ثانيا : في مجال الفكر والعقيدة جاء الإسلام ليرسخ الحق بين الناس ، ومن أهم ما هدف إلى تثبيت قواعده وتشييد أركانه هو ( التوحيد الإلهي ) فإلى جانب الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين ، سعى لمحو آثار الوثنية ، وكسر أصنام الجاهلية , لما استتبعت من تحميق الناس ، وتعميق الجهل والذل في نفوسهم على حساب تضخم الثروة عند الطغاة ، وتوغل الفساد في المجتمع الإنساني . ولما كانت الوثنية والصنمية فكرة ناشئة من عقيدة تجسيم الإله وتشبيهه بالخلق ، سعى الإسلام لنفي التجسيم والتشبيه ، ودعا إلى التوحيد في الذات والصفات ، والتنزيه عن كل ما يمت إلى المخلوقات ، كل ذلك بالدلائل والبراهين والآيات البينات . لكن الاتجاه الرجعي تسلط على المسلمين في فترة مظلمة من تاريخ الإسلام ، بدأت بتسنم الحزب الأموي أريكة الخلافة ، وسيطرته من خلالها على ربوع البلاد ورقاب العباد ، أولئك الذين كانوا آخر الناس إسلاما ، وهم مسلمة الفتح ، ولم تنمح من أذهانهم صور الأصنام ، ولم يزل من قلوبهم حب الجاهلية وعباداتها ، فكما كانوا في الجاهلية من أشد الناس تمسكا بالصنمية ورسوم الجاهلية الجهلاء ودعاة الشرك والفجور ، ورعاة الدعارة والعهارة والخمور ، فكذلك وبتلك الشدة أمسوا في الإسلام أعداء التوحيد والتنزيه ومحاربي العفاف والإنصاف . وعندما بلي المسلمون بولاة من هؤلاء ، بدأوا تشويه الصبغة الإسلامية بانتهاك الأعراض والحرمات ، وامتهان الشخصيات والكرامات ، وتشويش الأفكار والمعتقدات ، وتزييف الوجدان وإثارة الأضغان ، وتعميق العداء والبغضاء ، وتعميم الجور والعدوان . عقيدة الجبر : وكان من أخطر ما روجوه بين الأمة وأكدوا على إشاعته هو فكرة ( الجبر الإلهي ) بهدف التمكن من السلطة التامة على مصير الناس ، والهيمنة على الأفكار بعد الأجسام . ‹ صفحة 89 › فإن الأمة إذا اعتقدت بالجبر ، فذلك يعني : أن كل ما يجري عليها فهو من الله وبإذنه ، فما يقوم به الخليفة من فساد وظلم وجور وقتل ونهب وغصب ، فهو من الله - تعالى عن ذلك - استكانت الأمة للظالم ولتعدياته ، ولم تحاول أن تتخلص من سيطرته ، ولا دفع عدوانه ، بل لم تفكر في الخلاص منه ، لأن ذلك يكون مخالفة لإرادة الله ومشيئته ، فالخليفة والأمير والحاكم والوالي إنما ينفذون إرادة الله ، وهم يد الله على عباده ! فكيف يرجى من أمة كهذه أن تقوم بوجه سلطة الظالم واعتداءاته وتجاوزاته ( 1 ) . لقد أظهر الأمويون عنادهم للإسلام حتى في مسائل الدين ، ومن عندهم ظهرت الفتاوي في الشام بخلاف ما في العراق ، كما ظهر القول بالجبر في أصول الدين . وأول ما انتحله معاوية من التفرقة - بين المسلمين - هو القول بالجبر ، فقد كان هو أول من أظهره . قال القاضي عبد الجبار في ( المغني في أبواب العدل والتوحيد ) : أظهر معاوية أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ، ليجعله عذرا في ما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه ، وأن الله جعله إماما وولاه الأمر ، وفشا ذلك في ملوك بني أمية ( 2 ) . وكان الأمويون يقولون بالجبر ( 3 ) . ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم السلام فكرة الجبر بكل قوة ووضوح منذ زمان أمير المؤمنين عليه السلام ( 4 ) . ولكن لما استفحل أمر بني أمية ، وملكوا أنفاس الناس ، وتمكنوا من عقولهم وأفكارهم ، انفرد معاوية في الساحة ، وغسل الأدمغة بفعل علماء الزور ووعاظ السلاطين . فكان معاوية يقول في خطبه : ( لو لم يرني الله أهلا لهذا الأمر ما تركني وإياه ولو ‹ صفحة 90 › كره الله تعالى ما نحن فيه لغيره ) . وقال معاوية في بعض خطبه : ( أنا عامل من عمال الله أعطي من أعطاه الله وأمنع من منعه الله ولو كره الله أمرا لغيره ) . فأنكر عليه عبادة بن الصامت وغيره من الصحابة . نقله ابن المرتضى وقال : هذا صريح الجبر ( 1 ) . وهذا هو الذي شدد قبضة الأمويين على البلاد والعباد ، ومكنهم من قتل أبي عبد الله الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل جرأة ، ومن دون نكير ! وقد أظهر يزيد ، أن الحسين عليه السلام إنما قتله الله ! فأعلن ذلك في مجلسه وأمام الناس . لكن الإمام السجاد عليه السلام لم يترك ذلك يمر بلا رد ، فانبرى له وقال ليزيد : قتل أبي الناس ( 2 ) . وقبل ذلك في الكوفة قال عبيد الله : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟ فقال الإمام عليه السلام * ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) * [ سورة الزمر ( 39 ) الآية ( 42 ) ] . فغضب عبيد الله وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقية للرد علي ، اذهبوا به فاضربوا عنقه . ثم صعد المنبر ، وقال : الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين وحزبه ( 3 ) . إن الموقف