شهر رمضان
أعزائي! إنّ شهر رمضان على الأبواب، وبعد أيام قلائل سيجلس المؤمنون ـ من لهم الجدارة لذلك ـ على مائدة الضيافة الإلهية، والصيام بحد ذاته والتوجه إلى الله تعالى والأذكار والأدعية التي غالباً ما تستهوي الأفئدة وتجتذبها في هذا الشهر جزء من الضيافة الإلهية، فاغتنموا هذه المائدة بأقصى مداها وأعدوا أنفسكم. فشهرا رجب وشعبان شهراً تأهب قلب الإنسان لدخول شهر رمضان، ولم يبق من شهر شعبان إلا أيام معدوات، فيا أعزائي! ويا أبنائي! أيها الشباب الأعزاء! اغتنموا هذه الأيام القلائل. سلوا الله تعالى، ويمموا قلوبكم النقية نحوه وكلموه. وليس من لغة خاصة للحديث مع الله جل وعلا، غير أن أئمتنا المعصومين الذين ارتقوا مراتب القرب إلى الله واحدة تلو الأخرى قد كلّموا الله بألسنة متميزة وعلّمونا سبيل التكلم معه الله سبحانه، وهذه المناجاة الشعبانية والأدعية الواردة في شهري رجب وشعبان بمضامينها الراقية، وهذه المعارف الرقيقة والنورانية والتعبير الرائعة الإعجازية، هذه كلها وسيلة لنا لغرض الدعاء. وإنني أدعوكم جميعاً أيها الأعزاء إلى التوجه خلال هذه الأيام نحو الدعاء والصلاة، والإقبال على الصيام، واغتنام أيام شهر رمضان ولياليه(13).
بناء الذات أعظم درس في شهر رمضان
لعل من أفضل النعم الإلهية أن يوفقنا الله جميعاً للمحافظة على أسباب الرحمة الإلهية في أنفسنا حتى شهر رمضان القادام. والرحمة الإلهية التي تتنزل في شهر رمضان المبارك إنما منشؤها الأعمال الحسنة التي حالفكم التوفيق لأدائها في هذا الشهر المبارك. ففي شهر رمضان يكون التوجه نحو الله سبحانه والإحسان للفقراء وصلة الرحم ومداراة الضعفاء والطهارة والورع، وفيه استرضاء من نأيتم عنهم والنصف لمن عاديتم. إنه شهر الرأفة والتوجه إلى الله، إذ ترقّ فيه القلوب وتستنير النفوس بنور الله وفضله ورحمته، ويبلغ الإنسان التوفيق لأداء الأعمال الحسنة، فواظبوا على ذلك حتى العام المقبل، ولنستلهم الدرس من شهر رمضان لمدة سنة كاملة، وهذا هو الجزاء الإلهي الأكبر، حيث يمن علينا بمثل هذا التوفيق، فلنطلب من الله الرضا ولارحمة والقبول والعفو والعافية، فإن ذلك هو العيد الحقيقي.
ما أود قوله.. هو أن أعظم درس في شهر رمضان هو بناء الذات، والخطوة الأولى والمهمة في طريق بناء الذات هي أن ينظر المرء إلى نفسه وأخلاقه وسلوكه نظرة انتقاد فيرى عيوبه بدقة ووضوح، ثم يسعى للخلاص منها؛ وهذا أمر يمكننا إنجازه، فهو تكليف ملقى على عواتقنا.
تراحموا فيما بينكم كي يرحمكم الله، وعلى من كانت أيديهم مبسوطة أن لا يمدوها عدواناً على مصالح وثروات الآخرين، ولا يستغلنّ من توفرت لديهم الفطنة والذكاء والإمكانيات والقوة والمسؤولية وشتى القدرات.. للعدوان على من سواهم. لنجعل من أنفسنا عبيداً لله مكلفين بمداراة عباد الله والإحسان إليهم، والبرّ بهم والتزام الإنصاف إزاءهم، وحينها سيغمرنا الباري بوابل رحمته وفضله فيطهرنا، وتنهمر علينا مواهبه، وهذا ـ بطبيعة الحال ـ تكليفنا جميعاً، بيد أن مسؤولية أصحاب القدرة والمنصب والثروة وذوي الكلمة النافذة بين الناس تفوق من سواهم في قبال هذا العبء الثقيل، عبء بناء النفس وكبح جماح الشهوات عن التعدي على الآخرين(14).
عيد الفطر والجهاد الأكبر
عيد الفطر هو اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن ينتهج صراط الله المستقيم ويعرض عن الطرق الأخرى التي تؤدي إلى الضلال، وذلك بالاستعانة بما حققه من المكاسب في شهر رمضان.
لقد انصبت همة الأنبياء والأولياء والصالحين والصديقين وتضافرت جهودهم في سبيل أن يعرف الإنسان حقيقة نفسه الأمارة بالسوء، فيتقي شرها. وهذا السر الكبير في وصول الإنسان إلى المراتب المعنوية والإلهية السامية، ووصوله إلى درجات القرب الرفيعة.
إنّ الذين اجتازوا هذا الشهر المبارك بنجاح واستفادوا من الضيافة الإلهية ومن المائدة الربانية المبسوطة، لاشك في أنهم حصلوا على الزاد وعادوا بحصيلة كبيرة في شهر رمضان، فلنسع جميعاً ـ ومنذ اليوم ـ لنخلص أنفسنا من عيوبها، وبالاستعانة بتلك الحصيلة وذلك الزاد الذي خرجنا به من شهر رمضان.
