نظريات نشوء الدولة في فكر الشهيدين الصدرين...مقارنة بالغرب
بسم الله الرحمن الرحيم
نظريات نشوء الدولة في فكر الشهيدين الصدرين...مقارنة بالغرب
تمهيد
قبل الخوض في بيان النظريات في نشوء الدولة, نود أن نبين ما هي الدولة؟, والتعاريف التي قيلت فيها؛ وذلك لخصوصية الموضوع في جانب معين وهو (نظريات نشوء الدول), حيث إنّ الخوض في كل جوانب الدولة يحتاج إلى مجلدات لا يسعها بحث واحد، وهذه بعض التعريفات التي جاء بها الفلاسفة للدولة:
1- الفرنسي كاردي مالبيرغ (carredemailbag) عرف الدولة بأنها: (مجموعة من الأفراد تستقر على إقليم معين تحت تنظيم خاص, يعطي جماعة معينة فيه سلطة عليها تتمتع بالأمر والإكراه)(1).
2- الفرنسي بارتلي (bartheley) حيث عرف الدولة بأنها: (مؤسسة سياسية يرتبط بها الأفراد من خلال تنظيمات متطورة)(2).
3- الدكتور محسن خليل يعرف الدولة بأنها: (جماعة من الأفراد تقطن على وجه الدوام والاستقرار إقليماً جغرافياً معيناً، وتخضع في تنظيم شؤونها لسلطة سياسية، تستقل في أساسها عن أشخاص من يمارسها)(3).
4- الدكتور كمال العالي يعرف الدولة بأنها: (مجموعة متجانسة من الأفراد تعيش على وجه الدوام في إقليم معين، وتخضع لسلطة عامة منظمة)(4).
5- ما كيفر (mcypher) يعرف الدولة بأنها: (اتحاد يحفظ داخل مجتمع محدد اقليمها الظروف الخارجية العامة للنظام الاجتماعي, وذلك للعمل من خلال قانون يعلن بواسطة حكومة مخولة بسلطة قهرية لتحقيق هذه الغاية)(5).
6- ومنهم من يعرفون الدولة بأنها: (مجموعة من الأفراد يقيمون بصفة دائمة في إقليم معين, تسيطر عليهم هيئة منظمة استقر الناس على تسميتها الحكومة, وقد حدد البعض ثلاثة عناصر لابد منها لكيان الدولة هي: مجموعة الأفراد, والإقليم, والحكومة)(6).
النظريات في فكرة نشوء الدولة
أهتمّ بدراسة هذا الموضوع عدد من علماء الاجتماع والفلسفة منذ القدم؛ لأنه يرتبط بهما أكثر مما يرتبط بقانون الدول وذلك لأنه نشأ بعدهما.
ومن الفلاسفة المشهورين في دراسة هذا الموضوع, الفلاسفة الاغريق كأرسطو وأفلاطون وسقراط، وكذا الفكر الروماني درس هذا الموضوع وكان متأثراً بالفلسفة اليونانية, كما أن الكنيسة الكاثولوكية لها اهتماماتها بهذا الموضوع أيضاً، يضاف إلى ذلك, اهتمام الفكر السياسي والفلسفي الإسلامي بموضوع نشوء الدولة, وأبرز مَن ولج في هذا الباب هو الفارابي وعالم الاجتماع العربي ابن خلدون، واهتم كتّاب وفلاسفة أوربا في القرنين السابع عشر والثامن عشر بذلك، ومهما ذكرنا فإن هناك نظريات قيلت في أصل نشوء الدولة نذكر منها:
أولاً: نظرية القوة أو ما تسمى بـ(نظرية العنف).
تذهب هذه النظرية إلى أن الأصل في نشوء الدولة يعود إلى القوة والعنف والإكراه، وعلى هذا الأساس, هيمنت الدول بسلطتها التي هي عبارة عن نظام فُرِضَ على جماعة مغلوبة من قبل جماعة غالبة أو منتصرة تحملهم على الخضوع، مما يترتب على ذلك, كون الإرادة العامة هي إرادة الشخص الغالب أو المنتصر، وذهب إلى هذا الرأي عالم الاجتماع الألماني (هوبن هايمر), حيث يرى أن نشوء الدولة أو السلطة فُرض عن طريق جماعة ظافرة منتصرة على أخرى مغلوبة خاسرة.
