بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم بقائمهم
الآية الرابعة عشر قوله سبحانه {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ} سورة آل عمران الآية 33
أقول: قال الراغب: الاصطفاء: تناولُ صفو الشيء.
وقال في مجمع البحرين: والخالص في اللغة: كلُّ ما صفى وتخلَّص ولم يمتزج بغيره، سواء كان ذلك الغيرُ أدونَ منه أم لا.
وقال الزبيدي: والصفي: خالصُ كلِّ شيء ومختارُه(1).
وعليه فالمصطفيَن همُ الصفوة، وخالصُ الشيء لا يكون خالصَه إلا بعد صفوه وتخلُّصه عما سواه، فلا يكون الشخصُ صفوةَ الله إلا بعد صفوه لله تعالى وتخلصه عن غيره، فيكون خاصتَه وخالصتَه وصفوتَه وخيرتَه.
وبهذا الاعتبار، يتضح أنَّ الآيةَ الكريمة نصٌّ في أنَّ آدم ونوحاً وآلَ إبراهيم وآلَ عمران، هم أفضلُ الخلق على الإطلاق، فإنَّ الله اصطفاهم على العالَمين.
ومن البديهي أنَّ اختيار الله تعالى لأولئك يفيد ـ مضافاً إلى الأفضلية ـ أنهم المنـزَّهون عن كل شائبة، وأنهم الخالِصون له تعالى في الظاهر والباطن، لذا فيكونون أشخاصاً وخلقاً ربانيين مطهَّرين عن كلِّ رجسٍ ودنس، عن كلِّ شكٍّ وريبة، عن كلِّ باطلٍ وضلال.
نعم لا يُستفاد من الآية، أنه لم يقع اصطفاءٌ من الله تعالى لغير هؤلاء، فإنَّ إثبات شيء لشيء لا ينفي ثبوته لشيء آخر، إلا إذا احتفَّ الكلامُ بقرينة تدل على ذلك، والقرينةُ قد تكون عامةً وقد تكون خاصةً.
وفي المقام ليس لهيئة الجملة قرينيَّةٌ عامةٌ دالة على الحصر، وظاهرٌ جداً أنه لا وجود لقرينة خاصة.
وبما أنَّ القضيةَ الموجبة لا تنفي قضيةً موجبة أخري تفيد ثبوت نفس الحكم لأمر آخر ـ فقولك أكلتُ الرمان لا ينفي أنك أكلتَ شيئاً آخر أيضاً، كما أنَّ قولك ثانية أني أكلتُ التمر لا يتنافى ولا ينافي قولك الأول، بخلاف مثل قولك ما أكلتُ إلا الرمان، فإنه ينفي تحقُّقَ أكلِ غيره، وينافي أيضاً إخبارك عن أكلك لشيء آخر ـ وعليه فالآيةُ أجنبيةٌ عن إفادة الحصر.
وأيضاً فإنَّ للحقِّ مراتبَ ومقاماتٍ ومدارجَ لعلها تفوق الحصر أو هي كذلك، وحيث إنَّ القابليات متفاوتةٌ، وأنَّ للإرادة والعزم حالاتٍ وشؤوناً إنه لا محالة سيقع التفاضل بين نفس المصطفِين بما هم مصطفَون، وبإجماع المسلمين على أنَّ سيدنا محمداً (عليهما السلام) أفضلُ الخلق، وبضرورة المذهب وإجماع محققيه على أنَّ أهلَ بيته الأطهار (عليهم السلام) هم كذلك سادةُ الخلق وأفضلُهم.
وإذا ما كان المصطفون خالصةَ المولى سبحانه، فهم باعتبار آخر متقلِّبون في جميع شؤونهم في دائرة الحق، والحق متجسِّدٌ فيهم معروفٌ بهم، لا تزيغ بهم الأهواء، ولا يأتيهم الباطلُ ولا يأتونه، بل لا مطمع للباطل فيهم بأي نحو من الأنحاء، إذ المفروض أنهم الخالصون عما سوى الحق تعالى، وليس سواه إلا الضلالَ والباطل.
