كان الإمام زين العابدين عليه السلام يزاول عملية تموين الناس بدقة فائقة ، خاصة عوائل الشهداء والمنكوبين في معارك ضد الدولة ، يقوم بذلك في سرية تامة ، حتى خفيت - في بعض الحالات - على أقرب الناس إليه عليه السلام . والأهم من ذلك : أن الفقراء أنفسهم لم يطلعوا على أن الشخص الممون لهم هو الإمام زين العابدين عليه السلام إلا بعد وفاته ، وانقطاع أعطياته ! فعن أبي حمزة الثمالي : إن علي بن الحسين عليه السلام كان يحمل الخبز بالليل ، على ظهره ، يتبع به المساكين في ظلمة الليل ، ويقول : ( إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب ) ( 2 ) . وعن محمد بن إسحاق ، قال : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين عليه السلام فقدوا ما كان يؤتون به بالليل ( 3 ) ‹ صفحة 142 › وعن عمرو بن ثابت ، قال : لما مات علي بن الحسين عليه السلام وجدوا بظهره أثرا ، فسألوا عنه ؟ فقالوا : هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل ( 1 ) . وهذه الدقة في السرية كانت من أجل إلهاء عيون الدولة عن مواقفه . مع أن الهدف الأساسي من هذا العمل - وهو تمويل الناس وتموينهم - كان يتحقق بتلك الطريقة الهادئة . ومع أن معرفة الناس للأمر - ولو بعد حين - كان أوقع في النفوس وأكثر تأثيرا في حب الناس لأهل البيت عليهم السلام . ومع ما في ذلك من البعد عن الرياء ، والسمعة ، والمباهاة . وقد وصلت سرية عمله عليه السلام إلى حد أنه كان يتهم بالبخل : قال شيبة بن نعامة : كان علي بن الحسين يبخل ، فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة ( 2 ) . وقال ابن عائشة ، عن أبيه ، عن عمه : قال أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ( 2 ) . وهذا واحد من أساليب عمله في رفع هذه المشكلة ، وقد اتبع أساليب أخرى ، نقرأ عنها الأحاديث التالية : إنه عليه السلام كان يعتبر المشكلة الاقتصادية محنة كبيرة أن يجد الفقر متفشيا في الدولة الإسلامية ، وهي السعة بحيث لا يمكن معالجتها بسهولة : ففي الحديث : شكا إليه عليه السلام بعض أصحابه دينا ، فبكى الإمام عليه السلام فلما سئل عن سبب بكائه ؟ قال عليه السلام : وهل البكاء إلا للمحن الكبار ! ؟ وأي محنة أكبر من أن يرى الإنسان أخاه المؤمن في حاجة لا يتمكن من قضائها ، وفي فاقة لا يطيق دفعها ( 4 ) . وأسلوب آخر في التركيز على مقاومة المشكلة : ‹ صفحة 143 › عن الرضا عن أبيه ، عن جده عليهم السلام ، قال : قال علي بن الحسين : إني لأستحيي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني ، فأسأل الله له الجنة ، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل لي : ( لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل ) ( 1 ) . إنه رفع لمستوى مقاومة المشكلة إلى مستوى مثالي رائع ، وخطاب موجه إلى كل من يعمل في الدنيا على حساب نعيم الآخرة ، لا على معطياتها الدنيوية فقط ، إنه معنى عرفاني دقيق ، ورفيع ، وبديع . وأسلوب آخر ، يدل على إصرار الإمام عليه السلام لتجاوز المشكلة : قال عمرو بن دينار : دخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد ، في مرضه ، فجعل محمد يبكي ، فقال : ما شأنك ؟ قال محمد : علي دين . قال : كم هو ؟ قال : خمسة عشر ألف دينار - أو بضعة عشر ألف دينار - . قال الإمام : فهي علي ( 2 ) . وقد جاء في الحديث أن الإمام عليه السلام قاسم الله تعالى ماله مرتين ( 3 ) . هذا من جهة . ومن جهة أخرى : نجد الإمام عليه السلام يؤكد على تداول الثروة ويحث على تنميتها ، واستثمار الأموال ، وعدم تجميدها ، لأن تجميدها هو التكنيز المذموم ، للخسارة الواضحة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 137 › ( 1 ) ضحى الإسلام ( 1 : 187 ) . ( 2 ) يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام : ( لكن الإقبال على الله ، واعتزال شؤون العالم . . كان منهجه في حياته الخاصة ) وقد سبق