ولنرجع إلى ما نحن فيه ، فنقول : قد تظافرت بل تواترت الأخبار بأنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله علَّم أمير المؤمنين ألف باب ، أو ألف حديث ، أو ألف كلمة ، أو ألف حرف .
فقد روى الصدوق في الخصال بإسناده عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله في مرضه الذي تُوفيَ فيه : إدعوا لي أخي ، فأرسلوا إلى عليٍّ عليه السلام ، فدخل فولَّيا وجوههما إلى الحائط وردَّا عليهما ثوباً ، فأسرَّ إليه والناس محتوشون وراء الباب ، فخرج عليٌّ عليه السلام فقال له رجل من الناس : أسرَّ إليك نبي الله شيئاً ؟ قال : نعم ، أسرَّ إليَّ ألف باب في كل باب ألف باب .[310]
وبإسناده إلى أمِّ سلمة زوجة النبي صلَّى الله عليه وآله قالت : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله في مرضه الذي تُوفيَ فيه : إدعوا لي خليلي ، فأرسلت عائشة إلى أبيها فلما جاء غطَّى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وجهه ، وقال : إدعوا لي خليلي فرجع أبو بكر ، وبعثت حفصة إلى أبيها ، فلما جاء غطَّى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وجهه وقال : ادعوا لي خليلي فرجع عمر ، وأرسلت فاطمة عليها السلام إلى عليٍّ ، فلما جاء قام رسول الله صلَّى الله عليه وآله ثم جلَّل علياً عليه السلام بثوبه . قال عليٌّ عليه السلام : فحدَّثني بألف حديث يفتح كلُّ حديث ألف حديث ، حتى عرقت وعرق رسول الله صلَّى الله عليه وآله فسال عليَّ عرقه وسال عليه عرقي .[311]
وبإسناده إلى عبد الحميد بن أبي الدَّيلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال : أوصى رسول الله صلَّى الله عليه وآله إلى عليٍّ عليه السلام ألف باب ، يفتح كلُّ كلمة وكلُّ باب ألف كلمة وألف باب .[312]
وبإسناده إلى ذريح المحاربي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : جلَّل رسول الله صلَّى الله عليه وآله علياً عليه السلام ثوباً ثم علمه ألف كلمة .[313]
وبإسناده إلى عبد الله بن المغيرة عن أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليهما السلام أنه سمعه يقول : علَّم رسول الله صلَّى الله عليه وآله علياً عليه السلام ألف كلمة ، كلُّ كلمة يفتح ألف كلمة .[314]
وبإسناده إلى أبي بكر محمد بن الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام قال : إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله علَّم علياً عليه السلام ألف حرف ، كل حرف يفتح ألف حرف ، والألف حرف كل حرف يفتح ألف حرف .[315]
أقول : فيكون كل حرف من الألف الأول يفتح مليون حرف 0
وبإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان في ذؤابة سيف رسول الله صلَّى الله عليه وآله صحيفة صغيرة . فقلت لأبي عبد الله عليه السلام : أي شيء كان في تلك الصحيفة ؟ قال : هي الأحرف التي يفتح كل حرف منها ألف حرف . قال أبو بصير : قال أبو عبد الله عليه السلام : فما خرج منها إلا حرفان حتى الساعة .[316]
وبإسناده إلى سالم بن أبي حفصة قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله علَّم علياً عليه السلام ألف باب يفتح كل باب ألف باب ، فانطلق أصحابنا فسألوا أبا جعفر عليه السلام عن ذلك فإذا سالم قد صدق . قال بكير : وحدثني مَنْ سمع أبا جعفر عليه السلام بهذا الحديث ، ثم قال : ولم يخرج إلى الناس من تلك الأبواب غير باب أو أثنين ، وأكثر علمي أنه قال : باب واحد.[317]
وبإسناده إلى الأصبغ بن نباتة (في حديث) عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : أيها الناس إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله أسرَّ إليَّ ألف حديث في كل حديث ألف باب ، لكل باب ألف مفتاح .[318]
أقول : فيكون لكل حديث مليون مفتاح 0 هذا وقد أخرج الصدوق في آخر كتاب الخصال الباب الذي قبل الأخير ثلاثاً وثلاثين حديثاً فراجع ، وراجع أيضاً بصائر الدرجات من صفحة 302 إلى 312 ، والاختصاص للشيخ المفيد من صفحة 282 إلى 285 0
ومن كتب العامة ما رواه ابن عساكر في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق بإسناده إلى عبد الله بن عمرو ، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله قال في مرضه : ادعوا لي أخي ، فدُعِيَ له عثمان فأعرض عنه ثم قال : ادعوا لي أخي ، فدعي له علي بن أبي طالب ، فستره بثوب وانكبَّ عليه فلما خرج من عنده قيل له : ما قال النبي لك قال : علمني ألف باب يفتح كل باب ألف باب .[319]
فما هي هذه الأبواب أو الكلمات أو الأحاديث أو الحروف التي وسعتها صحيفة في ذؤابة سيف رسول الله صلَّى الله عليه وآله (والصحيفة تصغير صفحة) وكيف يفتح كل حرف ألف ألف حرف ، أو ألف ألف باب ، أو ألف ألف كلمة ، أو ألف ألف حديث ، هذا مما لا نستطيع إدراكه ، ولكن ليس لنا ولا علينا إلا أنْ نؤمن به ونصدِّقه ونعتقده ، فإنه مما ثبت عن أئمة الهدى عليهم السلام .