هذا وقد تظافرت الأخبار عن أئمة العترة الطاهرة بل وعن غيرهم من أكابر الصحابة ومن غيرهم، في التمسك والاستدلال بهذه الآية على فضل وشرف ورفيع شأن عترة الرسول الأكرم (عليهما السلام)، وذلك إما بتوسط إدعاء نزول الآية بلفظ يدل صريحاً على ذلك أو بإقامة دليل من خارج عليه.
وكلا النحوَيْن ورد له مؤيدات من هنا وهناك.
وقبل استعراض ذلك لا بُدَّ وأن نشير إلى أنَّ ما ورد في بعض الأخبار بلفظ هكذا نزلت الآية التي نبحث فيها، أو هكذا كان يقرأ الصحابيُّ الفلانيُّ محمولٌ على إرادة التفسير والتأويل دون التنـزيل، فإنَّ القرآنَ الكريم مصونٌ بصون الله تعالى له أزلاً عن أيِّ تحريف من زيادة أو نقيصة، وعلى هذا إجماع الفرقة الناجية وهو ما تعتقد به.
وقد قيل بأنَّ شرذمة من محدِّثي الإماميَّة التزموا بالتحريف من جهة النقيصة، وهو قولٌ شاذٌّ قد صنف كثير من محققينا رسائل وكتباً لتزييف زعمهم وإبطال مقالتهم.
ولعلَّ الذي أوهمهم ذلك هو وجودُ الأخبار الكثيرة الصحيحة والمعتبرة سنداً، والتي فيها مثل هكذا نزلت الآية أو هكذا نزل بها جبرائيل، ولم يتفطن أولئك إلى أنَّ المقصود من تلك الألفاظ الواردة ما يشمل النزول مع التفسير والتأويل، كما ورد في آية وكفى الله المؤمنين القتال بعليٍّ (عليه السلام) ـ وغيرها كثير ـ إذ المقصود بيان تفسير الآية وبيان مصداق من كفى الله تعالى المؤمنين به.
وهذا النحو من الأخبار قد ورد أيضاً من طرق أبناء السُّنة، بل وورد عندهم ما هو أشكل من هذا بكثير وفي أهم كتبهم المعتبرة المعتمدة. ونحن وإن لم نُعِدَّ بحثنا هذا للتحقيق في هذا المطلب المُحقَّق، غير أنه دفعاً أو رفعاً أو ردَّاً على توهين موهِّن أو تشكيك مشكِّك، يتعين علينا الإشارة إلى بعض ما ورد في أهم كتب ومجامع السُّنة الصحيحة عندهم، وبعد تحقُّقك من صحة ما سننقله لك سنترك الحكم فيما افتُريَ علينا نحن الشيعة الإمامية من أمر تحريف القرآن الكريم إليك، فدونك بعضاً من تلك الأخبار.
فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري في صحيحه، والدارمي وأبو داود والترمذي في سننهم بإسنادهم عن ابن عباس ـ والكلام للبخاري ـ (في حديث) فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون، قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمَن عقلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومَن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب عليَّ: إنَّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على مَن زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إنَّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم.
وأخرج مسلم في صحيحه بإسناده عن بن أبي الأسود قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا يطولنَّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأُنسيتها، غير أني قد حفظتُ منها، «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب» وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها باحدي المسبحات فأُنسيتها، غير أني حفظت منها «يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة».
وأخرج ابن ماجة في سننه بإسناده عن عائشة. قالت: لقد نزلت آية الرجم. ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها.
وأخرج أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي بن كعب قال: كم تقرأون سورة الأحزاب؟ قال: بضعاً وسبعين آية، قال: لقد قرأتها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل البقرة أو أكثر منها وإن فيها آية الرجم.
وبإسناده عن زر قال: قال لي أبي بن كعب: كائن تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها؟ قال: قلت له: ثلاثا وسبعين آية، فقال: قط، لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عليم حكيم».