كلامه في المقدمة ( ص 10 - 11 ) . ( 3 ) نظرية الإمامة ، للدكتور صبحي ( ص 6 - 257 ) ( 4 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 217 ) . ‹ هامش ص 138 › ( 1 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 388 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 137 ) وصفوة الصفوة ( 2 : 98 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 30 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 233 ) وطبقات ابن سعد ( 5 : 216 ) . ( 3 ) مناقب ابن شهرآشوب ( 3 : 291 ) كشف الغمة ( 4 : 151 ) بحار الأنوار ( 46 : 82 ) ونقل عن مجالس ثعلب ( 2 : 462 ) . ‹ هامش ص 139 › ( 1 ) الكافي ، الفروع ( 5 : 344 ) . ( 2 ) تحف العقول ( ص 28 ) . ‹ هامش ص 140 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين ( ص 203 ) . ‹ هامش ص 141 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 : 45 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 76 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 77 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ‹ هامش ص 142 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 79 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 80 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) حلية الأولياء ( 3 : 361 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 81 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 4 : 393 ) . ( 4 ) أمالي الصدوق ( ص 367 ) ونقله في عوالم العلوم ( ص 29 ) في حديث طويل . ‹ هامش ص 143 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 84 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) وتهذيب التهذيب ( 7 : 306 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث : 83 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 75 ) . ( 4 ) تحف العقول ( ص 283 ) . ( 5 ) في هامش المصدر السابق .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 143 - 149
يها ، ولاحتمال سقوط القيمة الشرائية لها ، وتسبيبها لعدم ازدهار السوق الإسلامية ، بينما تداولها يؤدي إلى نقيض كل ذلك . فقد قال الإمام عليه السلام : استنماء المال تمام المروءة ( 4 ) وفي نص آخر : استثمار المال ( 5 ) . وإذا قارنا هذه المواقف من الإمام عليه السلام بما كان يجري على أيدي بني أمية من ‹ صفحة 144 › البذخ والترف والإسراف والإهدار لأموال بيت المال ، ومن منع الموالين لعلي عليه السلام من الرزق والعطاء ، ومن حاجة الشخصيات مثل محمد بن أسامة بن زيد ، فضلا عن عوائل الشهداء المغضوب عليهم من قبل الدولة . لو قارنا بين الأمرين : لعلمنا - بكل وضوح - أن لأعمال الإمام عليه السلام بعدا سياسيا ، وهو الوقوف أمام استغلال السلطة للأزمة الاقتصادية عند الناس ، ومنع استدراج الظالمين لذوي الحاجة والمحنة وخاصة المنكوبين إلى مهاوي الانتماء إليها أو حتى الفساد والجريمة ، بالمال الذي استحوذت الدولة عليه ، وأن لا تطبق به سياسة التطميع بعد التجويع . 3 - ضد الرق : إن تحرير الرقيق يشكل ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام بشكل ليس له مثيل في تاريخ الإمامة ، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة . وإذا دققنا في الظروف والملابسات التي عايشها الإمام ، وقمنا ببعض المقارنات بين أعمال الإمام ، والأحداث التي كانت تجري من حوله ، والظروف التي تكتنف عملية الإعتاق الواسعة التي تبناها الإمام زين العابدين عليه السلام ، تتضح الصورة الحقيقية لأهداف الإمام عليه السلام من ذلك . فيلاحظ أولا : 1 - أن أعداد الرقيق ، والعبيد ، كانت تتواتر على البلاد الإسلامية ، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل ، على أثر توالي الفتوحات ( 1 ) . 