كان خطرا جدا ، فالطاغية في عتوه ، ونشوة الانتصار تغمره ، فالرد عليه في مثل هذه الحالة يعني منازعته سلطانه . ولكن الإمام السجاد عليه السلام وهو أسير ، يعاني آلام الجرح والمرض ، لم يتركه يلحد في دين الله ، ويمرر فكرة الجبر أمامه ، على الناس البسطاء ، الفارغين من المعارف ، التي نص عليها القرآن بوضوح . وليس غرضنا من سرد هذه الأخبار إلا نقل رد الإمام عليه السلام على مزاعم الحكام ‹ صفحة 91 › بنسبة القتل إلى الله ، بينما هو من فعل الناس ، والتذكير بالفرق بين الوفاة للأنفس واسترجاعها الذي نسب في القرآن إلى الله حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ، وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قبل القاتل قبل حلول الموت المذكور . إن تحدي الحكام وفي مجالسهم ، وبهذه الصراحة ينبئ عن شجاعة وبطولة ، وهو تحد للسلطة أكثر من أن يكون ردا على انحراف في العقيدة فقط . وفي حديث رواه الزهري - من كبار علماء البلاط الأموي - أجاب الإمام زين العابدين عليه السلام عن هذا السؤال : أبقدر يصيب الناس ما أصابهم ، أم بعمل ؟ أجاب عليه السلام بقوله : إن القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد . . . ولله فيه العون لعباده الصالحين . ثم قال عليه السلام : ألا ، من أجور الناس من رأى جوره عدلا ، وعدل المهتدي جورا ( 1 ) . وعقيدة التشبيه والتجسيم : وقد تجرأ أعداء الإسلام - بعد سيطرتهم على الحكم - على المساس بأساس العقيدة الإسلامية ، وهو التوحيد الإلهي ، وذلك بإدخال شبه التجسيم والتشبيه في أذهان العامة ، لإبعادهم عن الحق ، وجرهم إلى صنمية الجاهلية . ولقد استغل الأعداء جهل الناس ، وبعدهم عن المعارف ، حتى اللغة العربية ! فموهوا عليهم النصوص المحتوية على ألفاظ الأعضاء ، كاليد والعين ، مضافة في ظاهرها إلى الله تعالى ، وتفسيرها بمعانيها المعروفة عند البشر ، بينما هي مجازات مألوفة عند فصحاء العرب في شعرهم ونثرهم ، يعبرون باليد عن القوة والقدرة ، وبالعين عن البصيرة والتدبير ، وهكذا . . . وقد قاوم الإسلام منذ البداية هذه الأفكار المنافية للتوحيد والتنزيه ، وقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار بمقاومتها وإبطال شبهها ، وفضح أغراض ناشريها ودعاتها . وفي عهد الإمام السجاد عليه السلام ، وبعد أن استشرى الوباء الأموي بالسيطرة التامة ، ‹ صفحة 92 › كان أمر هؤلاء الملحدين قد استفحل ، وتجاسروا على الإعلان عن هذه الأفكار بكل وقاحة ، في المجالس العامة ، حتى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت مهمة الإمام السجاد عليه السلام حساسة جدا ، لكونه ممثلا لأهل البيت عليهم السلام ، بل الرجل الوحيد ذا الارتباط الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية بأقرب الطرق وأوثقها ، وبأصح الأسانيد ، مصحوبا بالإخلاص لهذا الدين وأهله ، وعمق التفكير وقوته ، وبالشكل الذي ليس لأحد إنكار ذلك أو معارضته . ومع ما كان عليه الإمام السجاد عليه السلام من قلة الناصر ، فقد وقف أمام هذا التيار الإلحادي الهدام ، وأقام بأدلته وبياناته سدا منيعا في وجه إحياء الوثنية من جديد ! فقام الإمام بعرض النصوص الواضحة التعبير عن الحق ، والناصعة الدلالة على التوحيد والتنزيه ، مدعومة بقوة الاستدلال العقلي ، وكشف عن التصور الإسلامي الصحيح ، وشهر سيف الحق والعلم والعقل على تلك الشبه الباطلة : ولنقرأ أمثلة من تلك النصوص : جاء في الحديث أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ، إذ سمع قوما يشبهون الله بخلقه ، ففزع لذلك ، وارتاع له ، ونهض حتى أتى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوقف عنده ، ورفع صوته يدعو ربه ، فقال في دعائه : ( إلهي بدت قدرتك ، ولم تبد هيبة جلالك ، فجهلوك ، وقدروك بالتقدير على غير ما أنت به مشبهوك . وأنا برئ - يا إلهي - من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شي - يا إلهي - ولن يدركوك . فظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك ، لو عرفوك . وفي خلقك - يا إلهي - مندوحة عن أن يتأولوك . بل ساووك بخلقك ، فمن ثم لم يعرفوك . واتخذوا بعض آياتك ربا ، فبذلك وصفوك . فتعاليت - يا إلهي - عما به المشبهون نعتوك ) ( 1 ) . ‹ صفحة 93 › فوجود الإمام عليه السلام في المسجد النبوي ، وإظهاره الفزع من ذلك التشبيه ، وارتياعه لذلك الكفر المعلن ، ونهوضه ، والتجاؤه إلى القبر الشريف ، ورفعه صوته بالدعاء . . . كل ذلك ، الذي جلب انتباه الراوي ، ولا بد أنه كان واضحا للجميع ، إعلان منه عليه السلام للاستنكار على ذلك القول ، وأولئك القوم الذين تعمدوا الحضور في المسجد والتجرؤ على إعلان ذلك الإلحاد والكفر . وهو تحد صارخ من الإمام عليه