وفي الحضارات القديمة أن الانتصار في الحرب كان يعتبر بمثابة حكم أصدره الإله لصالح من عقد له اللواء. وقد رأى البعض أن هذهِ النظرية لها من الصحة، حيث نظروا إلى أن القوة تلعب دوراً كبيراً لا يستهان به في العلاقات الدولية. وردّ آخرون أن هذه النظرية لا يمكن أن تقدم التفسير الوحيد لإنشاء الدولة أو السلطة، حيث إن القوة وإن كانت ضرورية في بداية الأمر إلا أنها غير كافية للديمومية والاستمرارية؛ وذلك أن السلطة التي تستند على القوة تعتبر غير مشروعة؛ لأنها تفرض وجودها على الشعب قسراً,ً وبهذا لا تستطيع البقاء طويلاً, كما يبين التاريخ السياسي للدول, ومن هنا فإن هذه النظرية لا تقدم لنا التفسير الكامل لنشوء الدولة.
ثانياً: النظرية الدينية أو (نظرية الحق الإلهي للسلطة).
وتسمى النظرية الثيوقراطية. والثيوقراطية كلمة يونانية (Theokraties) مكونة من مقطعين: ثيوث (theos). وترادف معنى الدين, وتعني الرب. وكراتيس (kraties). وهي بمعنى السيادة أو الحكم أو نظام الحكم. وبربط الكلمتين مع بعض يصبح المعنى حرفياً هو:>حكم الدين<. وتقوم هذه النظرية على أن الله يختار من يشاء لممارسة السلطة. فالحاكم يستمد سلطته من الله؛ لذلك فإن إرادته تعلو على إرادة الشعب، وقد سادت هذه النظرية في كل من مصر والصين وبلاد فارس، حتى بعد ظهور المسيحية، لكنها بدأت بالإندثار في العصور الوسطى بعد أن اشتد النزاع بين الكنيسة والملوك في أوربا، وظهور البروتستانتية على يد (مارتن لوثر) سنة 1520م(7).
وهناك ثلاث نظريات ثيوقراطية أو دينية:
أ ـ نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم
هذه النظرية تقول: إن أصل الدولة أو السلطة ديني وإن الحكام لهم منّة إلهية أو سماوية، فالحاكم كان يعتبر حاكماً وإلهاً في نفس الوقت، وبالتالي يجب على الأفراد التقديس والخضوع له والامتثال للأوامر والنواهي الصادرة منه وعدم ابداء أي اعتراض؛ لأنها أوامر صادرة من الإله، ومن يخالف هذا يكون مرتكباً للخطيئة أو المعصية، وقد وجدت هذه النظرية لها تطبيقاً في الحضارات القديمة، ففي اليونان كان الاعتقاد السائد من أنّ أول من مارس السلطة في اليونان لم يكن من الإنس, بل كان مخلوقاً أرقى وأسمى من البشر؛ لأنها كانت من أصل إلهي.
وأما في الحضارة المصرية القديمة ـ الفرعونية ـ , فحاكم مصر كان يدعي الإلوهية, وقد لُقب الفرعون بلقب (هوديس). وتعني إله الشمس. وفي بعض الكتب وجدت أن معناها (الرب) في اللغة المصرية القديمة في عهد الأسرتين الفرعونيتين، ولُقب الفرعون باسم (رع) والتي تعني الإله في اللغة المصرية القديمة, وذلك في عهد الأسرة الفرعونية الرابعة، كما نجد تطبيقاً لنظرية الطبيعة في القرن العشرين في بعض دول قارة آسيا مثل الصين, حيث إن إمبراطورها سابقاً كان يحكم الصين باعتباره ابن السماء.
واليابان ـ أيضاً ـ كان إمبراطورها بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد عام 1947م، كان يحكم باعتباره ابن الله, وإن سلطاته تعتبر من المواليد المقدسة, وكان تقام له فروض العبادة وطقوسها.
إذن, هذه النظرية قديمة ومع قدمها وجدت لها تطبيقا في العصر الحديث.
