الصفحة 93 ونحن نقرأ في كلمات أهل السنّة وكلمات الاثني عشرية عبارات كثيرة ترسم عمق المعاناة من الوهابية. ونطلب من القارئ أن يتأمّل في كلمات العلامة السنّي الدكتور (محسن عبد الحميد) ـ حفظه الله ـ وهو يتحدث عن المشاكل التي أثارتها الوهابية ـ من حيث لا تعلم ـ، عندما اتّهمت الذين خالفوها من السنّة والاثني عشرية بالغلو، قال في كتابه (تفسير آيات الصفات):
(وقد لاحظت ولاحظ معي العاملون في الحقل الإسلامي الحديث في السنوات القليلة الأخيرة تياراً [يعني: التيار الوهابي] يزعم أنّ منهجه قائم على تصحيح العقيدة، ومحاربة مظاهر الشرك في المجتع الإسلامي.. يُشغِل الجو الإسلامي بالمساجد وغيرها بمناقشات عقيمة حول تفسير آيات الصفات الخبرية).
إلى أن يقول:
(وكان هذا الوضع المؤلم دافعي الأوّل في العودة إلى آيات الصفات وقراءتها قراءة جديدة)(1).
ولقد شغلت هذه الفتنة الوهابية ـ التي جعلتهم يحسبون أنّ جمهور أهل السنّة وأنّ الاثني عشرية قد أصبحوا من الغلاة الضالين والمنحرفين ـ الكثير من علماء أهل السنّة منذ ظهور الوهابية.
وفي هذا السياق نذكر العلامة والمفكّر السنّي الدكتور (محمد عياش الكبيسي) ـ حفظه الله ـ الذي عالج هذه الفتنة الوهابية في كتابين من مؤلفاته، ومما قاله في شأن هذه الفتنة الوهابية:
(ولقد دفعني هذا [أي: الفتنة التي أثارتها الوهابية بين المسلمين بسبب قضية تفسير آيات الصفات] ـ أيضاً ـ لاختيار موضوع البحث في رسالة الماجستير
____________
(1) تفسير آيات الصفات للعلامة السنّي الدكتور محسن عبد الحميد، مقدمة الكتاب.
الصفحة 94 (الصفات الخبرية عند أهل السنّة والجماعة)، وقد قمت فيها باستقراء تام لجميع الصفات الخبرية في الكتاب والسنّة، مبيّناً أقوال العلماء فيها من السلف والخلف)(1).
وقال ـ أيضاً ـ بعد أن بحث بحثاً مفصّلاً في آيات الصفات، وقدّم بعض الملاحظات حول تفسير آيات الصفات:
(هذه الملاحظات تقودنا ـ أيضاً ـ إلى أن نفسح صدورنا لتقبل الخلاف في تفسيرها، ولا ينبغي أن تعدّ الفيصل بين الإيمان والكفر وبين التوحيد والشرك، لا سيما أنّ السلف لم يقفوا عندها طويلاً، ومَنْ وقف عندها فسّرها بتفسيرات كثيرة، تصح أن تكون الجذور الحقيقية للمذاهب الكلامية في الصفات)(2).
ويجب أن أذكر حقيقة هامة ترتبط بموضوع هذا الكتاب، أي (المنهج الجديد والصحيح في الحوار مع الوهابيين) وهذه الحقيقة ناتجة من خلال تجربة شخصية مرّ بها كاتب هذه السطور عندما كان وهابياً، وهي: لقد كنت أعتقد أنّ مَنْ خالف الوهابية في مسألة الصفات فهو ضال ومغال ومنحرف عن الإسلام، وأعتقد أنّ رأي الوهابية في الصفات لا يمكن أن يحتمل الخطأ بأيّ صورة من الصور. وأذكر عندما كنت في جامعة الإمام محمد بن سعود في سنة (1988م) كانت هنالك حملة شديدة على أهل السنّة من الأشعرية والماتريدية بسبب موضوع الصفات، وكنّا نتبرّأ من العلامة والمفكر السنّي (عبد الفتاح أبو غدة)، ومن الإمام (محمد الغزالي المصري)، ومن العلامة السنّي (محمد علي الصابوني)، ومن الإمام (حسن البنا)، ومنْ العشرات من علماء أهل السنَّة؛ لأنّهم خالفوا الوهابية في مسألة الصفات.
____________
(1، 2) العقيدة الإسلامية في القرآن ومناهج المتكلمين للعلامة الدكتور السنّي محمد عياش الكبيسي: ص 122، هامش رقم: 122.
الصفحة 95 وبعد أن تركت الوهابية اكتشفت المشاكل التي تكتنف نظريتهم حول الصفات وبدأت الحوار معهم حول الصفات، لكنني أرى أنّ الحوار معهم حول الصفات لن يكون مثمراً إلاّ إذا جعلناهم يحسنون الظن برأي أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية، ورأي الاثني عشرية الذي يقوم على أساس تأويل آيات الصفات كما أننا لا يمكن أن نستنقذهم إلا إذا أحسنا الظن بهم، فهم إخواننا إلاّ أنّهم يتصفون بالبساطة في التفكير.
