بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم بقائمهم
الثالث بُرهانُ حدوث المادة
إنَّ الأُصول العلمية أَثبَتَتْ نفاد الطاقات الموجودة في الكون باستمرار ، و تَوَجُّهَها إلى درجة تنطفئُ معها شعلةُ الحياة و تنتهي بسببه فعالياتُها و نشاطاتُها (1). و هذا (نفاد الطاقات وانتهاؤها) يدل على أَنَّ وصفَ الوجود و التَّحقّق للمادة ليس أَمراً ذاتياً لها ، إذ لو كان الوجود و التحقُّق أَمراً ذاتياً لها ، لزم أَنْ لا يفارقها أَزلا و أَبداً ، فنفادها و زوال هذا الوصف عنها خيرُ دليل على أَنَّ الوجودَ أَمرٌ عرضي للمادة ، غيرُ نابع من صميم ذاتها. و يلزم من ذلك أَنْ
1 ـ أثبت العلم بكل وضوح أَنَّ هناك انتقالا حرارياً مستمراً من الأَجسام الحارة إِلى الأَجسام الباردة و لا يمكن أَنْ يَحْدُثَ العكسُ بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارةُ فترتَدُّ من الأَجسام الباردة إلى الأَجسامِ الحَارة. و معنى ذلك أنَّ الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأَجسام و يَنْضُبُ فيها مَعينُ الطاقة. و يومئذ لن تكون هنالك عملياتٌ كيميائية أو طبيعيةٌ ، ولن يكون هنالك أَثَر للحياة نفسِها في هذا الكون. و لما كانت الحياة لا تزال قائمة ، و لا تزال العمليات الكيميائية و الطبيعية تسير في طريقها ، فإننا نستطيع أَنْ نستنتج أَنَّ هذا الكون لا يمكن أَنْ يكون أَزلياً و إِلا لاستهلك طاقاته منذ زمن بعيد و توقف كلّ نشاط في الوجود. و هكذا توصَّلت العلومُ دونَ قصد إلى أَنَّ لهذا الكونِ بِدايةٌ.
و باختصار : إِنَّ قوانى الدّيناميكا الحرارية تدلّ على أنَّ مكوناتِ هذا الكونِ تفقد حرارتها تدريجياً و أنَّها سائرةٌ حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الإِنخفاض هي الصّفر المطلق. و يومئذ تنعدمُ الطاقة و تستحيلُ الحياة.
يكونَ لوجودها بدايةٌ ، لأنَّ لازمَ عدمِ البداية كونُ هذا الوصفِ أَمراً ذاتياً لها كما هو شَأْنُ كُلِّ ذاتيٍّ ، و لو كان ذاتياً لها لوجب أَنْ لا يكون لها نهاية ، مع أَنَّ العلم أثبتَ لها هذه النهاية.
و بعبارة أخرى : إِنَّ الوجودَ للمادة المتحولةِ إِلى الطّاقة ليس أَمراً ذاتياً لها ، و إِلاَّ لوجب أَنْ لا يفارقَها أبداً و أَنْ لا تسير المادة إِلى الفناءِ و انعدام الحياة و الفعالية ، و الحال أَنَّ العلوم الطبيعية اعترفت بأنَّ المادة سينتهي سلطانُها و تفنى قوَّتُها و طاقاتها و تموت و تبرد. فالمفارقة في جانب النهاية دليل على عدم كونِ الوجود ذاتياً للمادة ، و كونُه غيرَ ذاتيٍّ يلازم أَنْ يكونَ لها بداية ، و هذا هو ما نقصده من حدوث المادَّة.
إلى هنا تمَّ بيان البراهين الثلاثة ، و بقيت هناك براهين أُخَر طرحها العلماءُ في الكتب الكلامية نشير إِلى عناوينها :
1 ـ برهان الحركة الذي أَبدعه الحكيم أَرسطو و أَكمله الفيلسوف الإِلهي البارع « صدر المتألهين » و هو من أَشرف البراهين و أَتقنها.
2 ـ برهان الصديقين و قد ذكره الشيخ الرئيس في (الإِشارات). (1)
3 ـ برهان الوجوب.
