قوله: كان المسلمون على مستوى الشورى الحقيقية (1)؟
المسألة السادسة
قوله: كان المسلمون على مستوى الشورى الحقيقية (1)؟
فأقول لحضرة الدكتور:
دعنا نستعرض الأحداث التاريخية للشورى الحقيقية التي بلغت أرقى مستوياتها من وجهة نظرك..!
ودعنا نستعرض كيف تمت هذه الشورى..؟
كلنا نعلم أن الخليفة عمر فكر في طريقة ابتكار مسألة الشورى المخالفة لصاحبه أبي بكر (رض) الذي تم أمره من غير شورى، فقال قولته المشهورة:
إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المؤمنين شرها ومن عاد إليها فاقتلوه (2)، فحاول الخليفة الثاني بأن لا تكون بيعته فلتة، مثلما كانت بيعة صاحبه فلتة، فابتكر هذه المسألة (أعني الشورى) للتغطية على مواقفه السابقة مع صاحبه، والدفاع عنه في كل المواقف حتى آلت إليه الخلافة وهذا ما يذكرني بقول علي (عليه السلام) عندما أخرجوه قهرا من بيته إلى سقيفة بني ساعدة، فقال عمر لعلي (عليه السلام): بايع أبا بكر - إنك لست متروكا حتى تبايع.
فقال له علي: احلب يا عمر حلبا لك شطره، أشدد له اليوم أمره لترد عليك غدا.. وحقا ما قال الإمام (عليه السلام) لقد تحقق وفاز عمر بالخلافة بتعيين من صاحبه.
____________
(1) المحاضرة بتاريخ 2 / 15 / 1995.
(2) صحيح البخاري ج 8 ص 540 كتاب الحجازيين من أهل الكفر.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 61
--------------------------------------------------------------------------------
فأقول: لماذا الخليفة أبي بكر (رض) قد عين خليفة من بعده، ونص عليه كتابة حيث أن الكاتب هو عثمان بخط يده، فكل هذه المؤشرات دليل حرص الخليفة الأول على التعيين، ودليل حرصه على مصالح الأمة الإسلامية، لا يريد أن يترك الأمة من بعده هملا..؟ فالخليفة الأول كان همه أكثر من هم رسول الله على الأمة..؟
أو لم يفكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان يفكر أبو بكر..؟
حقا إن هذا الأمر لعجيب! ويحتاج منا أن ندقق ونبذل الجهد للوصول إلى كشف الحقائق التي تنطلي على كثيرين من أبناء الأمة الإسلامية الذين يتخبطون في غياهب الظلمات، فكانوا ضحية إعلام تاريخي قد سقط وانتهى... فآن الأوان أن نستيقظ من هذا السبات العميق، ونتخلى عن رواسب الماضي، ونحطم تلك الحواجز المصطنعة التي وضعها بنو أمية، لتضليل طائفة من المسلمين تحمل أفكارا وهمية لا حجة فيها ولا سند.
كيف تمت هذه الشورى..؟
عندما استولى الخليفة الثاني (رض) على الخلافة... وتربع على عرشها فترة من الزمن فقد جاءت الأقدار بطعن الخليفة عمر فمرض.. فقيل له وهو في مرضه: ماذا تستخلف من بعدك..؟
فقال: لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت:
نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة.
ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته (1).
أقول: بالله عليكم ما دام الخليفة عمر قد عين ونص على الخليفة من بعده، فأين نحن من مسألة الشورى التي ننادي بها.. حتى ملأت هتافاتنا كل بيت فأصبحت حديث الساعة.
لو أن الخليفة لم يقل هذا... فلربما اقتنعنا بمسألة الشورى.
ولكن علاوة على ذلك.. قال: ادعوا له ستا.
____________
(1) العقد الفريد: لابن عبد ربه 5 / 275 أوردناه ملخصا.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 62
--------------------------------------------------------------------------------
فاجتمع الستة وهم:
1 - عثمان بن عفان.
2 - علي بن أبي طالب.
3 - عبد الرحمن بن عوف.
4 - سعد بن أبي وقاص.
5 - الزبير بن العوام.
6 - طلحة بن عبيد الله.
فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، أي:
ليبايع كل واحد فيكم واحدا آخر فجعل كل من الثلاثة أمرهم إلى الثلاثة الباقين. كالتالي:
1 - الزبير بن العوام إلى 4 - علي بن أبي طالب
2 - طلحة بن عبد الله إلى 5 - عثمان بن عفان
3 - سعد بن أبي وقاص إلى 6 - عبد الرحمن بن عوف
فاجتمع في الأمر عليا، وعثمان، وعبد الرحمن. فأمسك عبد الرحمن بيد علي وعثمان، وتبرأ هو من الأمر.
فقال: يا علي لعل هؤلاء سيعرفون لك قرابتك من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصهرك وما أنالك الله من الفقه والعلم، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله فيه.