ب - نظرية الاختيار الإلهي: وهي كالنظرية السابقة, ترجع السلطة إلى إرادة علوية تسمو على إرادة البشر, وهذه الإرادة هي التي تسمّي شخصاً معيناً أو أسرة معينة بذاتها لممارسة السلطة والحكم، وعليه فالأساس الذي تقوم عليه الدولة هو التفويض والاختيار أو التعيين الإلهي الخارج عن إرادة البشر. ومما يترتب على هذه النظرية إن سلطة الحكام مستمدة من سلطة الإله, وبالتالي لا مسؤولية ولا حساب على الحكّام إلا أمام الجهة التي فوضت لهم السلطة، وتسمى بالإرادة السامية أو العلوية.
وقد استغل العديد من الحكام هذه النظرية من أجل فرض السلطة على شعوبهم، ففي فرنسا وتحديداً في القرون الوسطى كان الاعتقاد السائد هو أن الملك يستمد سلطته من الله. وقد وردت عبارات تجسد هذا المفهوم, حيث إن لويس الرابع عشر كان يقول ـ كما وجد في مذكراته ـ: (إن السلطة التي يتولاها الملوك قد فوضتها إليهم العناية الإلهية, وأن مصدر السلطة هو الله لا الشعب, وأمام الله وحده يؤدي الملوك حسابهم عن السلطة)(8).
وهناك مقولة أخرى لملك فرنسا لويس الخامس والعشرين مرسوم صدر منه عام 1770م: (إننا لم نتلقَ التاج إلا من الله، فسلطة عمل القوانين هي من اختصاصنا وحدنا دون تبعية ولا توزيع).
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد, أن انكلترا سبق وأن حكمت بموجب نوايا التفويض الإلهي- حكمت بموجب عهد ستيوارت- ثم خُلعت هذه الأسرة عن السلطة, وفي بداية هذا القرن - وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى- كان إمبراطور المانيا يدعي هو الآخر بأن التصدي للسلطة بتفويض من الله تعالى.
ويمكن أن يقال: إن آخر تطبيقات النظرية كان في القرن العشرين, حيث مارسها امبراطور الحبشة السابق (هيلا سيلاسي) الذي استمر حكمه من 1930وحتى1974, حيث انتهى حكمه أثر انقلاب قاده مجموعة من ضباط الجيش, أطلق عليهم اسم الدرج (اللجنة العسكرية)(9).
ج ـ نظرية العناية الإلهية:
تقوم هذه النظرية على اعتبار أن السلطة أو الدولة وإن رجعت إلى أصل ديني, غير أن اختيار الحكام يتم عن طريق الحكام أو الأفراد أو الشعب. وهذا يعني أن السلطة يبقى مصدرها الله، ولكن لا يختار الحكام بشكل مباشر, وإنما يوجه الأفراد والحوادث بشكل يتم معه اختيار الحاكم, ويترتب على ذلك أن السلطة بموجب هذه النظرية, تعتبر مسألة دنيوية مع اضفاء طابع ديني عليها؛ كي يجد الناس في طاعتها وقبولها تطبيقاً.
ومن أشهر تطبيقات هذه النظرية, السلطة التي كان يمارسها حاكم المانيا السابق (ادولف هتلر) في المانيا والذي كان يردد دائماً عبارات العناية الإلهية، وكان يقول: (إن العناية الإلهية هي التي اختارته لزعامة الشعب الألماني)، وأن النظام الذي كان يتبعه نظام دكتاتوري, ومن أجل استغلال الطابع الديني، فإن الحكام استغلوا هذا الشيء على المحكومين، وهتلر معروف بحكمه الدكتاتوري، ومن المعلوم أن الدكتاتورية على نوعين: دكتاتورية مذهبية: وتعتمد على ايديولوجية معينة. ودكتاتورية غير مذهبية: وهذه لا تعتمد على ايديولوجية معينة.
كما أن حاكم أسبانيا السابق الجنرال (فرانكو) كان يحكم - هو الآخر- بموجب نظرية العناية الإلهية, ولم يكتف فرانكو بذلك, بل إنه وضع العبارة التالية على النقود الأسبانية التي كانت تحمل صورته: (الزعيم بفضل الرب). وكان يبين في ذلك إلى أن العناية الإلهية هي التي مكنته من السلطة، مع أن النظام الدكتاتوري لا يعترف إلا بنفسه ويلغي بقية الأنظمة, وإنه يحتفظ برأيه ويلغي آراء الآخرين.