السلام للسياسة التي انتهجتها الدولة وكانت وراءها بلا ريب ، وإلا ، فمن يجرؤ على إعلان هذه الفكرة المنافية للتوحيد لولا دعم الحكومة ، ولو بالسكوت ! إن قيام الإمام السجاد عليه السلام بهذه المعارضة الصريحة وبهذا الوضوح يعطي للمواجهة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 87 › ( 1 ) الاحتجاج ( ص 319 ) . ( 2 ) الاحتجاج ( ص 312 ) . ( 3 ) دائرة المعارف الشيعية ( ج 2 ص 66 ) . ‹ هامش ص 89 › ( 1 ) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( ص 85 - 86 ) . ( 2 ) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( 2 : 46 ) . ( 3 ) تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، لأبي ريان ( ص 148 - 150 ) . ( 4 ) لاحظ الاحتجاج ( ص 208 ) في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام . ‹ هامش ص 90 › ( 1 ) المنية والأمل ( ص 86 ) . ( 2 ) الاحتجاج ( 311 ) . ( 3 ) الإرشاد للمفيد ( ص 244 ) ولاحظ صدره في تاريخ دمشق ( الحديث 25 ) . ‹ هامش ص 91 › ( 1 ) التوحيد للصدوق ( ص 366 ) . ‹ هامش ص 92 › ( 1 ) كشف الغمة ( 2 : 89 ) وانظر بلاغة الإمام علي بن الحسين عليه السلام ( ص 17 ) وقد رواه الصدوق في أماليه ( ص 487 ) المجلس ( 89 ) موقوفا على الرضا عليه السلام ، فلاحظ . ‹ هامش ص 93 › ( 1 ) لاحظ الفصل لابن حزم ( 4 : 204 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 93 - 99
بعدا آخر ، أكثر من مجرد البحث العلمي ، والنقاش العقيدي والفكري . إنه بعد التحدي للدولة التي كانت تروج لفكرة التجسيم والتشبيه ، وتفسح المجال للإعلان بها في مكان مقدس مثل الحرم النبوي الشريف ، في قاعدة الإسلام ، وعاصمته العلمية ، المدينة المنورة ! ! ومهزلة الإرجاء : الإرجاء ، بمعنى عدم الحكم باسم ( الكفر ) على من آمن بالله ، في ما لو أذنب ما يوجب ذلك ، وأن حكما مثل هذا موكول إلى الله تعالى ، ومرجأ إلى يوم القيامة ، وأن الذنوب - مهما كانت - والمبادئ السياسية مهما كانت ، لا تخرج المسلم عن اسم الإيمان ، ولا تمنع من دخوله الجنة . وكان الملتزمون بالإرجاء ، يتغاضون عما يقوم به الحكام والسلاطين مهما كانت أفعالهم مخالفة لأحكام الإسلام في آيات قرآنه ونصوص كتابه وسنة رسوله . بل كان منهم من يقول : إن الإيمان هو مجرد القول باللسان ، وإن علم من القائل الاعتقاد بقلبه بالكفر ، فلا يسمى كافرا . ومنهم من يقول : إن الإيمان هو عقد القلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه فلا يسمى كافرا ( 1 ) . ‹ صفحة 94 › وهذه المبادئ - مهما كان منشؤها - كانت ولا زالت تخدم الحكام الجائرين المبتعدين عن الإسلام في كل أعمالهم وتصرفاتهم ، لأن أصحاب هذه المبادئ كانوا - ولا يزالون - يرون أن مهادنة هؤلاء الحكام صحيحة وغير منافية للشرع وللتدين بالإسلام . فكانت - كما يقول أحمد أمين - : هذه المبادئ تخدم بني أمية - ولو بطريق غير مباشر - وأصحابها كانوا يرون أن مهادنة بني أمية صحيحة ، وأن خلفاءهم مؤمنون ، لا يصح الخروج عليهم . فكان أن الأمويين لم يتعرضوا لهم بسوء ، كما تعرضوا للمعتزلة والخوارج والشيعة ( 1 ) . بل أصبح الإرجاء - كما نقل الجاحظ عن المأمون : - دين الملوك ( 2 ) . وهذه المزعومة - الإرجاء - باطلة أساسا ، لدلالة النصوص الواضحة على أن العمل - فعلا وتركا - له أثر مباشر في صدق أسماء ( الإيمان والكفر ) . ولذلك أعلن أئمة المسلمين بصراحة : أن الإيمان قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان . فمن خالف ما ثبت أنه من الدين ضرورة فهو محكوم باسم الكفر ، وتجري عليه أحكام هذا الاسم ، سواء أنكره بلسانه ، أو بقلبه ، أو بعمله ، كقاتل النفس المحترمة وتارك الصلاة ، مثلا . وفي قبال مخالفات الحكام الظالمين ، المعلنة والمخفية ، قاوم المسلمون بكل شدة ، وحاسبوهم بكل صرامة ، حتى قتل عثمان - وهو خليفة - من أجل بعض مخالفاته الواضحة . لكن ، لما تربع بنو أمية على الحكم ، بدأوا يحرفون عقيدة الناس بترويج كفرهم ، وقتل المؤمنين العارفين بالحقائق ، وإجراء سياسة التطميع والتجويع ، وغسل الأدمغة والتحميق ، مستمدين بوعاظ السلاطين من أمثال الزهري : فقد ورد في الأثر أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري قال : حدثنا بحديث ‹ صفحة 95 › النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، وإن زنا وإن سرق ( 1 ) . فهشام حافظ للحديث ، لكنه يريد من الزهري تقريرا عليه وتصديقا به ، وكأنه يقول له : إن مثل هذا الحديث يعجبنا ويفيدنا فاروه لنا . ولم يكذب الزهري هذا الحديث المجعول من قبل المرجئة ، وإنما قال لهشام : أين يذهب بك ، يا أمير المؤمنين ! كان هذا قبل الأمر والنهي . لكن إذا كان قبل الأمر والنهي فلماذا يذكر الزنا والسرقة ، أو هما كانتا محرمتين ! ؟ فعاد أمر الأمة إلى أن لم ير المضحون والمخلصون ، وفي طليعتهم أهل البيت عليهم السلام إلا أن ينهضوا في طلب الإصلاح . وقام الإمام الحسين عليه السلام بالتضحية الكبرى في كربلاء ، لإنقاذ الإسلام مما ابتلي به من تدابير خطرة ، ومؤامرات لئيمة دبرها بنو أمية . وقد أدت تلك التضحية العظيمة ، إلى فضح حكام بني أمية ، حيث إن عملهم الظالم ذلك ، الذي لم يجدوا في الأمة منكرا له ولا نكيرا عليه ، هون عليهم الإقدام على أعمال فظيعة أخرى بعلانية ووقاحة ، بشكل لم يبق مبرر لإطلاق اسم الإسلام والإيمان عليهم ، ولذلك نجد أن الذين أعلنوا عن ثورة المدينة قبيل وقعة الحرة ، كانت دعواهم : ( أن يزيد لرجل ليس له دين ) ( 2 ) والأمويون تأكيدا على كفرهم وخروجهم على كل المقدسات ، استباحوا مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحرمه ، وقتلوا آلاف الناس ، وفيهم جمع من أبناء صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهتكوا الأعراض وانتهبوا الأموال ( 3 ) . وعقبوا ذلك بالهجوم على الكعبة والمسجد الحرام وحرم الله الآمن ، فأحرقوها وهتكوا حرمتها ، وسفكوا الدماء فيها ، ولم يرقبوا في شي عملوه أيام حكمهم الدموي كرامة لأحد ، ولا حرمة لشئ مقدس . ‹ صفحة 96 › والمرجئة - مع ذلك - يقولون في الأمويين إنهم الحكام الذين تجب طاعتهم ، وإنهم مؤمنون لا يجوز الحكم عليهم بالكفر ، ولا لعنهم ، ولا التعرض لهم ولا الخروج عليهم ! إن هذا الانحراف الذي عرض لأمة الإسلام ، كان ردة خفية تمرر باسم الإسلام وعلى يد الخليفة والمجرمين الممالئين له . فكانت جهود الإمام السجاد عليه السلام هي التي أعقبت إحياء الروح الإسلامية واستتبعت الصحوة للمسلمين ، فرص الصفوف ، فتمكن ابنه المجاهد العظيم زيد بن علي عليه السلام من إطلاق الثورة ضدهم . وتلك التعاليم السجادية هي التي جعلت أمر كفر الأمويين وبطلان حكمهم ، أوضح من الشمس ، وألجأت أبا حنيفة المتهم بالإرجاء ( 1 ) أن يرى ولاة بني أمية مخالفين لتعاليم الدين وأعلن وأظهر البغض والكراهية لدولتهم ، وساهم في حركة زيد الشهيد ، وناصر أهل البيت بالمال والعدة ، وكان يفتي - سرا - بوجوب نصرة زيد وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي ب ( الإمام والخليفة ) ( 2 ) . وفي الإمامة والولاية : . كانت الإمامة في نظام الدولة الإسلامية ، أعلى المناصب الحكومية ، ولذا كان الحكام يسمون أنفسهم أئمة للناس ، وأمراء للمؤمنين ، بلا منازع . ولا يدعي أحد غير الحاكم ، لنفسه منصب الإمامة إلا إذا لم يعترف بالحاكم ولا حكومته : ومعنى هذا الادعاء معارضته للنظام ولمقام الخليفة نفسه . والإمام السجاد عليه السلام قد أعلن عن إمامة نفسه بكل وضوح وصراحة ومن دون أية تقية وخفاء . ولعل لجوءه عليه السلام إلى هذا الأسلوب المكشوف كان من أجل أن بني أمية بلغ أمر فسادهم وخروجهم عن الإسلام ، وعدم صلاحيتهم للحكم على المسلمين وإدارة ‹ صفحة 97 › البلاد ، فضلا عن الإمامة ، حدا من الوضوح لم يمكن ستره على أحد . فكان من اللازم الإعلان عن إمامة السجاد عليه السلام كي لا يبقى هذا المنصب شاغرا ، وإن لم تكن الإمامة الحقة حاكمة ظاهرا . ومهما يكن ، فإن خطورة إعلان الإمام السجاد عليه السلام عن إمامة نفسه وأهل بيته ، لا تخفى على أحد ممن عرف جور بني أمية وطغيانهم وقسوتهم في مواجهة المعارضين . وقد تعددت الأحاديث الناقلة لهذا الإعلان ، حسب تعدد المناسبات ، والظروف : 1 - ففي الحديث الذي أورده ابن عساكر : قال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي : رأيت علي بن الحسين ، وله شعر طويل ، فقال : إلى من يذهب الناس ؟ قال : قلت : يذهبون هاهنا وهاهنا ! قال : قل لهم : يجيئون إلي ( 1 ) . 2 - قال له أبو خالد الكابلي : يا مولاي ! أخبرني كم يكون الأئمة بعدك ؟ فقال : ثمانية ، لأن الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر إماما ، عدد الأسباط ، ثلاثة من الماضين ، وأنا الرابع ، وثمانية من ولدي ، أئمة أبرار ، من أحبنا وعمل بأمرنا كان في السنام الأعلى ، ومن أبغضنا أو رد واحدا منا فهو كافر بالله وبآياته ( 2 ) . 3 - وقال عليه السلام : نحن أئمة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغر المحجلين ، وموالي المؤمنين ، ونحن أمان أهل الأرض ، كما أن النجوم أمان لأهل السماء . . . ولو ما في الأرض منا لساخت بأهلها ، ولم تخل الأرض - منذ خلق الله آدم - من حجة لله فيها ، ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو ، إلى أن تقوم الساعة ، من حجة لله فيها ، ولولا ذلك لم يعبد الله ( 3 ) . 4 - وقال عليه السلام : نحن أفراط الأنبياء ، وأبناء الأوصياء ، ونحن خلفاء ‹ صفحة 98 › الأرض ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن أولى الناس بدين الله ( 1 ) . 