ولا يمكن للمنهج الوهابي في دراسة الاثني عشرية أن يخرج من أزمة الصراع مع أهل السنّة حول تفسير حقائق الاثني عشرية وخصائصها؛ إلاّ عند مراجعة منهج الاثني عشرية في تفسير هذه الحقائق والخصائص، ومن ثَمّ نجد أنّ الكاتب الوهابي (ناصر القفاري)(1) ذكر أنّ العلامة السنّي (سالم البهنساوي) بعد أن رأى اختلاف (إحسان ا لهي ظهير) مع العلامة (مصطفى الشكعة) في مفهوم الاثني عشرية؛ لجأ إلى شيوخ الاثني عشرية، وكتب نتيجة حواره مع الاثني عشرية في كتابه (السنة المفترى عليها)، وعرف أنّ الحق مع منهج أهل السنّة. ونجدُ ـ أيضاً ـ المفكر الإسلامي السنّي (الدكتور حامد حنفي داود)(2) يدعو إلى ضرورة نبذ المنهج الوهابي في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها، وإلى ضرورة الرجوع إلى منهج الاثني عشرية في دراستها، وفي هذا يقول:
(يُخطىء كثيراً من يدعي أنّه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم، مهما بلغ هؤلاء الخصوم منْ العلم والإحاطة، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى. أقول هذا جازماً بعد أن قضيت ردحاً طويلاً من الزمن أدرس فيه عقائد الأئمة الاثني عشر بخاصّة، وعقائد الشيعة بعامة، فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحاً في كتب المؤرخين والنقاد... بشيء ذي بال، وما زادني إلى هذه الدراسة، وميلي الشديد في الوقوف على دقائقها إلاّ بعداً عنها وخروجاً عليها... ذلك لأنّها دراسة بتراء
____________
(1) نقلنا عبارته في ص 47 ـ 48 من هذا الكتاب.
(2) وهو من كبار مفكري أهل السنّة في العصر الحديث، وكان مشرفاً على الدراسات الإسلامية بجامعة (عليكرة) با لهند.
الصفحة 50 أحلتُ نفسي فيها على كتب الخصوم لهذا المذهب، وهو المذهب الذي يمثل شطر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ومن ثمّ اضطررت ـ بحكم ميلي الشديد إلى طلب الحقيقة حيث كانت، والحكمة حيث وجدت، والحكمة ضالة المؤمن ـ أن أدير دفة دراستي العلمية لمذهب الأئمة الاثني عشر إلى الناحية الأُخرى، تلك هي دراسة هذا المذهب في كتب أربابه، وأن أتعرف على عقائد القوم ممّا كتبه شيوخهم والباحثون المحققون من علمائهم وجهابذتهم.
ومن البديهي أنّ رجال المذاهب أشدّ معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به، مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة، أو أُوتوا حظاً من اللسن والإبانة عمّا في النفس، وفضلاً عن ذلك فإنّ الأمانة العلمية التي هي من أوائل أسس المنهج العلمي الحديث، وهو المنهج الذي اخترته وجعلته دستوري في أبحاثي ومؤلفاتي حين أحاول الكشف عن الحقائق المادية والروحية؛ هذه الأمانة المذكورة تقتضي التثبت التام في نقل النصوص والدراسة الفاحصة لها، فكيف لباحث بالغاً ما بلغ من المهارة العلمية والفراسة التامة في إدراك الحقائق أن يتحقق من صحة النصوص المتعلقة بالشيعة والتشيع في غير مصادرهم؟!
إذن، لارتاب في بحثه العلمي على غير أساس متين.. ذلك ما دعاني أن أتوسع في دراسة الشيعة والتشيع في كتب الشيعة أنفسهم، وأن أتعرف عقائد القوم نقلاً عمّا كتبوه بأيديهم ونطقت به ألسنتهم، لا زيادة ولا نقص، حتى لا أقع في الإلتباس [والخلط بين الاثني عشرية والغلاة] الذي وقع فيه غيري من المؤرخين والنقاد حين قصدوا للحكم على الشيعة والتشيع. وإنَّ الباحث الذي يريد أن يدرس مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها ومظانها الأصلية إنّما يسلك شططاً ويفعل عبثاً، ليس هو من العلم ولا من العلم في شيء. ومثل هذا ما وقع فيه العلامة الدكتور (أحمد أمين) حين تعرّض لمذهب الشيعة في كتبه، فقد حاول </span>الصفحة 51 هذا العالم أن يجلّي للمثقفين بعضاً من جوانب ذلك المذهب، فورّط نفسه في كثير من المباحث الشيعية كقوله: (إنّ اليهودية ظهرت في التشيع)، وقوله: (إنّ النار محرمة على الشيعي إلاّ قليلاً)، وقوله: (بتبعيتهم لعبد الله بن سبأ)، وغير هذا من المباحث التي ثبت بطلانها وبراءة الشيعة منها، وتصدّى لها علماؤهم بالنقد والتجريح، وفصّل الحديث فيها العلامة محمد حسين آل كاشف الغطاء في كتابه أصل الشيعة وأُصولها)(1).