ثم إذا كان إلى عصر الصادق عليه السلام لم يخرج إلا حرفان فهل لا يمكن أنْ تكون كل علوم القرآن في البسملة بل في بائها ؟!
ولكن كيف ذلك ؟ فإنه مما لا نستطيع درك حقيقته ، وما يجب علينا هو التصديق فحسب ، كما أننا لا نستطيع درك كثير من الأمور ولكن ترى جميع المؤمنين ولعل أيضاً المسلمين يؤمنون بما لا يُحصى مما لا يستطيعون سبيلاً لمعرفة حقيقته ، بل ويعجز خيالهم وتتحيَّر فيه أوهامهم .
هذا وقد قال إمام المشكِّكين محمد الرازي في الفصل الأول من فصول مقدمة تفسيره المسمى بمفاتيح الغيب والمشتهر بالتفسير الكبير ، ما لفظه : إعلم أنه مرَّ على لساني في بعض الأوقات ، أنَّ هذه السورة الكريمة (سورة الفاتحة) يمكن أنْ يُستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة ، فاستبعد هذا بعض الحُسَّاد وقوم من أهل الجهل والغي والعناد ، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعاني ، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني . فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدَّمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أنَّ ما ذكرناه أمرٌ ممكن الحصول قريب الوصول .
ثم بعد ما يقرب من ثلاث صفحات قال : فما أجلَّ هذه المقامات وأعظم مراتب هذه الدرجات ، ومَنْ وقف على ما ذكرناه من البيانات ، أمكنه أنْ يطَّلع على مبادئ هذه الحالات . فقد ظهر بالبيان الذي سبق أنَّ هذه السورة مشتملة على مباحث لا نهاية لها وأسرار لا غاية لها ، وأنَّ قول مَنْ يقول هذه السورة مشتملة على عشرة آلاف مسألة كلام خرج على ما يليق بأفهام السامعين ،انتهى0
أقول : ونحن بدورنا لا نقول أنَّ مثله يعي ويدرك الحقيقة ، ولكن إذا كان مثله قد أوضح في مقدمة تفسيره تصديقَ ما ادَّعاه ، فإنه لا يصح مِن منصف أن يُنكِر على أحد يدَّعي بأنَّ أهل البيت عليهم السلام عالِمون بجميع القرآن ، وأنَّ جميعه متجلٍّ في البسملة ، نعم غاية ما يصح منه أنْ يقول : إنَّ هذا مما لا سبيل لنا لإدراكه ولكن لا نستطيع إنكاره .
وقد قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في تفسيره ما لفظه : والقول في أسرار الحروف ومعانيها إنما هو تسليم للأنبياء والأصفياء عليهم السلام وتقصر عن الوقوف عليها عقول غيرهم .[320]
ثم إنَّ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني الادريسي قد ذكر - في كتابه نظام الحكومة النبوية المسمى بالتراتيب الإدارية قال في باب مَن كان يعرف فيهم بباب مدينة العلم وأنه أمير المؤمنين عليه السلام - ما لفظه : ومصداقه ما ظهر على سيِّدنا عليٍّ من العلم الواسع الذي خضعت له به الرقاب ، ودانت له الفلاسفة والحكماء من كل أمة وملة ، وقد سبق عن القرافي أنه جلس عند إبن عباس يتكلم في الباء من بسم الله من العشاء إلى أنْ طلع الفجر .[321]
وفي مناقب إبن شهراشوب نقلاً من كتاب قوت القلوب لأحد علماء العامة وهو يوسف بن منصور السياري ، وقد ذكر في مقدمة المناقب طريقه إليه فراجع ، وفيه : قال عليٌّ عليه السلام : لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير الفاتحة .[322]
وفي تفسير الصراط المستقيم ، وروى الترمذي عن إبن عباس قال : كان علي بن أبي طالب عليه السلام يشرح لنا نقطة الباء من بسم الله الرحمن الرحيم ليلة ، فأنفلق عمود الصبح وهو بعد لم يفرغ ، فرأيت نفسي في جنبه كالقرارة في جنب البحر المتفجر .
وفيه أيضاً أنَّ السيِّد ابن طاووس حكى في كتابه سعد السعود عن أبي حامد الغزالي في كتاب بيان العلم اللدني في وصف مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال علي عليه السلام لما حكى عهد موسى أنَّ شرح كتابه كان أربعين جملاً : لو أذِنَ الله ورسوله صلَّى الله عليه وآله لأشرع في شرح معاني ألف الفاتحة حتى يبلغ مثل ذلك يعني أربعين وقرأ أو جملاً ، وهذه الكثرة في السعة والإفتاح في العلم لا يكون إلا لدنياً سماوياً إلهياً .
