الدرس الثاني والعشرون : جواز التوسل عند الإمام الشوكاني
قال الإمام المحدث السلفي الشيخ محمد بن على الشوكاني في رسالته
( الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ) : أما التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأحد من خلقه في مطلب يطلب العبد من ربه فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : أنه لا يجوز التوسل إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه . ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي وصححه ابن ماجه وغيرهم أن أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث ، قال وللناس في معنى هذا قولان :
أحدهما ك أن التوسل هو الذين ذكره عمر بن الخطاب لما قال : كنا إذا أجدبنا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا . هو في صحيح البخاري وغيره ، فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستسقاء ثم توسل بعمه العباس بعد موته وتوسلهم هو استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا وداعيا لهم .
والقول الثاني : أن التوسل به صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه ، ولا يخفاك أنه ثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته ، وثبت التوسل بغيره بعد موته بإجماع الصحابة إجماعا سكوتيا لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في توسله بالعباس رضي الله عنه ، وعندي : أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام لأمرين :
الاول : ماعرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
والثاني : أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة إذ لا يكون فاضلا إلا بأعماله ، فإذا قال القائل : اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو بإعتبار ماقام به من العلم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة أن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة ،فلو كان التوسل بالاعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا كما زعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ، ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الاجابة لهم ولا سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار مافعلوه بعد حكايته عنهم ، وبهذا تعلم أن مايورده المانعون من التوسل بالانبياء والصلحاء من نحو قوله تعالى : ( ومانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )، ونحو قوله تعالى : ( فلا تدعوا مع الله أحدا ) ونحو قوله تعالى : ( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ ) الاية ، ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه ، فإن قولهم : ومانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، مصرح بأنهم عبدوهم لذلك ، والمتوسل بالعلم مثلا لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك ، وكذلك قوله : ( فلا تدعوا مع الله أحدا ) فإنه نهى عن أن يدعي مع الله غيره كأن يقول بالله وبفلان ، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله فإنما وقع منه التوسل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين أنطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم ، وكذلك قوله تعالى : ( والذين يدعون من دونه ) الآية فإن هؤلاء دعوا من لايستجيب لهم ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم ، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعاء غيره معه ، فإذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع مايورده المانعون للتوسل من الادلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على ماذكرناه كإستدلالهم بقوله تعالى : ( وماأدراك ما يوم الدين ، ثم ماأدراك ما يوم الدين ، يوم لاتملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) . فإن هذه الاية الشريفة ليست فيها دلالة إلا أنه تعالى هو المنفرد بالأمر في يوم الدين وأنه ليس لغيره من الأمر شئ ، والمتوسل بنبي من الانبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر يوم الدين ، ومن أعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبيا أو غير نبي فهو في ضلال مبين ، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله : ( ليس لك من الأمر شئ )( قل لاأملك لنفسي ضرا ولا نفعا ) فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الله شئ وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك لغيره ، وليس فيها منع التوسل أو بغيره من الانبياء أو الأولياء أو العلماء ، وقد جعل الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه ، وقال له : سل تعطى واشفع تشفع ، وقيل ذلك في كتابه العزيز أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه ولا تكون إلا لمن ارتضى ، وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) : يافلان بن فلان لاأملك لك من الله شيئا ، يافلانه بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا ، فإن هذا ليس فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره ولا ضر من أراد الله تعالى نفعه ، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله ، وهذا معلوم لكل مسلم وليس فيه أنه لا يتوسل به إلى الله فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر والنهي ، وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه مايكون سببا للإجابة ممن هو المنفرد بالعطاء والمنع وهو مالك يوم الدين . أنتهى كلام الشوكاني
|