4 ـ البرهان الأَسدّ الأَخْصَر.
5 ـ برهان الترتّب. (2)
1 ـ الإِشارات ج 3 ، ص 18.
2 ـ لاحظ تجريد الإِعتقاد ، ص 67. و الأَسفار ، ج 6 ، ص 36 ـ 37. و أيضاً ج 2 ، ص 165 و 166. فمن أَراد الوقوف على هذه البراهين فعليه المراجعة إلى ما ذكرنا من المصادر.
بقيت هنا نكاتٌ يجب التنبيهُ عليها :
الأُولى ـ العلة عند الإِلهي و العلة عند المادي.
إِنَّ كُلاًّ من الإِلهي و المادي يستعمل كلمة العلّة و كلٌّ يريد منه معنى مُغَايراً لما يريدُه الآخر.
فالعلّة عند الإِلهي هي مفيضُ الوجودِ على الاشياءِ و مُخرِجُها من العدم ، و مصيِّرها موجودةً بعد أَنْ كانت معدومة ـ فعند ذلك يكون المعلولُ بمادته و صورته و بجميع شؤونه منوطاً بها ، فالعلة هي التي تعطي المادة وجودها و صورتها و كل شؤونها و هي التي ـ بالتالي ـ تخرجها من ظلمة العدم إلى حيّز التحقّق.
و للتوضيح نمثل لذلك بالصور الذهنية و النفسِ الإِنسانية. إِنَّ النفسَ تُوجِد الصورَ في الذهن و تُكَوِّنُها فيه. نعم ، النفسُ تستعين في خلقها لبعض الصور بأَمثلة خارجية محسوسة ولكنها قد تخلق أَحياناً صوراً في الذهن لا مثيل لها في الخارج كالمفاهيم الكليّة مثل مفهومي الإِنسان و الإِمكان.
و على ذلك فالعلّة التي يقصدها الإِلهي هي ذلك. و بالتالي إنَّ الخالق خَلَقَ المادة و أَفاض عليها صُوَرَها و أَحاطها بشبكة من النظام البديع الذي لم يكن قبل ذلك قط.
و أَما العلةُ عند المادي فهي المُوجِد للحركة و التفاعلات في المادة ، كالنجار الّذي يجمع الأخشاب من هنا و هناك و يضم بعضها إلى بعض بنحو خاص فتصيرُ علىهيئة الكرسي ، أو كالبنّاء الذي يجمع الأحجَار و الطين من هنا و هناك و يرتِّبُها بهندسة خاصة فتصير جداراً و بناءً ، أو كالنَّار التي توجب غليان الماء و تُحَوِّلُه إلى بخار.
و ربما يتوسع الماديّ في استعمال كلمة العلّة فيطلقُها على نفس المادة المتحولة إِلى مادة أخرى كالحطب إلى الرماد ، و الوَقود إلى الطاقة ،
و الكهرباء إلى الضوء و الصوت و الحرارة.
فبذلك عُلِمَ أَنَّ بين المصطلحين بوْناً شاسعاً ، فأَين العلة التي يستعملها الإِلهي في مفيض الوجود بمادته و صورته ، من العلة التي يستعملها المادي في موجد الحركة في المادة أَو في المادة القابلة للتحول إِلى شيء آخر!!.
والذي دعى المادي إلى تفسير العلَّة بهذا المعنى هو اعتقادُه بِقدَمِها و قِدَمِ الطاقاتِ الموجودة فيها و غناها عن مُوجِدِها. و هذا بخلاف الأِلهي المعتقد لحدوث المادة و سَبْقِها بالعدَم ، فلها علّة فاعلية مخرجة لها من العدم إِلى الوجود.
و إِلى ذينك الإِصطلاحين أَشارَ الحكيم الإِلهي السبزواري بقوله : معطي الوجود في الإِلهي فاعل معطي التحرك الطبيعي قائل نعم ربما يستعمل الإِلهي لفظة العلّة في معطي الحركة و مُوجِدِها و إِنْ لم يُوجِد المادةَ و صورتَها ، فيقول : إِنَّ النجارَّ علةٌ للسرير ، و النارَ للإِحراق ، توسعاً في الإِصطلاح.