2 - أن الأمويين كانوا ينتهجون سياسة التفرقة العنصرية ، فيعتبرون الموالي شبه الناس ( 2 ) . 3 - أن الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية ، أخذا من نفس الخليفة ، إلى جميع الأمراء وموظفي الدولة ، لا يمثل الإسلام ، بل كان كل واحد يعارض معنوياته ‹ صفحة 145 › وأخلاقه ، وإن تنادى بشهاداته واسمه . 4 - إن انتشار العبيد والموالي ، وبالكثرة الكثيرة ، ومن دون أي تحصين أخلاقي ، أو تربية إسلامية ، لأمر يؤدي - لا محالة - إلى شيوع البطالة ، والفساد ، وهو ما تركز عليه الدولة الظالمة التي تعمل في هذا الاتجاه بالذات . ويلاحظ ثانيا : 1 - أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يشتري العبيد والإماء ، ولكن لا يبقي أحدهم عنده أكثر من مدة سنة واحدة فقط ، وأنه كان مستغنيا عن خدمتهم ( 1 ) . فكان يعتقهم بحجج متعددة ، وبالمناسبات المختلفة . إذن ، فلماذا كان يشتريهم ؟ ولماذا كان يعتقهم ؟ 2 - إنه عليه السلام كان يعامل الموالي ، لا كعبيد أو إماء ، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية ، مما يغرز في نفوسهم الأخلاق الكريمة ، ويحبب إليهم الإسلام ، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام عليه السلام . 3 - إنه عليه السلام كان يعلم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلامية ، بحيث يخرج الواحد من عنده محصنا بالعلوم التي يفيد منها في حياته ، ويدفع بها الشبهات ، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح . 4 - إنه عليه السلام كان يزود كل من يعتقه بما يغنيه ، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحرة ، كأي فرد من الأمة ، ولا يكون عالة على أحد . إن المقارنة بين هذه الملاحظات ، وتلك ، تعطينا بوضوح القناعة بأن الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق . إن عمل الإمام زين العابدين عليه السلام أنتج نتائج عظيمة ، هي : 1 - حرر مجموعة كبيرة من عباد الله ، وإمائه الذين وقعوا في الأسر ، وتلك حالة استثنائية غير طبيعية ، ومع أن الإسلام كان قد أقرها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التاريخ ، إلا أن الشريعة قد وضعت طرقا عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم ‹ صفحة 146 › الحرية ، وقد استغل الإمام عليه السلام كل الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطرق ، وتحرير العبيد والإماء . وفي عمله تطبيق للشريعة وسننها ، كما يدل عليه الحديث التالي : فعن سعيد بن مرجانة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار ، حتى أنه يعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج ) . فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة ! قال سعيد : نعم . فقال الإمام : ادع لي - مطرفا لغلام له أفره غلمانه - فلما قام بين يديه ، قال : إذهب ، فأنت حر لوجه الله ( 1 ) . إن الإمام زين العابدين عليه السلام لا يخفى عليه ثواب عتق الرقبة ، وإنما أراد أن يؤكد على سنة العتق من خلال تقرير الراوي على سماع الحديث ! وليكون عمله قدوة للآخرين كي يقوموا بعتق ما يملكون من الرقاب . 2 - إن الرقيق المعتقين يشكلون جيلا من التلامذة الذين تربوا في بيت الإمام عليه السلام وعلى يده ، بأفضل شكل ، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحق والمعرفة ، والصدق والإخلاص ، وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة . فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكل ذلك في قرارات النفوس ، في شعورهم أو لا شعورهم ، وينقلونه إلى الأجيال المتعاقبة ، وفي ذلك حفظ الإسلام . ولا ريب أن الإمام زين العابدين عليه السلام لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس ، فلا بد أنه كان يواجه منعا من الجهاز الحاكم ، أو عرقلة لعمله ، أو رقابة شديدة على أقل تقدير . 