وطريقتي في الحوار معهم أنني أذكر كلمات العلماء الذين تثق بهم الوهابية كابن كثير ـ مثلاً ـ، تلك الكلمات الصريحة في تأويلهم آيات الصفات؛ لأنك إذا ذكرت له اسم شيخ الطائفة الإمام (محمد بن الحسن الطوسي) من الاثني عشرية، أو ذكرت له اسم الإمام (أبو حامد الغزالي) من أهل السنَّة، فلن يتحمّل مجرّد ذكر اسمهما، فكيف سيسمع رأيهما؟! ومنْ ثمَّ بعد أن تذكر له رأي الإمامين الطوسي والغزالي لا بد أن تأتيَ له بما يؤيدهما من كلام ابن كثير، حينئذٍ بالإمكان أن يحسن الظن برأي الإمامين. وهذه الطريقة اضطر إليها العلامة السنّي محمد عادل عزيزة في كتابه (عقيدة الحافظ ابن كثير في آيات الصفات).
إذن، فلا داعي لذكر علماء أهل السنّة أو علماء الاثني عشرية الذين ينفرُ منهم الوهابيون، بل يكفي أن تجد ما يؤيدهم من كلام ابن كثير، حينئذ سيقبلون ما تريد أن تبينه لهم حول الصفات، والعبرة بالأفكار لا بالاشخاص.
وا لهدف الرئيسي هو التقريب بين الوهابيين وبين الاثني عشرية من جهة، وبينهم وبين أهل السنة من جهة ثانية، وبين الاثني عشرية وأهل السنّة من جهة ثالثة.
* * * *
وإن من الحكمة في التعامل مع هذه الجماعة الوهابية البريئة والبسيطة التي تحتاج منّا إلى المعالجة والمعاينة لا المجادلة والمخاصمة؛ أنْ ننظر إليها كما ينظرُ </span>الصفحة 96 الطبيبُ إلى المريض الذي يحملُ له المحبّة والمودّة، فهو يبذل كل ما لديه من جهدٍ من أجل أنْ يجلب له الدواء ويزيل عنه الداء. ولا شك أنّ الطبيب الذي يسيء الظن بمريضه لا يستطيع معاينة مريضه ومعالجته.
إنّ أتباع هذه الجماعة البريئة يحسبون أنّ كل المذاهب الكلامية الإسلامية من أهل السنّة ومن الاثني عشرية قد أصبحوا من الغلاة، ومن ثَّم فهم يرون أنّ العالم الإسلامي قد امتلأ بالغلاة، فلا توجد مدينة أو قرية من مدن وقرى المسلمين إلاّ وفيها غلاة! وهم لا يعرفون أنّهم يعيشون في حالة نفسية جعلتهم يتوّهمون أن المسلمين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية أصبحوا من الغلاة.
لقد عشت هذه الحالة النفسية فترة زمنية من حياتي، وكنت أحسب أنّ المسلمين من أهل السنّة ومن الاثني عشرية قد صاروا من فرق الغلاة، وكنت أعتقد أنّه لم تسلم من الغلو إلاّ الجماعة(1) (الوهابية) الناجية. ولم يكن يخطر ببالي أنني أعيش في حالة نفسية تولّد منها الشعور بأنّ المسلمين أصبحوا غلاة، ومن ثَمّ قررت في بداية حياتي أنْ أخوض معركة مع الذين كنت أحسبهم من الغلاة، وفي هذه الفترة من حياتي قررت أن أبدأ بمعالجة الغلو عند الاثني عشرية، ثم أشرع في معالجة الغلو عند جمهور أهل السنّة من الأشاعرة والماتريدية. وبالفعل حسبت نفسي طبيباً يقفُ أمام رجل ـ أعني المذهب الاثني عشري ـ، وبعد أن كشفت على هذا الرجل خُيّل إليّ أنّه مصابٌ بمرضٍ خطير أطلق عليه الأطباء مرض (الغلو).
____________
(1) من أجل تحقيق فكرة التقريب بين الاثني عشرية وبين الوهابية ـ التي هي الغرض من تأليف هذا الكتاب ـ لا بد من مراعاة قضية عدم استخدام الكلمة التي تتعارض مع هذه الفكرة، ومن هنا عنى كاتب هذه الدراسة أن يطلق على الوهابية كلمة (جماعة) لا كلمة (فرقة)؛ لأنني رأيت أن كلمة (فرقة) مرفوضة عند الاثني عشريين وعند الوهابيين، ولا يمكن أن تتحقق قضية التقريب إلا إذا تعاملنا وفقاً للآداب الإسلامية المقدسة عند الاثني عشرية وعند الوهابية.
|