و إلى ما ذكرنا يشير قوله سبحانه : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَ ـ الِقُونَ * ... أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * ... أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِ ؤُونَ ) (1).
و لا شك أنَّ للإِنسان دوراً في تكوُّن الإنسان و الزرعِ و الشجرِ ، ولله سبحانه أيضاً دوراً. ولكنَّ دورَ الإِنسان لا يتجاوز كونَه فاعلا بالحركة حيث
1 ـ سورة الواقعة : الآيات 58 ، 59 ، 63 ، 64 ، 71 ، 72.
يلقي النطفة في الرحم و ينثر البذور في الأرض و يغرس الأشجار و يُجْري الماء عليها ، فأين هو من إفاضة الوجودِ على الإِنسان و الزرع.. و الشجرة ، مادة و صورة.
الثانية : إِنَّ في الكتاب الكريم نصوصاً على حدوثِ الكون أَرضاً و سماءً و ما بينهما و ما فيهما.
و الآيات في هذا الشأن كثيرة نشير إلى القليل منها.
قال سبحانه : ( أَنَّى يَكُونُ لَهُو وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء ) (1).
و قال سبحانه : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ ... ) (2). فصرَّح في الآية الأُولى بِخَلْقِ كُلِّ شيء. و في الآية الثانية بخلق السماء و الأرض ، ولكن صرَّحَ في الآيتين التاليتين بخلق كلِّ دابة و نفس الإِنسان.
قال سبحانه : ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ) (3).
و قال سبحانه : ( هَلْ أَتى على الإِنْسانِ حِينٌ من الَّدَهْرِ لم يَكُنْ شَيْئاً مذكوراً ) (4). إِلى غير ذلك من الآيات.
حدوثُ الكون في الأَحاديث
قال الإِمامُ أَمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب ( عليه السَّلام )في خطبة له : « الحمد لله الدالِّ على وجودِه بخَلْقِهِ ، و بمُحْدَثِ خَلْقِه على
1 ـ سورة الأنعام : الآية 101.
2 ـ سورة الطلاق : الآية 12.
3 ـ سورة النور : الآية 45.
4 ـ سورة الدهر : الآية 1.
أَزَلِيَّتهِ » (1).
و قال ( عليه السَّلام )أيضاً :
« الحمد لله الواحدِ الأَحدِ الصَّمدِ المتفردِ الذي لا مِنْ شيء كَانَ ، و لا منْ شَيء خَلَقَ ما كَانَ » (2).
و قال ( عليه السَّلام ) : « لم يَخْلُقِ الأَشياءَ مِنْ أصول أَزلية ، ولا مِنْ أوائلَ كَانَتْ قَبْلَه أَبَدِيَّةٌ ، بَلْ خَلَقَ ما خَلَقَهُ وَ أَتقن خَلْقَه ، وَ صَوَّرما صَوَّر فأَحْسَنَ صورَتَه » (3).
وقال ( عليه السَّلام ) : « لا يجري عليه السّكونُ والحركةُ ، وكيفَ يَجْري عَلَيْهِ ما هُو أَجراه ويَعُودُ فيه ما هو أَبداهُ ويحدُثُ فيه ما هو أَحْدَثَه » (4).
و قال الإِمام الحسن بن علي ( عليه السَّلام ) :
« خَلَقَ الخَلْقَ فكان بديئاً بديعاً ، إبتدأَ ما ابتَدَعَ ، و ابتَدَعَ ما ابتَدَأَ » (5).
إِلى هنا تمَّ البحث عن أَدلة وجود الصّانع و براهينه اللامعة ، فحانَ حَيْنُ البحث عن أَسمائه و صفاته و أَفعاله بفضل منه تعالى.
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 152.
2 ـ التوحيد للصدوق ، ص 41.
3. نهج البلاغة ، الخطبة 163.
4 ـ نهج البلاغة : الخطبة 186 .
5 ـ التوحيد للصّدوق ، ص 46 ، الحديث 5.
الالهيات الشيخ السبحاني