3 - إن الإمام عليه السلام استقطب ولاء الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحررين ، إذ ‹ صفحة 147 › لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام عليه السلام ، ولا ريب أنهم أصبحوا جيشا ، فإن عددهم بلغ - في ما قيل - خمسين ألفا ، وقيل : مائة ألف ! ( 1 ) . فعن عبد الغفار بن القاسم أبي مريم الأنصاري ، قال : كان علي بن الحسين خارجا من المسجد فلقيه رجل فسبه ! فثارت إليه العبيد والموالي ، فقال علي بن الحسين : مهلا عن الرجل ، ثم أقبل على الرجل ، فقال له : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ - فاستحيى الرجل - فألقى عليه خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم . فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول ( 2 ) . وقد كان لهؤلاء العبيد موقف دفاعي آخر ، عن أهل البيت ، لما سمعوا أنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكة ، وشيخهم محمد بن الحنفية عم الإمام زين العابدين عليه السلام ، في ما رواه البلاذري بسنده عن المشايخ يتحدثون : أنه لما كان من أمر ابن الحنفية ما كان ، تجمع بالمدينة ( ! ) قوم من السودان ، غضبا له ، ومراغمة لابن الزبير . فرأى ابن عمر غلاما له فيهم ، وهو شاهر سيفه ! فقال له : رباح ! قال رباح : والله ، إنا خرجنا لنردكم عن باطلكم إلى حقنا . فبكى ابن عمر ، وقال : اللهم إن هذا لذنوبنا ( 3 ) . وقال عبد العزيز سيد الأهل : وجعل الدولاب يسير ، والزمن يمر وزين العابدين يهب الحرية في كل عام ، وكل شهر ، وكل يوم ، وعند كل هفوة ، وكل خطأ ، حتى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار ، والجواري الحرائر ، وكلهم في ولاء زين العابدين ( 4 ) . ‹ صفحة 148 › حقا لقد تحين الإمام عليه السلام الفرص ، واهتبل حتى الزلة الصغيرة تصدر من أحد الموالي ليهب له الحرية ، فكان يكافئ الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يعتق ، وأركز في خلده ، فلا ينساه . إن الإمام زين العابدين عليه السلام استنفد كل وسيلة للتحرير . وإليك بعض الأحاديث عن ذلك : 1 - نادى علي بن الحسين عليه السلام مملوكه مرتين ، فلم يجبه ، ثم أجابه في الثالثة ، فقال له الإمام : يا بني ! أما سمعت صوتي ؟ قال المملوك : بلى ! قال الإمام : فما بالك لم تجبني ؟ قال المملوك : أمنتك ! قال الإمام : الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني ( 1 ) . 2 - عن عبد الرزاق ، قال : جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه ، فشقه ، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله عز وجل يقول : * ( والكاظمين الغيظ ) * . فقال لها : قد كظمت غيظي . قالت : * ( والعافين عن الناس ) * . فقال لها : قد عفا الله عنك . قالت : * ( والله يحب المحسنين ) * [ آل عمران ( 2 ) الآية 124 ] . قال : اذهبي ، فأنت حرة ( 2 ) . فكأن هذا الحوار كان امتحانا واختبارا ، نجحت فيه هذه الجارية ، بحفظها هذه الآية ، واستشهادها بها ، فكانت جائزتها من الإمام عليه السلام أن تعتق ! 3 - قال عبد الله بن عطاء : أذنب غلام لعلي بن الحسين ذنبا استحق منه العقوبة ، فأخذ له السوط ، فقال : * ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) * ‹ صفحة 149 › . [ الجاثية ( 45 ) الآية ( 14 ] . فقال الغلام : وأما أنا كذلك ، إني لأرجو رحمة الله وأخاف عقابه . فألقى السوط ، وقال : أنت عتيق ( 1 ) . فلقد لقنه الإمام عليه السلام بقراءة الآية ، وهو يختبر معرفته بمعناها وذكاءه ، فأعتقه مكافأة لذلك . 