك من خلال إبطال التناقض والتضاد بين الآيات الشريفة, وأنّ القرآن ينتهي إلى أصول تشريعية. فالقرآن بعد إثبات صدوره من الله تعالى, وعصمة النبي (صلى الله عليه وآله) بتلقّيه للوحي وإبلاغه للناس, لا يمكن التشكيك في صحة مضامينه.
ويبقى دور مهم آخر, وهو إعطاء الأجوبة العلمية المقنعة إزاء التساؤلات والشبهات التي تثار حول الآيات القرآنية أو المفاهيم العلمية والتشريعية التي يتعرّض لها القرآن الكريم, ممّا يعني القيام بعملية التفسير والتأويل والإيضاح لمعاني الآيات الشريفة, ومثل هذا الدور لا يمكن لأحد أن يقوم به بصورة جيدة وسليمة غير العالمين بتفسيره والراسخين بتأويله وحقائقه, فهم ورثة علم النبي الأكرم في فهم القرآن ومعرفة ما تؤول إليه آياته وأحكامه المقدّسة.
وفي هذا المجال ينقل لنا التاريخ أسلوب الإمام الهادف والهادئ في معالجة موجة التشكيك التي أطلقها الفيلسوف العربي الكندي الذي كان معاصراً للإمام, فقد روى المؤرخون أنّ إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه, وقد أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك حتى تفرّد في منزله لأجل ذلك. وذات يوم دخل على الإمام الحسن العسكري بعض تلامذة الكندي، فقال له أبو محمد(عليه السلام): أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله في القرآن؟! فقال التلميذ: نحن من تلامذته, فكيف يجوز لنا الاعتراض عليه؟ فقال له أبو محمد: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم. قال: فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله, فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها, فإنّه يستدعي ذلك منك, فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننت أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز؛ لأنّه رجل يفهم إذا سمع. فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه, فيكون واضعاً لغير معانيه.
فصار الرجل إلى الكندي وتلطّف معه إلى أن ألقى عليه هذه المسألة, فقال له: أعد عليَّ، فأعاد عليه, فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر, فقال: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلا, ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة, فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد, فقال: الآن جئت به, وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت، ثم إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه(16) .
ــــــــــــــــــ
1 . أصول التفسير والتأويل، ص172.
2 مسند أحمد3: 14.
3 . الميزان، ج3، ص86-87.
4 . الرعد: 43.
5 . شواهد التنزيل 1: 400.
6 . كتاب الغيبة للشيخ النعماني: ص 51.
7 . نفس المصدر: ص 57.
8 نهج البلاغة (شرح محمد عبده) 2 : 48.
9 . نهج البلاغة، الخطبة 132.
10 . وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب كفارات الصيد، باب12، ح11.
11 . الكافي، ج1، ص198، ح1.
12 . الكافي، ج2، ص600، ح6.
13 . التفسير الصافي (الفيض الكاشاني) 1 : 73.
14 . الوسائل، ج18، ب9 من أبواب صفات القاضي ح 12.
15 . المناهج التفسيرية، ص206.
16 . المناقب لابن شهر آشوب 3: 526.
|