ثالثا: نظرية التطور الأسري
ولها تسميات أخرى مثل نظرية التطور العائلي أو نظرية السلطة الأبوية, وتتلخص هذه النظرية بأن أهل السلطة أو الدولة تعود إلى الأسرة؛ لأنها الصورة المصغرة للدولة, فعندما تمتّ الأسرة أصبحت عائلة, وبعد ذلك تجمعت العائلات وكونت القبيلة, ومع ازدياد وتكاثر عدد أفراد القبيلة انقسمت إلى عشائر، وبمرور الزمن أخذت هذه العشائر بالنمو والازدياد والانتشار في رقعة جغرافية معينة؛ لتتكون المدن ثم الدول. ومن هذا فإن أصل سلطة الحكم في الدولة يرجع إلى سلطة ربّ الأسرة التي انتقلت إلى العائلة, ثم إلى رئيس القبيلة, ثم إلى رؤساء العشائر, ولذلك يطلق على هذه النظرية اسم: (نظرية السلطة الأبوية). هذه النظرية حاولت أن تقدم تفسيراً مقبولاً من الناحية النسبية لبيان أصل السلطة, من خلال إيراد بعض أوجه الشبه بين سلطة رب الأسرة وسلطة الحاكم, غير أن هذه النظرية تعرضت لعدة انتقادات ومن أهمها:
أـ من الأمور الثابتة تاريخياً أن الأسرة ليست الخلية الأولى للجماعة البشرية, وأن الذي جمع الأفراد في الخلايا الاجتماعية البدائية الأولى هو المصالح المشتركة ومقاومة ظروف الطبيعة.
ب ـ إن سلطة الأم سبقت سلطة الأب في بداية عصر الإنسانية, وعلى هذا الأساس, لم تتكون الأسرة في شكل جماعة منظمة تحت رئاسة رب الأسرة, إلا بعد أن تطورت الجماعات البشرية وانتظمت, ثم انتقلت السلطة من الأم إلى الأب.
ج ـ إن سلطة رب الأسرة تعتبر سلطة مؤبدة أي أنها تبقى ما بقي رب الأسرة حياً؛ إذ أنه لا يستطيع أن يتنازل عن تلك السلطة, في حين نجد أن سلطة الحاكم ليست سلطة مؤبدة, بل إنها سلطة مؤقتة، وهذه صفة جوهرية بين السلطتين.
دـ إن سلطة رب الأسرة هي سلطة إجبارية رغماً عنه, في حين نجد أن سلطة الحاكم ليست اجبارية ومن حقه أن يرفضها, وإذا قبلها يستطيع بعد حين أن يتنازل عنها.
رابعاً: نظرية العقد الاجتماعي
وتعتبر هذه النظرية من النظريات القديمة, غير أنها اشتهرت بثلاثة من علماء الاجتماع وهم: الانجليزيان (توماس هوبز 1588م ـ 1679م)، و(جون لوك 1632م ـ 1704م) والفرنسي (جان جاك رو سو 1712م ـ 1778م). ومن خلال التعرف على أراء هؤلاء الثلاثة, نحاول أن نتعرّف على هذه النظرية، حيث إن هناك اتفاق في الرأي في مسألتين:
الأولى : إن في بداية عصر الإنسانية كان الناس يعيشون حياة فطرية ويتمتعون في ظل هذه الحياة بحقوق وحريات منحتها لهم الحياة أو الطبيعة، تسمى بـ(الحقوق الطبيعية).
الثانية : إن الأفراد رغبوا الحياة أفضل, فأرادوا الانتقال من الحياة الفطرية إلى حياة مجتمع منظمٍ سياسي، أي أنهم أتفقوا على إقامة سلطة بالوسيلة التي تم بموجبها هذا الانتقال, فكانت الوسيلة التي تمّ بها هذا الانتقال تسمى: (العقد الاجتماعي).