4 - وكان عند الإمام عليه السلام قوم ، فاستعجل خادم له شواءا كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعا ، وسقط السفود من يده على بني للإمام عليه السلام أسفل الدرجة ، فأصاب رأسه ، فقتله ، فوثب الإمام عليه السلام ، فلما رآه ، قال للغلام : إنك حر ، إنك لم تتعمده ، وأخذ في جهاز ابنه ( 2 ) . ولعملية الإعتاق على يد الإمام عليه السلام صور مثيرة أحيانا ، تتجاوز الحسابات المتداولة : ففي الحديث المتقدم عن سعيد بن مرجانة ، وجدنا أن الإمام عليه السلام قد أعتق غلاما اسمه ( مطرف ) وجاء في ذيل الحديث ، أن عبد الله بن جعفر الطيار كان قد أعطى الإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الغلام ( ألف دينار ) أو ( عشرة آلاف درهم ) ( 3 ) . ففي إمكان الإمام عليه السلام أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي ، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 143 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 84 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) وتهذيب التهذيب ( 7 : 306 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث : 83 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 75 ) . ( 4 ) تحف العقول ( ص 283 ) . ( 5 ) في هامش المصدر السابق . ‹ هامش ص 144 › ( 1 ) لاحظ فجر الإسلام لأحمد أمين ( ص 90 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 284 ) . ‹ هامش ص 145 › ( 1 ) لاحظ الإقبال للسيد ابن طاوس ( ص 477 ) . ‹ هامش ص 146 › ( 1 ) أخرجه البخاري في صحيحه ( 3 : 188 ) كتاب العتق والكفارات ، ومسلم في صحيحه ( 10 : 152 ) في العتق ، والترمذي في صحيحه ( 4 : 114 ) في النذور رقم ( 1541 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 136 ) . ‹ هامش ص 147 › ( 1 ) لاحظ بحار الأنوار ( 46 : 104 - 105 ) . ( 2 ) صفوة الصفوة لابن الجوزي ( 2 : 100 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 112 ) وكشف الغمة ( 2 / 81 ) وبحار الأنوار ( 46 / 99 ) وعوالم العلوم ( ص 115 ) . ( 3 ) أنساب الأشراف ( الجزء الثالث ) ( ص 295 ) . ( 4 ) زين العابدين ، لسيد الأهل ( ص 47 ) . ‹ هامش ص 148 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) وشرح الأخبار ( 3 : 260 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) . ‹ هامش ص 149 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 113 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 244 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 118 ) مختصر ابن منظور ( 17 - 244 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 82 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 149 - 158
أكثر من واحد ، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص - مع غلاء ثمنه - يحتوي على معنى أكبر من العتق : فهو تطبيق لقوله تعالى : * ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) * [ سورة آل عمران ( 3 ) الآية : 92 ] . وهو إيماء إلى أن الإنسان لا يعادل بالأثمان ، مهما غلت وعلت أرقامها ! ولعل السبب الأساسي هو : أن غلاء ثمن الغلام لا يكون إلا من أجل أدبه ، وذكائه ، وحنكته ، وقوته ، وغير ذلك مما يجعله فردا نافعا ، فإذا صار حرا ، وهو ‹ صفحة 150 › متصف بهذه الصفات ، يفيد المجتمع ككل ، فهو أفضل - عند الإمام عليه السلام - من أن يكون عبدا يستخدمه شخص واحد لأغراضه الخاصة ، مهما كانت شريفة ! وبهذا واجه الإمام زين العابدين عليه السلام مشكلة الرق ، واستفاد منها ، في صالح المجتمع والدين ( 1 ) . وبما أنه عليه السلام كان يحتل موقعا رفيعا بين الأمة الإسلامية جمعاء : إما لأنه إمام مفترض الطاعة ، عند المعتقدين بإمامته عليه السلام . أو لأنه من أفضل فقهاء عصره ، والمعترف بورعه وتقواه وعلمه ، عند الكافة . أو لأنه من سادات أهل البيت الذين يمتازون بين الناس بالطهارة والكرامة والشرف والمجد . فقد كان عمله حجة معتبرة ، وقدوة صالحة ، للمسلمين كافة ، يقتدون به في تحرير الرقيق ، ومحو العنصرية المقيتة . وبعد هذه الصور الرائعة : فهل يصح أن يقال : ( إن زين العابدين عليه السلام كان منعزلا عن السياسة ، أو مبتعدا عنها ) وهو يقوم بهذا النشاط الاجتماعي الواسع . ‹ صفحة 151 ›
|