ثم قال لعثمان: يا عثمان، لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله وسنك فإن وليت هذا الأمر فاتق الله فيه ولا تحمل آل أبي معيط على رقاب الناس. ثم قال: ادعوا لي صهيبا. فدعي، فقال: صل بالناس ثلاثا، وليخل هؤلاء النفر في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل منهم، فمن خالفهم فاضربوا رأسه. فلما خرجوا من عند عمر قال: إن ولوها الأجلح (1) سلك بهم الطريق.
____________
(1) الأجلح: من انحسر شعره من جانبي رأسه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 63
--------------------------------------------------------------------------------
" لله درهم إن ولوها الأصيلع كيف يحملهم على الحق وإن كان السيف على عنقه " (1).
وروى البلاذري في أنساب الأشراف أن عمر قال:
(إن رجالا يقولون إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، وإن بيعة عمر كانت عن غير مشورة والأمر بعدي شورى، فإذا اجتمع رأي أربعة فليتبع الاثنان الأربعة، وإن اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا رأي عبد الرحمن بن عوف فاسمعوا وأطيعوا وإن صفق عبد الرحمن بإحدى يديه على الأخرى فاتبعوه) (2). وروى البلاذري في ج 5 / 19 من كتابه أنساب الأشراف:
(إن عليا شكا إلى عمه العباس ما سمع من قول عمر: كونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، وقال: والله لقد ذهب الأمر منا، فقال العباس:
وكيف قلت ذلك يا ابن أخي؟
فقال: إن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن بن عوف.
وعبد الرحمن نظير عثمان وصهره فأحدهما لا يخالف صاحبه لا محالة. وإن كان الزبير وطلحة معي فلن أنجح بذلك إذ كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.
وقال ابن الكلبي: عبد الرحمن بن عوف زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأمها أروى بنت كريز، وأروى أم عثمان فلذلك قال صهره (3).
فأقول بعد كل هذا العرض التاريخي للأحداث.
فأين تلك الشورى الحقيقية؟
وأين هي أدلتها.. والله لقد صدق معاوية عندما قال (ولقد شق عمر عصا الأمة... آخر حياته كما شقها - يوم السقيفة...
____________
(1) راجع طبقات ابن سعد ج 3 ص 257، الإستيعاب لابن عبد البر ومنتخب الكنز ص 529 والرياض النضرة ج 2 ص 72 وأخرجه النسائي أيضا.
(2) أنساب الأشراف للبلاذري: ص 5 / 15.
(3) أنساب الأشراف للبلاذري: ج 5 / 19، والعقد الفريد لابن عبد ربه: ج 3 / 75.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 64
--------------------------------------------------------------------------------
وقد اجتمعت كل الأدلة على بطلان هذه الشورى.
فقد زعم الدكتور أن الشورى حقيقية وبلغت أرقى مستوياتها بين المسلمين كافة.
هذا أولا.
وبعضهم قال بالنص القرآني الذي يقول: (وأمرهم شورى بينهم) أو:
(وشاورهم في الأمر).
وهناك رأي آخر مزعوم بما هو اتفاق الأمة..
وهناك رأي آخر يقول العقل هو الدليل.
فأقول: ما هو النص القرآني الصريح الذي تستندون إليه في هذه الشورى؟
إن قلتم لي: (وأمرهم شورى بينهم) [ الشورى: 38 ].
أو: (وشاورهم في الأمر) [ آل عمران: 159 ].
فأقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستشير أصحابه في الأمور المهمة.
وثانيا مسألة الشورى، أو التشاور بين القوم هو صحيح وارد لكن أين يرد وأين وجه الشورى في تلك الأمور..؟
في الأمور التي لم يرد فيها نص من الله ومن رسوله يمكننا التشاور بها، لكن في الأمور التي ورد فيها نص قراني صريح أو نص نبوي.. فلا لقوله تعالى في كتابه العزيز:
(ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) (1) ونلاحظ من خلال آيتي الشورى:
إن أمر الشورى أو المشاورة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقصد الملاينة معهم والرحمة بهم، ولم يكن أمرا بالعمل برأيهم بل قال تعالى له: فإذا عزمت
____________
(1) سورة الأحزاب: الآية 35.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 65
--------------------------------------------------------------------------------
فتوكل أي إعمل برأيك يا رسول الله.
فخاظبه تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله) (1).
فأقول: كيف غاب عن ذهن الدكتور البوطي ولم يتنبه إلى أن ما قاموا به من عقد البيعة لم يكن ناتجا عن الشورى التي تحدثت بها.
فهذا الإمام البخاري يحدثنا في صحيحه (2).
إن السابق إليها والمحرك الكبير فيها الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قال على المنبر على مرأى من الصحابة ومسمع " إنما كانت بيعة أبي بكر فلته وتمت، ولكن الله وقى شرها - إلى أن قال - من بايع منكم رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو، ولا الذي بايعه ثغرة أن يقتلا - إلى قوله - إلا أن الأنصار خالفوا، واجتمعوا بأسرهم، في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما ".
____________
(1) سورة آل عمران: الآية 139 - 155.
(2) صحيح البخاري: ج 4 ص 119 (باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت).
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 66
|