وكل واحد من هؤلاء الثلاثة كان له مفهوم خاص للعقد الاجتماعي، فتوماس هوبز أراد أن يصل إلى نتيجة معينة, وجون لوك كذلك, وجان جاك روسو كذلك, مع أن أفكار الأخير منهم كانت واضحة جداً في فرنسا.
وسنحاول بيان هذا المفهوم عند كل واحد من هؤلاء الثلاثة:
1 ـ مفهوم العقد الاجتماعي عند توماس هوبز
كان توماس هوبز يخالف ارسطو في نظرته إلى كون الإنسان اجتماعي بطبعه، حيث كان يرى العكس, وهو أنه خلاف ذلك, أي إنه أناني ومحب لنفسه لا يعمل إلا بقدر ما يحقق مصلحته الشخصية. ومن هنا يرى أن الحياة البدائية قد سادتها الفوضى والاضطراب, وسيطر الأقوياء على الضعفاء والنتيجة التي قد تؤدي إلى فناء الإنسان، إلا أنه قد حال دون ذلك بأن الإنسان غريزياً كان حريصاً على البقاء، ولهذا السبب تولدت لدى الأفراد فكرة (التعاقد)، ومعناها أن يعيشوا تحت رئاسة أو قيادة أحدهم متنازلين له عن حقوقهم وحرياتهم مما يرتب على هذا، الانتقال من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة.
ويعتبر توماس هوبز أن هذا العقد ملزم لجانب واحد وهم الأفراد؛ حيث إنهم تنازلوا عن حقوقهم للحاكم الذي هو بدوره لم يتنازل عن حقوقه الطبيعية في الحياة الفطرية.
أراد توماس هوبز بهذا التفسير أن يبرر سلطة الحاكم المطلقة؛ حيث إن الأفراد بتنازلهم هذا قد تنازلوا عن حرياتهم إلى الحاكم, واتفقوا فيما بينهم على أن كل ما يأمر به الحاكم فهو خير, وكل ما ينهى عنه الحاكم فهو شر، ويؤسس على ذلك, أنه لا يحق للأفراد مناقشة مشروعية الحاكم في الأوامر والنواهي الصادرة منه، بل يجب عليهم الطاعة والامتثال، وبالتالي أستبعد توماس هوبز حق الأفراد في مقاومة الحاكم مهما كانت تصرفاته، وقد أسس سلطة الحكام المطلقة على فكرة العقد الاجتماعي.
2 ـ مفهوم العقد الاجتماعي عند جون لوك
اتفق جون لوك مع هوبز في وجود حالة فطرية عاشها الأفراد قبل حياة الجماعة, وأن المجتمع يقوم على أساس العقد الاجتماعي، غير أنه أختلف مع هوبز في وصفه أن الحياة الفطرية تخلق الفوضى، حيث إن جون لوك يرى أن حياة الفطرة كانت حياة حسنة، إلا أن الأفراد رغبوا بحياة أفضل لهم، وتحقيقاً لذلك, سلكوا طريق التعاقد فيما بينهم؛ من أجل إقامة سلطة تتمثل في شخص أو بضعة أشخاص يمثلون المجتمع بأكمله، وعلى هذا الأساس يقول: ( إن التعاقد تم بين الأفراد من ناحية، والحاكم من ناحية أخرى ). أي أن العقد عند جون لوك ملزم من الطرفين ـ الأفراد والحاكم ـ , وإن الأفراد لم يتنازلوا عن كل حقوقهم في حياة الفطرة, بل إن التنازل الحاصل كان جزئياً بالقدر المهم أو الضروري.
وقد أراد جون لوك بهذا التفسير تحقيق سلطة الحكام المقيدة لما يتضمنه العقد من التزامات متبادلة، فالحاكم من جانبه ملزم بالمحافظة على حقوق الأفراد التي لم يتنازلوا عنها وملزم بإقامة العدل بينهم، والأفراد ملزمين بواجب الطاعة للحاكم طالما كان هذا الحاكم يعمل وفقاً للحدود المرسومة بموجب العقد، فإذا تجاوز الحاكم تلك الحدود, كان من حق الأفراد الاعتراض عليه ومقاومته، وبهذا فإن جون لوك أعطى للأفراد حق المقاومة الشعبية للأفراد في هذه الحال.
