بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم بقائمهم
الآية الثالثة عشر قوله تعالى {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} سورة النحل الآية 16
قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، في ما جعله الله لهم من دلائل تُوضِّح مسالك الطرق، وتمنعهم من الحيرة والضياع على الأرض، أما في الصحراء والبحار حيث لا علامات منصوبة متميِّزة، فإنَّ الله ألهمهم الاهتداءَ بالنجم، من خلال خارطة السماء التي اكتشفوا ما تبيِّنه من طريق السير(1).
أقول: في نفس اللحظة ـ قبل بضع ثوان ـ التي كنتُ أنقل فيها كلام السيد محمد حسين من كتابه، تذكرتُ كلاماً قاله الإماميُّ الحكيمُ هشام بن الحكم، مُحتجَّاً على أحد أئمة الضلال في البصرة، فأحببتُ أن أنقله، بل الحق، أنه وحده يكفي وفوق الكفاية.
فقد روي الكليني بإسناده عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام ابن سالم، والطيار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام ألا تخبرني كيف صنعتَ بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟ فقال هشام: يا ابن رسول الله، إني أُجِلُّكَ وأستحييكَ ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أمرتكم بشيء فافعلوا. قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك عليَّ فخرجتُ إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة، فأتيتُ مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متَّزِرٌ بها من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجتُ الناس فأفرجوا لي، ثم قعدتُ في آخر القوم على ركبتي ثم قلت: أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم، فقلتُ له: أَلَك عينٌ؟ فقال يا بني أيُّ شي هذا من السؤال؟ وشيء تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يا بني سلْ وإن كانت مسألتُك حمقاء. قلتُ: أجبني فيه، قال لي: سلْ، قلت: أَلَك عينٌ؟ قال: نعم، قلتُ: فما تصنع بها؟ قال: أري بها الألوان والأشخاص، قلتُ: فلك أنف؟ قال: نعم، قلتُ: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة، قلتُ: ألك فم؟ قال: نعم، قلتُ: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم، قلتُ: فلك أذن؟ قال: نعم، قلتُ: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت، قلتُ: ألك قلب؟ قال: نعم، قلتُ: فما تصنع به؟ قال: أميِّز به كلما ورد على هذه الجوارح والحواس، قلتُ: أَوَ ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا، قلتُ: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟! قال: يا بني إنَّ الجوارح إذا شكَّت في شيء شمَّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردَّته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك، قال هشام: فقلتُ له: فإنما أقام اللهُ القلبَ لشكِّ الجوارح؟ قال: نعم، قلتُ: لا بُدَّ من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم، فقلتُ له: يأ أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً، يُصحِّح لها الصحيح ويتيقن به ما شكَّ فيه، ويترك هذا الخلقَ كلَّهم في حيرتهم وشكِّهم واختلافِهم، لا يُقيِم لهم إماماً يردُّون إليه شكَّهم وحيرتَهم، ويُقيِمُ لك إماماً لجوارحك تردُّ إليه حيرتَك وشكَّك؟!!! قال: فسكتَ ولم يقل لي شيئاً(2).
وهكذا، فدائماً مع هشام وأمثال هشام نردِّدُ قائلين، إذا كان المولى سبحانه قد نَصَبَ وجعل لمسافري الليل والصحاري والبحار علاماتٍ لئلا يضلوا السبيل، أفهل يعقل أن يكون المولى سبحانه قد أهمل طريقَ الوصول إليه، فترك الناسَ يتخبَّطون العشواء، وتتلاعبُ بهم الفتن، وتضِلُّ بهم السبل، وتزيغُ بهم الأهواء؟!!
بلى إنَّ مَن لا يترك شأناً من شؤون الدنيا مما يحتاجُهُ العبادُ في أمر معاشهم إلا وهيَّأه لهم بأحسن ما يكون، لا يمكن أن يُهمِل أيَّ شيء يحتاجه الناس في دنياهم، إلا وقد هداهم إليه ويسَّرهم نحوه ويسَّره نحوهم.
بلى إنَّ من المستحيل أن يُهمِل تعالى ما له دخْلٌ في سعادتهم الأخروية، بل ما تتوقَّفُ عليه سعادتُهم، بل الأمر لا بُدَّ وأن يكون بنحوٍ أوضحٍ وأكملٍ وأتمٍّ في كل ما يكون من شؤون دار القرار؟!
واللهِ إنَّ ما ذكره هشام بن الحكم لأوضحُ من شمس في رابعة نهار خلتْ سماؤه إلا من شعاعها، ولكن ماذا تفعل للأعمى وبالأعمى؟
أَتُصدِّقُهُ على ادِّعائه بأنه لا وجودَ للنور وهو الأعمى عن رؤيتِه والإحساسِ به، أم تُصدِّقُ فطرتَك الصافية وما يهديك إليه وجدانُك الحرُّ؟
ولا يحتاج الأمرُ إلى إعمال نظرٍ وفكرٍ، بل كلُّ عاقلٍ يُدرِك بنحو اليقين أنه سبحانه لا بُدَّ وأن يجعل في طريق الهداية مَن يدلُّ عليه ويهدي إليه.
إنَّ كلَّ عاقل يُدرك بأنَّ الكتاب الكريم والقرآن المجيد لا بُدَّ له من حافظ.
إنَّ كلَّ عاقل يدرك بأنَّ الحقَّ يحتاج إلى مَن يكون مجسِّداً له وبجلاء ووضوح وفي كل شيء، فأينَ عقلاءُ الأمة بعد رحيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى؟!!!