أقول: وما ورد في هذا المعنى لا يكاد يُحصى في هذه العجالة، فعليك بالمراجعة بنفسك(2).
نعم لا يكاد يخفى عليك أنَّ بعض ما نقلناه لك مما رواه أهل السُّنَّة، لا يمكن التفصي عنه بدعوي أنَّ المقصود منه نسخ التلاوة، ففيما قدمناه لك كانت الآيات عندهم محفوظة، بل عن عائشة أنَّ الدويبة أكلتْ تلك الورقة، ولولا الانشغال بما ادعت الانشغال به لما ضاعت آية الرجم وآية رضعات الكبير، على أنَّ نسخ التلاوة من التحريف قطعاً.
وعلى أيٍّ، فقد ذكر السيد محمد حسين فضل الله في تفسير الآية المبحوث فيها، فقال: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ على الْعَالَمِينَ} الاصطفاءُ يعني الاختيار الذي يُوحي بالتفضيل، إنطلاقاً من الملكات والصفات الذاتية التي أودعها الله فيهم، فقد اختار آدم لِدَوْرِ الخلافة الأولى في الأرض من أجل أن يبدأ الرحلة الإنسانية التي تبني الأرض وتعمرها على أساس التخطيط الإلهي، واختار نوحاً ليكون أول الأنبياء أولي العزم الذي يعطي المثل في الصبر أمام التحديات، والدأب في مواجهة الكفر والضلال حتى لا يبقى هناك مجال للتجربة لأنه استنفد كل التجارب..... واختار إبراهيم الذي أسلم وجهه لله وعاش التجربة الصعبة بالقلب المطمئن الراضي الذي احتضن في داخله كل التطلعات الإنسانية الروحية نحو الله.... أما آل عمران فقد نلتقي بالنسب الذي ينتمي إليه موسى، وقد نلتقي بالنسب الذي تنتمي إليه مريم وبذلك يلتقي به نسب عيسى..... ألخ(3).
ومما يريب، أنه لم يُشِر إلى آل محمد الأبرار صلوات الله ربي وسلامه عليهم في كل كلامه.
أقول: قوله «الذي يوحي بالتفضيل» يُشعر بل يدلُ على عدم جزمه بإفادة الاصطفاء للتفضيل، مع أنه يُطلَق على مَن وقع عليه الاصطفاء، أنهم الصفوة، ولا نعلم بوجود كلمة أبلغ في إفادة التفضيل من كلمة اصطفى.
وأما قوله: «انطلاقاً من الملكات والصفات الذاتية التي أودعها الله فيهم» فلا ندري ماذا يقصد من كلمة الذاتية، وأيَّ معنى من معاني الإيداع يريد؟!
فإنَّ الذاتي لا يُعلَّل، بمعنى أنه أمرٌ غيرُ واقع تحت الاختيار من جهة، وغيرُ قابل للتفكيك بينه وبين الذات من جهة أخري.
فأن أراد أنَّ الله تعالى خلقهم كذلك ولا شأن لإرادتهم ولا دخالة، فهو التزام بأنَّ منشأَ العصمة الإلهية في الأنبياء أمرٌ غيرُ اختياري، وهو ما صرَّح به في كثير من كلماته فراجع على سبيل المثال كتاب الندوة المُعَد لتدوين بعض محاضراته وكلماته(4).
وقوله «التي أودعها الله فيهم»، يدل على أنه يلتزم بأنَّ منشأ العصمة يرجع إلى أمر غير اختياري، وإذا كان الاصطفاء والاختيار يعني التفضيل أو يدل عليه، فهذا يعني أنَّ تفضيل إبراهيم مثلاً على أيِّ شخص عادي، يكمن في وجود ملكات في إبراهيم قد أودعها الله فيه، وهل بمثل هذا يقع التفاضلُ عند أولي الألباب؟!!