3 ـ مفهوم العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو
استهدف روسو بفكرة العقد الاجتماعي تنازل الأفراد عن كافة حقوقهم الطبيعية التي كانوا يتمتعون بها في حياة الفطرة، وهذا التنازل لم يتم لشخص معين بالذات أو أشخاص معينين كما ذهب كل من هوبز ولوك، بل إن هذا التنازل تم للمجتمع بأكمله، ويضاف إليه, إن الأفراد لم يفقدوا حقوقهم كلياً, وإنما استعاضوا عنها بحقوق مدنية مضمونة وصحيحة من قبل الطرف الذي أقاموه وهو (الدولة).
فالتعاقد عند روسو هو إحلال الإرادة العامة الجماعية محل الإرادة الفردية، كما أن غرض التعاقد هو تنازل كل فرد عن كافة حقوقه الطبيعية للمجتمع، وبما أن هذا التنازل يتم دون تحفظ من قبل الأفراد، فليس لأي فرد منهم أن يطالب بشيء, وذلك لتحقيق مبدأ المساواة بين الجميع, يضاف إلى ذلك، مادام كل فرد تنازل عن شخصه وعن حقوقه فليس هناك ما يدفعه للتعدي على الآخرين، وفي ذلك تحقيق لمبدأ الحرية، وإن تنازل الأفراد عن حقوقهم الطبيعية يقابله حصولهم على حقوق مدنية يقرها الحق العام الذي أقرته السلطة أو الدولة. وفي ذلك اختلف روسو عن هوبز الذي جعل هذا التنازل كلياً لصالح الحاكم، كما اختلف عن لوك الذي أقصر هذا التنازل عن بعض الحقوق دون البعض الآخر، وبذلك يكون روسو قد جعل السيادة للجماعة لا للشخص بذاته أو أشخاص معينيين بذواتهم، وبمعنى آخر أن روسو أقرّ مبدأ (السيادة الشعبية) التي تتمثل في مبدأ سيادة القانون بوصفه خير تعبير عن الإرادة العامة للجماعة.
نظرية السيد الشهيد محمد باقر الصدر +في نشوء الدولة
أما الشهيد السيدمحمد باقر الصدر فقد رفض هذه النظريات بقوله: ( فمن ناحيةتكوّن الدولة ونشوئها تاريخياً، نرفض إسلامياً نظرية القوة والتغلب، ونظرية التفويض الإلهي الإجباري، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية تطور الدولة عن العائلة). وقد طرح نظريته التي يمكن تسميتها بـ الدور النبوي في نشوء الدولة). حيث يرى أن الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان, وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورهاالسليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه، من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجالمن تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل، يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية،وتطوير نموها في مسارها الصحيح.
وقد اعتمد السيد الشهيد + في بناءنظريته على الآية الكريمة: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(10).
فيقول +: نلاحظ من خلال هذاالنص أن الناس كانوا أمة واحدة في مرحلة تسودها الفطرة، وتوحد بينها تصورات بدائيةللحياة، وهموم محدودة وحاجات بسيطة، ثم نمت ـ من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة ـ المواهب والقابليات، وبرزت الإمكانيات المتفاوتة، واتسعت آفاق النظر، وتنوعت التطلعات، وتعقدت الحاجات، فنشأ الاختلاف، وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحتالحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل، وتضمن استمرار وحدةالناس في إطار سليم، وتصب كل القابليات والإمكانيات التي نمتها التجربة الاجتماعيةفي محور إيجابي يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار, بدلاً عن أن يكون مصدراًللتناقض وأساساً للصراع والاستغلال.
وفي هذه المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء^, وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولةأسسها وقواعدها - كما لا حظنا في الآية الكريمة المتقدمة الذكر- وظل الأنبياء يواصلون-بشكل وآخر- دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة, وقد تولى عدد كبير منهم الإشرافالمباشر على الدولة كداود وسليمان وغيرهما, وقضى بعض الأنبياء كل حياته وهو يسعى فيهذا السبيل كما في حالة موسى ×, واستطاع خاتم الأنبياء ’ أن يتوج جهودسلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ، شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخالإنسان، وجسدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً(11).
آخر تعديل فلاح السعدي يوم
01-31-2011 في 02:20 PM.
|