إنّ تحقيق ذلك ليس متعذراً، بل هو بمقدورنا وتحت إرادتنا: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ أي أن المجاهدة بالدرجة الأولى تعود بالمنفعة علينا. فلنكتشف الصفات والطبائع السيئة والقبيحة الكامنة في أنفسنا؛ وبالطبع فإن هذا العمل ليس سهلاً، بل هو صعب مستصعب.
ففيما يتعلق بذواتنا، ينبغي أن لا نصاب بالعجب والزهو. علينا أن نشخص عيوبنا ونستحضرها دائماً في أذهاننا، ونسعى للتخلص منها بما تزودنا به في شهر رمضان من رقة قلب، وإرادة، وصفاء نية، وإخلاص، وطاعات مقبولة.. لنبدأ انطلاقة جديدة نحو الله تعالى.
واعلموا أن الله يأخذ بيد كل من يجاهد في هذا الطريق، وأنه عزّ شأنه سوف لن يترككم وحدكم في مسيرتكم الجهادية نحو الكمال.
وبالطبع فإنكم ستكونون أول من يقطف الثمار الجنية لمجاهدتكم هذه، ولكن المنافع المترتبة على عملية إصلاح النفس ومجاهدتها في سبيل الله ـ والتي تدعى بالجهاد الأكبر ـ لن تنحصر بكم، وإنما ستعمّ خيراتها وبركاتها المجتمع، والدولة، والناس، وتؤثر إيجابياً على الأوضاع السياسية ومجريات الأمور، وتورث العزة على النطاق العالمي، وتزيد الناس تألقاً وشموخاً، وتحسن أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية وبالتالي تصلح دنياهم وآخرتهم(15).
الصوم نعمة إلهية
قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾. تتحدث الآية الشريفة عن مسألة الصوم، وأن هذه الفريضة الإلهية كُتبت أيضاً على الأمم التي سبقت الأمة الإسلامية. هذا الصوم الذي نتحدث عنه بصفته تكليفاً إلهياً، يعتبر في الحقيقة نعمة إلهية وفرصة ثمينة جداً لمن يوفقون للصوم، وهو لا يخلو من المصاعب طبعاً، بل إن جميع الأعمال المباركة والمفيدة لا تخلو من المصاعب؛ والإنسان بدون تحمل المصاعب لا يصل إلى الغاية المنشودة. وهذا القدر من المصاعب التي تواجه الإنسان أثناء الصيام لا تكاد تمثل شيئاً ذا بال في مقابل ما يعود عليه بالنفع؛ وذلك لأنه ينفق القليل ويحصل على الكثير.
ذكروا للصوم ثلاث مراتب وكلها مفيدة لمن هم أهل لها.. الأولى منها هي مرتبة الصوم العام بما يعنيه من الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات. ولو كان الصوم لا يعني إلا الإمساك عن هذه الأمور، لكانت فيه منافع كثيرة؛ لأنه بمثابة تعليم لنا، ولنا فيه درس وتمرين وممارسة واختبار، وهو بمثابة رياضة تفوق في فائدتها الرياضة الجسمية. وقد وردت عن الأئمة عليهم السلام روايات تتحدث عن هذه المرتبة عن الصيام.
فهناك رواية منقولة عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام يعلل فيها الصوم بقوله: «ليستوي به الغني والفقير»؛ على اعتبار أن الفقير لا يستطيع الحصول على كل ما تشتهيه نفسه من الأطعمة والأشربة طوال اليوم، بينما الغني يستطيع الحصول على كل ما لذّ وطاب. ومن الطبيعي أن الغني لا يدرك حالة الفقير وعدم قدرته على توفير كل ما تشتهيه نفسه. أما عند الصوم فيصبح وإياه على حد سواء ويتحرر كلاهما من المشتهيات النفسية باختيارهما.
ووردت عن الإمام الرضا (عليه السلام) رواية أخرى يشير فيها إلى نكتة أخرى، حيث يقول: «لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة»؛ إذ أن من جملة الابتلاءات التي يواجهها الإنسان في يوم القيامة هي الجوع والعطش. وهكذا يجب عليه مكابدة جوع وعطش شهر رمضان ليعرف حالة يوم القيامة ويتنبه إلى صعوبة تلك اللحظة العسيرة.
وهناك أيضاً رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) تعنى ببعد آخر من أبعاد الصيام وهو بعد الجوع والعطش، يقول (عليه السلام) فيها: «صابراً لما أصابه من الجوع والعطش»؛ أي أن الصوم يمنح الإنسان القدرة على الصبر على تحمل الجوع والعطش. فالأشخاص الذين يتربون في ظل حياة مترفة لا يذوقون فيها الجوع والعطش ليس لديهم قدرة على الصبر والتحمل، ويهزمون سريعاً في الكثير من الميادين، وتسحقهم عجلة الحياة وشدائدها وتجاربها بكل سهولة؛ أما الإنسان الذي ذاق طعم الجوع والعطش فهو يعرف معنى هذه الأمور ويتحلى بالقدرة على تحمل الشدائد التي قد تعرض له عن هذا الطريق. وشهر رمضان يمنح الجميع هذا الصبر وهذه القدرة على التحمل.
|