ولكي يدرك القارئ الخطورة الكبيرة في منهجية الوهابية في بيان (حقائق الاثني عشرية وخصائصها)؛ نذكر مثالاً هاماً يبيّن ويوضّح مشكلة خلط أتباع الوهابية بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، فقد نقل الوهابية في كتبهم أن ّ الرافضة ـ ويقصدون الاثني عشرية لأنّهم يخلطون بين الاثني عشرية والرافضة ـ تقول: (إنّ عليّاً في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي منادٍ من السماء، ـ يريد علياًَ ينادي ـ: اخرجوا مع فلان)!
ومن المعلوم أنّ الذين يزعمون أنّ علياً في السحاب هم الغلاة لا الاثني عشرية.. كما أن الذين يزعمون ان الإمام علياً ينادي من أعلى السحاب: (اخرجوا مع فلان) هم الغلاة لا الاثني عشرية!
ونحن بعد دراسة عميقة في المذهب الاثني عشري عند كبار علمائه، وفي أعظم مدينة علمية للاثني عشرية في العصر الحديث؛ وجدنا الاثني عشرية في كتبهم القديمة والحديثة يتبرؤون ويلعنون من يقول: (إن علياً في السحاب أو إنه ينادي من السحاب)! والثابت عندهم هو عين الثابت عند أهل السنّة، وهو: أنّه عندما يخرج الإمام المهدي ـ الذي أجمع على خروجه أهل السنّة والاثنا عشرية ـ سوف ينادي ملك من السماء باسمه، ويأمر بنصرته. ومن ثمَّ يجب علينا أن لا نعتمد على كتب الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها.
____________
(1) كلمة مقتطفة من مقدمة علامة أهل السنّة حامد حنفي داود لكتاب عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر: ص 20 ـ 23. وانظر كتاب في سبيل الوحدة الإسلامية للسيد مرتضى الرضوي: ص 75 ـ 83، مطبوعات النجاح في القاهرة، ط 3، سنة 1400 هـ ـ 1980م.
الصفحة 52 وهكذا؛ تتجلى في هذه المقتطفات الكبيرة وا لهامة مشكلة خطأ الوهابية في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية أو مشكلة خلط الوهابية بين الاثني عشرية والغلاة، وكيف كانت سبباً في اخفاقات المنهج الوهابي في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها على مدار فترة زمنية طويلة، وكانت سبباً في التباين الشديد بين حكم الوهابية وحكم أهل السنّة على هذه الحقائق وتلك الخصائص.
والغرض من توضيح مشكلة الخطأ في مرحلة المعرفة الانتسابية للاثني عشرية أو مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وفرق الغلاة، والتي توسعنا عامدين في عرضها من خلال أقوال كبار مفكري أهل السنة وعلمائهم؛ إنّما يعود للأسباب التالية:
أولاً: خطر هذه المشكلة باعتبارها كانت وما زالت السبب الأول في توسيع الاختلاف بين السنّة والاثني عشرية، بعد أن اندسَّ الوهابيون في صفوف أهل السنّة؛ كما أصبحت هذه المشكلة سبباً في توسيع الاختلاف بين السنّة والوهابية.
ثانياً: خطأ منهج الوهابية في دراسة حقائق الاثني عشرية وخصائصها كان نتيجة حتمية لهذه المشكلة. ولا شك أنّ خطأ منهج الوهابية في دراسة الاثني عشرية كان سبباً لاختلاف أهل السنّة مع الوهابية في تفسير مفهوم الاثني عشرية.
ثالثاً: معرفة هذه المشكلة بينّت لنا أهمية هذه المرحلة، أي مرحلة المعرفة الانتسابية؛ لأنّها قاعدة رئيسية في هذا المنهج الذي رسمناه من أجل تصحيح منهج الوهابية في دراسة حقائق المذهب الاثني عشري وخصائصه، ومن أجل التقريب بين الاثني عشرية والوهابية، ومن أجل التقريب بين أهل السنة والوهابية كما أسلفنا في أوائل البحث عن هذه المرحلة.
رابعاً: يكتسب البحث عن مشكلة الخلط بين الاثني عشرية والغلاة أهمية كبيرة، لأنّ مشكلة الخلط بين الحقائق والأوهام تمثل أكبر خطر يهدد جميع الديانات والمذاهب الدينية. وإذا كانت الأفكار المادية الإلحادية تمثل أكبر عدو </span>الصفحة 53 خارجي للديانات والمذاهب الدينية، فإنّ مشكلة الخلط بين الحقائق والأوهام تشكّل أكبر عدوٍ داخلي يهدد كيان الديانات والمذاهب الدينية. وإذا كان الفكر المادي يثير الشبهات ضد الديانات والمذاهب الدينية، فإنّ مشكلة الخلط بين الحقائق وبين الأوهام تصر على التفسير الغريب والفهم البعيد لحقائق الأديان والمذاهب الدينية، وتعطي صورة مشوهة لكل المذاهب الدينية، وبالتالي تجعل العقل البشري ينفر من الدين ـ أي دين ـ ويتجه صوب الإلحاد والمذاهب اللادينية.
خامساً: لقد كانت مشكلة الخلط بين الاثني عشرية وبين فرق الغلاة، عند الوهابية هي السبب الأول الذي جعلهم يقولون بأنّ هنالك صلة بين الاثني عشرية وبين غلاة الصوفية، في حين أن علماء الاثني عشرية يكفرّون الطرق الصوفية المغالية.
كان هذا توضيحاً وتبييناً للمرحلة الأُولى في معرفة المذهب الاثني عشري.
|