ونحن أبناء الفرقة الناجية نقول: بأنَّ الأولياء بما أرادوه واختاروه وأحبوه وطلبوه، صار عندهم أو كان عندهم من الملكات التي منَّ الله بها عليهم لأهليَّتهم وقابليَّتهم، وبذلك كانوا أولياءً، وأنَّ تفضيل الله سبحانه لهم واختيارهم دون غيرهم يرجع إلى إرادتهم واختيارهم.
نعم لا مجال فيهم، للتفكيك بين ذواتهم المقدسة وبين تلك الملكات التي كانوا أهلاً ومحلاً لها في مقام العمل والانقياد والطاعة، وإن كانت في مرتبة الإمكان من حيث القدرة والاختيار.
بمعنى أنَّ المعصوم يقدر كإمكان ذاتي على أن يظلم مثلاً والعياذ بالله، ولكنه في مرتبة وعالم الوقوع يستحيل أن يقع منه ذلك، إلا إذا تأتى لنا أن نسلخ عن ذواتهم المقدسة نفوسَهم المطهَّرة، وقد طهُرت بإرادتهم وبما علموه من عين اليقين وحقه، والانسلاخُ والتفكيك غيرُ ممكن، فإنهم كذلك، ولكن بتوسط اختيارهم، واعتبر بالقادر القاهر سبحانه، أتراه عاجزاً عن الظلم وهو القادر المطلق؟
نعم الظلم ممكن ذاتاً، ولكنه ممتنع وقوعاً، ولا مجال لدينا لمزيد تفصيل وبيان.
وظاهر جداً أنَّ السيد محمد حسين، لا يريد ما أشرنا إليه من معنى، وإلا فلا معنى للتعبير بالعبارة المجمَلَة المبهَمَة.
وأما قوله «حتى لا يبقى هناك مجال للتجربة»..... فقول فاسد، لأنه يلزم عنه وجود إرادة للأنبياء مغايرة لإرادته سبحانه، مع أنهم عباد مكرمون لا يعصون ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإنهم يسيرون ضمن مخطَّط إلهي يوحى إليهم.
وبعبارة أخري: إنَّ الأنبياء ليسوا إلا سفراء وخلفاء للمولى تعالى شأنه، وما يتحركون إليه ويأتون به ليس إلا عن إرادة وحي السماء، فهل أنه سبحانه خلق الأرض وأنزل الكتب وبعث في الناس الرسل، ليخوض تجربةً هنا واختباراً هناك؟!!
والشخصُ الذي يخوض التجربة، إنما يخوضها جهلاً منه بصحة نتائجها تارة أو بما ينتج عنها أخري، فتراه يعمد إلى التجربة ليري مدي نجاحها وليطَّلِع على آثارها، ليجني من ذلك وليستفيد علماً بصحة هذا الأمر أو ذاك، فيترجح لديه اعتماده، وهذا المعنى لا يجهل بفساده كلُّ مَن يعتقد بعصمة الأنبياء.
وإذا كان السيد فضل الله يريد غير هذا المعنى المتبادر من إطلاق لفظ التجربة، فكان عليه أن يُحسِن التعبير، مع أنَّ مثل هذا التعبير قد صدر عنه في ما لا يحصى من كلماته وفي كثير من كتبه.
وأما أنَّ إبراهيم عاش التجربة الصعبة، فلا أدري هل أنَّ السيد محمد حسين فضل الله أطَّلَع الغيب؟ أو أنه يجهل بأنَّ للأنبياء مقاماً شامخاً لا سيما مثل شيخ الأنبياء (عليهم السلام)؟!!
ثم أية تجربة تلك التي يزعم بأنَّ إبراهيم (عليه السلام) قد عاشها؟
ومن أية جهة اكتسبت وصف الصعوبة؟
أَمِن ناحية خطورة التجربة وعظم شأنها، أم من ناحية ضعف مَن جرت عليه، وهو شيخ الأنبياء؟!!
ولنكتفي بهذا المقدار، ولنشرع في المقصود مما يعنينا من الآية.