5 - وكان يقول في دعائه يوم عرفة : اللهم ! إنك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علما لعبادك ومنارا في بلادك بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة إلى رضوانك ، وافترضت طاعته ، وحذرت معصيته ، وأمرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وألا يتقدمه متقدم ، ولا يتأخر عنه متأخر ، فهو عصمة اللائذين ، وكهف المؤمنين ، وعروة المتمسكين ، وبهاء العالمين . اللهم فأوزع لوليك شكر ما أنعمت به عليه ، وأوزعنا مثله فيه ، وآته من لدنك سلطانا نصيرا ، وافتح له فتحا يسيرا ، وأعنه بركنك الأعز . . . وأقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنن رسولك صلواتك - اللهم - عليه وآله . وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك ، وأجل به صدأ الجور عن طريقتك ، وابن به الضراء من سبيلك ، وأزل به الناكبين عن صراطك ، وامحق به بغاة قصدك عوجا ، وألن جانبه لأوليائك ، وابسط يده على أعدائك ( 2 ) . ففي يوم عرفة ، وفي موقف عرفات ، حيث تتجه القلوب إلى الله بلهفة ، وحيث الأنظار شاخصة إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والآذان صاغية إلى بقية العترة ، لتسمع دعاءه في ذلك اليوم الشريف ، وذلك الموقف المنيف ، يدعو بهذه الكلمات ليعرف المسلمين بما يجب أن يكون عليه الإمام الحق من صفات ، وما عليه وله من حقوق وواجبات . ولا يرتاب المتأمل : أن في عرض مثل هذه الأوصاف والواجبات - التي يبتعد عنها الحكام المدعون للإمامة أشواطا ومسافات طويلة - يعد تعريضا بهم ، وتحديا لوجودهم . وأن الإمام السجاد عليه السلام لما كان يعرف الإمامة بهذا الشكل ، فهو - بلا ريب ‹ صفحة 99 › يستبعد عنها كل أدعياء الإمامة من غير ما لياقة ، فضلا عن الاستحقاق . فأين أولئك المغمورون في الرذيلة والظلم والجهل بالدين ، بل المعارضون له عقائ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 93 › ( 1 ) لاحظ الفصل لابن حزم ( 4 : 204 ) . ‹ هامش ص 94 › ( 1 ) ضحى الإسلام ( 3 : 324 ) . ( 2 ) الاعتبار وسلوة العارفين ( ص 141 ) . ‹ هامش ص 95 › ( 1 ) الاعتبار وسلوة العارفين ( ص 141 ) . ( 2 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 420 ) . ( 3 ) انظر كتب التاريخ في حوادث سنة ( 63 ه ) وتاريخ المدينة المنورة وترجمة مسلم بن عقبة ، وعبد الله بن الغسيل . ‹ هامش ص 96 › ( 1 ) لاحظ تاريخ بغداد ( ج 13 ) وانظر الكنى والألقاب ( 1 / 52 ) . ( 2 ) لاحظ ضحى الإسلام ، لأحمد أمين ( 3 : 274 ) . ‹ هامش ص 97 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 21 ) ومختصره لابن منظور ( 17 / 531 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 236 - 237 ) . ( 3 ) أمالي الصدوق ( ص 112 ) الاحتجاج ( ص 317 ) . ‹ هامش ص 98 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين ( ص 60 ) . ( 2 ) الصحيفة السجادية ، الدعاء رقم ( 47 ) . ‹ هامش ص 99 › ( 1 ) الصحيفة السجادية الدعاء رقم ( 48 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 240 - 241 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 99 - 104
ئديا وعمليا ، أين هم من هذه الإمامة المقدسة ! ؟ 6 - وكان يقول في دعائه ليوم الجمعة ، والأضحى : اللهم : إن هذا المقام لخلفائك ، وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها ، قد ابتزوها ، وأنت المقدر لذلك لا يغالب أمرك . حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين ، مقهورين ، مبتزين ، يرون حكمك مبدلا ، وكتابك منبوذا ، وفرائضك محرفة عن جهة إشراعك ، وسنن نبيك متروكة . اللهم : العن أعداءهم من الأولين والآخرين ، ومن رضي بفعالهم وأشياعهم ، وأتباعهم ( 1 ) . ويوصي الإمام إلى ولده محمد الباقر فيقول : بني : إني جعلتك خليفتي من بعدي ، لا يدعيها في ما بيني وبينك أحد إلا قلده الله يوم القيامة طوقا من النار ( 2 ) . بل ، أعلن خلافة ولده الباقر وإمامته ، للزهري ، وهو من علماء البلاط الأموي ، في ما روي عنه ، قال : دخلت على علي بن الحسين عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه : فقلت : يا بن رسول الله ، إن كان أمر الله ، ما لا بد لنا منه ، فإلى من نختلف بعدك ؟ فقال عليه السلام : يا أبا عبد الله ، إلى ابني هذا - وأشار إلى محمد الباقر عليه السلام - فإنه وصيي ، ووارثي ، وعيبة علمي وهو معدن العلم وباقره . قال الزهري : قلت : هلا أوصيت إلى أكبر ولدك ؟ قال عليه السلام : يا أبا عبد الله ، ليست الإمامة بالكبر والصغر ، هكذا عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا وجدناه مكتوبا في اللوح والصحيفة . ‹ صفحة 100 › قال الزهري : قلت : يا بن رسول الله ، كم عهد إليكم نبيكم أن يكون الأوصياء بعده ؟ قال عليه السلام : وجدناه في الصحيفة واللوح ( اثنا عشر اسما ) مكتوبة إمامتهم . ثم قال عليه السلام : يخرج من صلب محمد ابني سبعة من الأوصياء فيهم ( المهدي ) ( 1 ) . إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب . والمهم في الأمر أن الإمام السجاد عليه السلام بصراحته هذه ، وإعلانه عن أهم ما يرتبط باستمرار العقيدة ودوامها ، تمكن من تثبيت الإمامة بعد أن تعرض التشيع لأوحش الحملات في ذلك التأريخ ، فأدت بالعقيدة إلى تضعضع لم يسبق له مثيل ! كما أدت إلى يأس في النفوس ، وتمزق بين صفوف الشيعة بما لا يتصور ! فكانت مواقف الإمام السجاد عليه السلام هذه ، الواضحة ، والجريئة ، والمكررة ، سببا للملمة الكوادر من جديد ، ورص الصفوف ثانية ، وتكريس الجهود المكثفة ، واستعادة القوى المهدورة ، والتركيز على ترسيخ القواعد الأصلية من أن تحرف أو يشوبها التشويه لتكوين الأرضية الصالحة لبذر علوم آل محمد على أيدي الأئمة لا سيما الباقر والصادق عليهما السلام . إثارة خلافة الشيخين : إن بني أمية ، الذين أحدثوا مذبحة كربلاء ، ومجزرة الحرة ، ومأساة عين الوردة ، لم يقنعوا بتصفية التشيع جسديا ، بقتل الأعداد الكبيرة من أنصار أهل البيت عليهم السلام ، ومعهم الأعيان والرؤساء ، بمن فيهم الإمام الحسين عليه السلام ، وإنما حاولوا - أيضا - القضاء على التشيع فكريا وحضاريا ، واتبعوا سبل الدعاية المغرضة ، وإثارة الناس الغوغاء على كل ما يمت إلى أهل البيت عليهم السلام من فكر وتراث وشعار ، حتى حاربوا أسماءهم ، فكان من يتسمى بها مهددا . ومن أخبث أساليبهم بث بذور الفرقة والشقاق بين المسلمين ، ليتمكنوا من القضاء على الإسلام كله ، ومن خلال ضرب المذاهب بعضها ببعض ، ومما ركزوا عليه في هذه ‹ صفحة 101 › السبيل هو إثارة موضوع ( خلافة الشيخين : أبي بكر وعمر ) اللذين حكما الأمة باسم الخلافة فترة غير قصيرة ، وأصبحت خلافتهما مثارا للبحث بين كل من الشيعة وأهل السنة . فالخلافة والإمامة ، يراها الشيعة حقا لأئمة أهل البيت عليهم السلام بالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق إلا عن الوحي الإلهي ، وقد التزموا بهذا على أنه واحد من أصول مذهبهم ومعتقدهم ، وهو المميز لهم عن أهل السنة ، الملتزمين بخلافة من استولى على أريكة الحكم ، كما حدث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ حكم أبو بكر ، ثم عمر بدعوى وأن ذلك تم برضا من الناس الحاضرين ، وأن ذلك كاف في تحقق الحق لهما في الخلافة ، وهو الدليل على فضلهما ومنزلتهما عند المسلمين الذين سكتوا على ذلك . ومن الواضح - تاريخيا - أن الجميع لم يحضروا مجلس البيعة للشيخين في سقيفة بني ساعدة . ومجرد السكوت في مثل هذا الموقف لا يدل على الرضا ، لاحتمال الخوف ، والمداراة ، والغفلة ، أو الطمع في الحكم والمنصب . مع حصول الاعتراض العلني قولا وفعلا من بعض كبار الصحابة . وتعيين بعض الناس ورضاهم وسكوتهم ، أمور إن دلت على الفضل والمنزلة عندهم ، فهي لا تدل على الرضا عند الله ورسوله وجميع المؤمنين ! ومع وجود هذه المفارقات ، فإن في المسلمين من لم تثبت عندهم خلافة الشيخين بطريق من الشرع الكريم ، فلذا رفضوا هذا الموقف ، وإن وقع ، والتزموا بما هو الحق ، وإن لم يقع ! ولقد جوبه هذا الالتزام بالاستنكار العنيف من قبل أهل السنة فاعتبروه ( كفرا ) وأحلوا دماء ( الرافضة ) بزعمهم مع اعترافهم بأن التأويل يمنع من التكفير ، وأن الحدود تدرء بالشبهات ! ! وكان الأمويون يثيرون هذا الخلاف لاصطياد أغراضهم من تعكير الماء ، بين فئات المسلمين . ‹ صفحة 102 › فكان موقف الإمام السجاد عليه السلام مقاومة ذلك بحكمة وحنكة ، حتى صير أمره إلى الإحباط . فلا بد أن يعرف : أن قضية الإمامة وثبوتها لأئمة أهل البيت عليهم السلام ، وخلافة الخلفاء وحقهم في الحكم ، قضية أدق من أن يبت فيها بمجرد الرفض واللعن والتكفير والطرد ، والقذف والسب ، أو إثارة الضجيج والعجيج ، وكيل التهم والتقبيح ، والتنفير والتهجير ، والاستهزاء والتهجين . بل هي عند العقلاء قضية قناعة واعتقاد وأرقام ونصوص وحقوق وصفات وفضائل . وهي عند أهل البيت عليهم السلام قضية هداية وإيمان ، محورها ( الحق ) الذي أمرنا الله بالتواصي به ، والصبر عليه . وإذا تصدى لها أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وتعرضوا لها ، وطالبوا بها فليس لحاجة في أنفسهم إليها أو إلى مآربها ، بل إنما من أجل أولئك الناس أنفسهم ، وهدايتهم إلى ( الحق ) المنشود من كل الرسالات الإلهية . فقد كان الإمام السجاد عليه السلام يقول : ما ندري ، كيف نصنع بالناس ؟ ! إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا ، وإن سكتنا ، لم يسعنا . . . ( 1 ) . وكان الإمام الباقر عليه السلام يقول : بلية الناس - علينا - عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا ( 2 ) . وبهذا المنطق ، الواقعي ، المتين ، الحنون ، الواضح ، دخل أهل البيت عليهم السلام في موضوع الخلافة والإمامة ، وحكموا عليها ولها . وإذا كان هذا هو المنطلق ، فلا بد أن يكون المسير على طريق مصلحة الناس ، وهم المسلمون في كل عصر ومصر ، ومن أجل الحفاظ على دينهم الحق وهو الإسلام المحمدي الخالص . وعلى هذا الأساس ، لم يسمح الأئمة عليهم السلام للغوغاء ، أن يتدخلوا في هذه القضية - الخلافة - كي لا يغرقوا في غمارها ، ولا يصبحوا ألعوبة في أيدي الدهاة ‹ صفحة 103 › الماكرين من حكام الجور والضلالة ، بإثارة الشغب والفتنة بين طوائف الشعب ، على حساب قضية ( الخلافة ) . فإن الغوغاء لا يدخلون في أية قضية على أساس المنطق السليم ، ولا من منطلق قويم ، ولا يمشون على الصراط المستقيم ، بل على طبيعتهم في الجدل العقيم ، وعلى طريقتهم في القذف واللعن والطرد ، وهي بالنسبة إليهم البداية المحسوبة ، والنهاية المطلوبة . وليس الهدف عند الأئمة من أهل البيت عليهم السلام إلا ( الحق ) وأن يتبين الرشد من الغي . وقد كان الأمويون يثيرون القضية على مستوى العوام الطغام ، والغوغاء الهوجاء ، ويهدفون من ذلك القضاء على وحدة المسلمين ، باتهام أهل البيت وأتباعهم ، وهم يمثلون أقوى الخطوط المعارضة لحكمهم . ولقد كان موقف الإمام السجاد عليه السلام في إحباط هذه الخطط الأموية الجهنمية ، شجاعا ، وصريحا ، ومدروسا : فهو عليه السلام لما سئل عن منزلة الشيخين عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أشار - بيده - إلى القبر - قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ثم قال : بمنزلتهما منه الساعة ( 1 ) وفي نص آخر : كمنزلتهما منه اليوم ، وهما ضجيعاه ( 2 ) . فمثير السؤال ، إنما أراد أن يعلن الإمام عن رأيه في الشيخين من حيث الفضل والمقام والرتبة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ولكن الإمام السجاد عليه السلام لم يفسح له المجال في إثارته المريبة ، فأجابه عن موضعهما من حيث المكان والمنزل والمدفن ، من دون أن يتعدى في الإجابة الحقيقية الظاهرة ، أو يتجاوز الحق المفروض ، فهما - الشيخان - كانا قريبين - جسديا - كما هما في قبريهما - الآن - بالنسبة إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لكن هل هذا كرامة لهما ، وقد دفنا في ما لم يملكا حق الدفن فيه ؟ ! ‹ صفحة 104 › ويقول لمثير آخر : إذهب ، فأحب أبا بكر وعمر ، وتولهما ، فما كان من إثم ففي عنقي ( 1 ) . وبمثل هذه القوة ، يبعد الإمام عوام الناس عن التوجه إلى هذه القضية الحساسة ، في ميدان الصراع ذلك اليوم ، فقد كانت أصول الدين ، وقواعده ، وفروعه ، وأحكامه الأساسية ، مهددة ، يتهددها الطغيان الأموي ، وكبار الصحابة ، وعلماء الأمة ، يذبحون كل صباح ومساء ، فكان الإعراض عن القضايا الأساسية العاجلة ، والبحث عن قضية الشيخين البائدة ، تحريفا لمسير النضال ، وتشتيتا لقوى المناضلين ، مع أنه خداع ومكر يطرحه الحكام الظالمون للتفريق بين الأمة ، لصرفها عن القضايا المصيرية ، المعاصرة ، التي هي محل ابتلاء المسلمين فعلا إلى قضايا تاريخية غير حيوية ! فإثارة مشكلة الخلافة - آنذاك - لم يزد أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم إلا انزواءا وانعزالا عن المجتمع العام ، وذلك هو المطلوب لرجال الدولة ، لأنه ييسر لهم اجتثات أصول المعارضة ، والقضاء على جذورها . بينما التع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 99 › ( 1 ) الصحيفة السجادية الدعاء رقم ( 48 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 240 - 241 ) . ‹ هامش ص 100 › ( 1 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 243 ) . ‹ هامش ص 102 › ( 1 ) الكافي ( 3 / 234 ) وقد مر تخريجه . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 266 ) . ‹ هامش ص 103 › ( 1 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 4 - 395 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( حديث 92 ) ومختصر ابن منظور له ( 147 : 240 ) . ‹ هامش ص 104 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 97 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 241 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 104 - 110