ثم حكى السيِّد عن أبي عمرو الزاهد واسمه محمد بن عبد الواحد في كتابه بإسناده أنَّ علي بن أبي طالب قال : يا بن عباس إذا صليتَ العشاء الآخرة فالحقني إلى الجبانة . قال : فصليتُ ولحقته وكانت ليلة مقمرة ، قال : فقال لي : ما تفسير الألف من الحمد ؟ قال : فما علمت حرفاً أجيبه ، فتكلم في تفسيرها ساعة واحدة تامة 0 قال عليه السلام : فما تفسير الحاء من الحمد ؟ فقلت : لا أعلم ، فتكلم فيها ساعة تامة 0 قال : فقال عليه السلام : ما تفسير الميم ؟ قلت : لا أدري ، فتكلم فيها ساعة تامة 0 ثم قال عليه السلام : ما تفسير الدال من الحمد ؟ قلت : لا أدري ، قال : فتكلم فيها إلى أنْ برق عمود الفجر ، فقال عليه السلام لي : قم يا بن عباس إلى منزلك وتأهب لفرضك ، قال : فقمت وقد وعيت كلما قال ، ثم تفكَّرتُ فإذا علمي بالقرآن في علم عليٍّ كالقرارة في المتفجر0راجع تفسير الصراط المستقيم للسيد حسين البروجردي 3 ص 23- 24ط مؤسسة الوفاء بيروت ط الاولى0
وفي تفسير الشهرستاني : ومن أسرار الفاتحة الكلام على أعداد الآيات والكلمات والحروف ، وتقدير العدد فيها . وأنت تعرف أنَّ الفاتحة سورة واحدة ، ثم قُسِّمت نصفين كما ورد " قُسِّمت الصلاة بيني وبين عبدي " ، وعرفتَ أنَّ النصف الأول تعريف والنصف الثاني تكليف 0 ثم قُسِّمت أثلاثاً ، فثلث محامد الله تعالى خاصة وثلث محاوج العبد خاصة وثلث بينهما،كما قال عزَّ وجلَّ " إياك نعبد وإياك نستعين" : "هذا بيني وبين عبدي". ثم قُسِّمت أرباعاً، وهي الوقوف الأربعة فيها : الرحيم ، الدّين ، نستعين ، الضالين . وفي المعنى : التسمية والتحميد والتعبد والهداية. ثم قُسِّمت أخماساً وهي : الأسامي والمحامد والتعبُّد والحاجة إلى التوفيق وطلب الهداية. ثم قُسِّمت أسداساً وهي : الأسامي على المبادئ ، والمحامد على الكمالات ، وإفاضة الرحمة على عالمي الخلق والأمر ، وإقامة الطاعة في حالتي الإستطاعة والإستعانة ، والتولِّي لأولياء الله ، والتبري من أعداء الله . ثم قُسِّمت أسباعاً وهي سبع آيات متناسبة المبادئ والمقاطع ، وهي السبع المثاني متوازنة الألفاظ والمعاني. ثم كلماتها التامات التي يُفهم من كل واحدة منها معنى تام ، إثنتا عشرة كلمة. ثم كلماتها المفردات ثمان وعشرون كلمة ، ثم حروفها إن عُدَّت على ولاء المكتوب فمائة وإثنان وأربعون ، وإنْ عُدَّت على ولاء الملفوظ فمائة وأربعة وأربعون وهي من ضرب إثني عشر. ومَنْ الذي يعرف أسرار هذه الأعداد وتركيبها على المعدودات ، وأنَّ الوحدة فيها تقابِل وحدة الأمر ، وأنَّ الأثنين فيها تقابِل العالَمين: عالَمي الخلق والأمر، والجسماني والروحاني ، وأنَّ الثلاثة فيها تقابل المبادئ الأولى: الأمر والقلم واللوح، وأنَّ الأربعة فيها تقابل كل ما هو أربعة ، وأنَّ الخمسة فيها تقابل كل ما هو خمسة ، كذلك الستة والسبعة والأثنا عشر والثمانية والعشرون حتى يتقرر أنَّ العالَم كله فيها ، وهي مفاتيح الغيب ومقاليد السموات والأرض ، وفاتحة كل كمال ، وخاتمة كل مقال ، فُتِحت بالثناء وخُتمت بالدعاء ، وهي شفاء من كل داء . وفي الخبر عن النبي صلَّى الله عليه وآله " كل ما لا يشفيه الحمد لا يشفيه شيء " وعن عبد الله بن عباس أنَّ علياً عليه السلام أبتدأ معي شرح الفاتحة من العتمة فأصبحنا وما فرغ عن شرح باء بسم الله .
|