بل أينَ هم ـ وبحسب ما يزعم أبناء السُّنة ـ في حياته (صلى الله عليه وآله)، أفلا كانوا يسألونه عمَن يجبُ التمسكُ به، ومَن يجب الرجوعُ إليه والاهتداءُ بهديه؟!
أَوَ ليس سبحانه القائل {إِنَّمَا أنتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}؟
فمَن هم العلاماتُ والتي لا محالة ستتحقَّقُ الهدايةُ باتِّباعها، مع أنه ليس من شأن كلِّ علامة أن يتحقَّقَ الغرضُ المطلوبُ منها والأثر المرتجى؟
ولكن العلامات في الآية التي نبحث فيها قد أخبر تعالى بأنها علاماتٌ تهدي أبداً، إذ لم يفرض سبحانه لها ضلالاً، ولم يُخصِّص إتِّباعها بظرف دون ظرف.
أخبر سبحانه أنَّ الهدايةَ لا تحصل إلا من خلال تلك العلامات، وإلا من خلال ذاك النجم، وما لم تكن كلُّ هداية حاصلةً من خلال النجم والعلامات المذكورة في الآية، لانتفى أن يكون النجمُ هادياً والعلاماتُ هاديةً بشكل مطلق.
والشيءُ ما لم يكن خافياً ولو بنحو من الأنحاء، فلا معنى لأن تكون تلك العلامةُ أو هذه الأمارةُ هاديةً إليه، فإنها لا تكون هاديةً إلا للشيء غير الحاصل وغير الحاضر، وإلا فمع حضور الشيء وحصوله فلا يُتصوَّر صدقُ الهداية والاهتداء على العلامة والنجم بأي معنى وبأي اعتبار.
فتلخص أنَّ هناك أشياءَ خافية، ولا يمكن الظفرُ بها إلا من خلال تلك العلامات، أو لا مجال للحصول عليها إلا من جهتها، لذا كانت العلاماتُ مما يجب اتِّباعُها، وإلا لضلَّ المتخلِّف عنها السبيل الحق.
وهذا يقودنا إلى نتيجة حاصلها: أنَّ تلك العلاماتِ لا يشبِهُها شيءٌ من العلامات بالمعنى المتعارف من حيث إطلاق صفة الهداية عليها.
وذلك نظراً إلى أنَّ هدايتَها لم تكن مقصورةً بوقت خاص وفي زمن معين أو على طائفة دون طائفة، ونظراً إلى أنَّ الهدايةَ غير حاصلةٍ إلا من جهتها، فإنها علاماتٌ لا مجال للاستغناء عنها، أو تبديلها، أو تبدلها مهما تغيَّرت الظروف وتبدَّلت الأحوال.
وبعبارة أوضح: إنَّ المولى سبحانه يُخبر بأنَّ من خلال النجم والعلامات تحصل الهداية، بل أخبر بأنَّ الهداية لا تحصل إلا من النجم والعلامات، وهذا يعني أنَّ الضلال واقع من الشخص الذي لا يرجع إلى النجم والعلامات، وهذا المعنى لا يمكن أن ينطبق على أية علامة من العلائم التكوينيَّة.
وإذا كان سبحانه قد تفضَّل على الناس، بأن جعل للمسافرين في الصحراء ليلاً علامات خاصة يهتدون من خلالها إلى الطريق الصحيح، فإنَّ الآية ومن خلال ما أشرنا إليه قبل قليل، تدلُّ على أنه سبحانه قد جعل في سبيل الوصول إلى الحق وفي طريق الحق علامات خاصة، وإلا فيكون سبحانه قد أهمل ما لا يصحُّ إهماله، واهتمَّ بأمر أقل أهمية.
ومَن يهدي إلى الحق في جميع الأحوال، لا بُدَّ وأن يكون حقَّاً كلَّه، وليس إلا المعصوم مَن هو حقٌّ كلُّه.
لذا، وبما أنَّ تلك العلامات علاماتٌ وفي كلِّ زمن، فلزمَ أن لا يخلو زمانٌ منها، وإلا فلو خلا زمنٌ عن علامةٍ، لارتفعت صفةُ الهداية عنها في الزمن الذي خلا منها، وهذا يعني أنَّ تلك العلامات لم تكن هاديةً في جميع الأزمنة.
نعم لا تتصوَّر أنَّ ما نقصده من كون العلامات علامات وفي كل زمن، أنَّ كلَّ علامة من تلك العلامات لها صفةُ الهداية فعلاً وفي كل زمن، بل المقصود أنَّ العلامة في ظرف قيامها هي هادية فعلاً، وهذا لا ينافي أن يكون في الزمن الواحد علامتان مثلاً، غايته تكون القائمةُ خصوصَ واحدة منهما، فالإمامة كانت فعلاً للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ولم تكن للحسين الشهيد (عليه السلام) إلا بعد شهادة الحسن.
ثم مما ينبغي أن تعلمه، بأنَّ العلامةَ في مقام هدايتها غيرُ مفتقِرة إلى غيرها، بل تقوم بالأمر على أتمِّ وجهٍ، وإلا فلو كانت تحتاج إلى غيرها لما كانت علامةً بنفسها.
بل كلُّ ما سوي العلامة مما تدلُّ عليه يفتقر إلى العلامة، وهي غنيةٌ عنه، فهي تهدي إلى الحق ولا يمكن حصول هداها ممَن تهديهم، فالافتقار من جانب واحد، فهي تُسأل ولا تسأل، تعطي ولا تأخذ، فأين هذه إلا أنها صفة الأولياء الكمَّل، المطهَّرون المعصومون.