ير عن تولي الشيخين ، وعامة الناس هم على ذلك بمن فيهم المثيرون ، لا يغير الآن شيئا ، وليس له مفعول مثل ما لتولي بني أمية اليوم ، وهم حكام مستحوذون مستخلفون كما استخلف أبو بكر وعمر ، لكن هؤلاء مالكو الساحة اليوم ، مع مالهم من مخالفات حتى لسنة الشيخين ، تلك السنة التي التزموا بها ودعوا إليها ، وباسمها استولوا على الأمور . وليست ولاية الشيخين بمجردها هي المشكلة الفعلية العائقة ، بل المشكلة - الآن - هي ولاية بني أمية ! الذين يستخدمون فكرة ولاية الشيخين ، ويريدون بذلك فقط أن يستمروا على الحكم والخلافة ، ويضربوا من لا يوافقهم على ولايتهم التي هي استمرار لولاية الشيخين . والمفروض أن ولاية الشيخين ، أصبحت وسيلة بأيدي الأمويين ليثبتوا عرشهم من جهة ، ويضربوا أهل البيت عليهم السلام من جهة أخرى . فلذا أعلن الإمام زين العابدين عليه السلام للسائل ، بأن ولاية الشيخين ليست موضعا ‹ صفحة 105 › للنقاش ، في هذا الوقت ، إذ لا يترتب عليها نفع للإسلام والمسلمين ، لمضي زمانها ، وإنما المضر - الآن - هو ولاية بني أمية ، التي لا بد أن تميز عن ولاية الشيخين ! مهما كانت استمرارا لها ولقد كشف الإمام السجاد عليه السلام عن أقنعة مثيري هذه الفتنة ، وفضحهم ، حيث قال لهم : قوموا عني ، لا قرب الله دوركم ، فإنكم متسترون بالإسلام ، ولستم من أهله ( 1 ) . فقد أعلن أن مثيري القضية بشكلها الغوغائي ليسوا إلا من المبعوثين من قبل بني أمية وعيونهم ، ممن لا ينتمون إلى الإسلام إلا ظاهريا ، وبالاسم فقط ، وإنما يريدون بإثارة هذه القضية ، وحملها على أهل البيت ، هدم الإسلام ، المتمثل - يومذاك - بشخص الإمام السجاد عليه السلام وشيعته . والإمام السجاد عليه السلام إنما يهدف إلى تجديد بناء الإسلام الذي هزهز بنو أمية قواعده وأركانه . وتربية الكوادر الذين أشرفوا على الانقراض على يد جلاوزة بني أمية حكام الشام . وإرساء قواعد التشيع التي أشرفت على الانهيار ، بعد فجيعة كربلاء . وإحياء الأمل في النفوس التي صدمتها الحوادث المتعاقبة وزرعت فيها اليأس والخوف . فما كان من المصلحة - أصلا - الإجابة على مثل تلك الأسئلة المثارة وقد كان مثيروها لا يمتون إلى الإسلام بصلة ، وإنما هم متقنعون باسمه - لتمرير أهدافهم - بتقديم هذه الأسئلة ، وإثارة قضايا الخلاف في الخلافة ، التي يريد العدو أن يستغلها بأية صورة . فالإجابة الصحيحة ، إذا كانت مخالفة لرأي العامة الغوغاء ، فإنها تثيرهم ، فينثالون على البقية الباقية من المؤمنين بخط أهل البيت عليهم السلام فيبيدونهم عن بكرة أبيهم ، فلا يبقى منهم نافخ نار ، ولا طالب ثار . وكل ذلك من أجل قضية لا أثر لإثارتها هذا اليوم ، ولا دخل لها في القضايا ‹ صفحة 106 › المصيرية الراهنة ، في عهد الإمام عليه السلام ، فلا تسمن ، ولا تغني الأمة من جوع ، ولا تكسوهم من عري ، أو تنجدهم من ظلم أو جور . والمستفيد من تلك الإثارة ، هم الحكام المسيطرون ، وهم ذلك اليوم بنو أمية ، الذين يحاولون وبشتى الأساليب إبادة الحضارة الإسلامية ، في فكرها ، وتراثها ، ورجالها ، ومقدساتها . وهم الذين يسعون في إحياء الجاهلية ، في وثنيتها وصنميتها ، وعنصريتها ، وعصبيتها ، وجهلها ، وفسقها ، وفجورها ، وظلمها ، وبذخها ، وكفرها ، وعتوها . فأية القضيتين أولى بالبحث عنها عند الإمام السجاد عليه السلام ، وأحق أن يركز عليها ويعارضها ؟ هل هي ولاية بني أمية ؟ أو ولاية الشيخين ؟ لقد كان - حقا - موقف الإمام السجاد عليه السلام : شجاعا ، وصريحا ، ومدروسا : كان عليه السلام شجاعا : أن يواجه ، ويجابه الذين كان يعلم نياتهم الخبيثة ، وأهدافهم الدنيئة ، من جواسيس بني أمية ، وعيونهم ، البرءآء من الإسلام ، وكذلك في الإعلان عن خططهم وتدابيرهم الإجرامية . فالذين لم يؤمنوا بأصل الإسلام ، كيف يهتمون بقضية الخلافة والخلفاء السابقين ؟ وما هو هدفهم من هذه الإثارة ؟ ولو صدقوا في أسئلتهم : فلماذا لا يهتمون بما يجري على المسلمين في ولاية بني أمية ؟ وما لهم لا يتساءلون عن حق بني أمية في الحكم الظالم ؟ وهذا مثل ما تثيره الأجهزة الاستعمارية ، وأذنابهم النهضويون والرجعيون - في عصرنا الحاضر - من النزاعات المذهبية بين الطوائف الإسلامية الواعية ، فإن كل مسلم عاقل يفطن إلى أن إثارتهم هذه ليست لمصلحة الأمة الإسلامية وإنما هم يهدفون من وراءها إلى ضرب القدرة الإسلامية العظيمة والصحوة الإسلامية ‹ صفحة 107 › المتنامية ، وتحطيم كيان الدين الإسلامي ، المركز في قلوب الأمة . وكان الإمام السجاد عليه السلام صريحا : في إعراضه عن تفصيل القضية ، حيث يجر إلى ما يريده الأعداء ، بل صرف الأنظار إلى ما هم مبتلون به من مشاكل ومآس ، بالولاية الباطلة التي تخيم عليهم بظلمها وجرائمها وحكامها الجائرين ! وكان موقفه مدروسا : إذ لم يدل بتصريح يخالف الحق أو ينافي الحقيقة ، بل حافظ عليهما بقدر ما يخلص الموقف من الحرج ، ويخرج الإنسان المسؤول من المأزق
|