وظاهر جداً أنَّ مَنْ يكون في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً بسبب ضلاله في الدنيا عن الإمام الحقِّ كما هو قضية التفريع - أي ما بعد قوله تعالى فمن كان … - لا يكون ممن يعيش بعض عناوين الجاهلية مع ما هو عامٌّ هذا العنوان ، ولا يكون ممن انحرف عن خطِّ الإسلام .
نعم مَنْ كان في هذه الدنيا أعمى عن الإمام الحقِّ ، يثبت له في الآخرة الضَّلال الواقعي والشقاوة والعذاب الأليم ، فيكون مِن المنحرفين عن الإسلام ، لا مِن المسلمين المنحرفين عن خطِّ الإسلام .
ومهما يكن فالآية الكريمة تحثُّ على تولي مَنْ يكون توليه موجِباً للفوز ، وهي في نفس الوقت تُحذِّر الإنسان عن الإئتمام بغير الإمام الحقِّ .
ومع كمال ظهور الآية في أنَّ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ إماماً حقَّاً وخليفةً إلهيةً -- وإلا لما كان مطلقُ الضَّلال عن الإمام الحقِّ سبباً للخسران المبين -- فإنه يقع للشيعة الإمامية من هذه الآية تصديقُ مذهبهم ، فإنَّ أحداً من المسلمين غيرهم لا يعرف الإمام في كل زمان مَنْ هو .
وبالتأمل في الآية المباركة يتحقق التصديق بما روي عن الرسول الأكرم صلَّى الله عليه وآله من عدم إفتراق الكتاب والعترة الطاهرة إلى يوم القيامة ، وإلا فلو لم يكن لله تعالى حُجَّةٌ وإمامُ حقٍّ في بعض الأزمنة للزم الافتراق على بعض المعاني ، والثابت عن النبي صلَّى الله عليه وآله عدم وقوع الإفتراق بأيِّ معنى .
ومهما يكن فإنَّ الآية المباركة صريحةٌ في دلالتها على أنَّ الله سبحانه سيحشر كلَّ أمةٍ مع إمامهم الذين يتولونه ويأتمون به ، فمَنْ ضلَّ عن الإمام الحقِّ بتوليه لمن لم يجعله الله تعالى إماماً وخليفةً ، فهو في الآخرة من أهل الضَّلال والخسران .
وكأنَّ الآيةَ نصٌّ في أنَّ الثواب دائرٌ مدار التولي والإئتمام بالإمام الحقِّ ، لذا يكون حالُ الجاهل به والمنكِرُ له حالَ الكفار في الآخرة ، وإنْ ثبت لبعضهم حكم المسلمين في الدنيا .
نعم حيث يتفاوت الناس في درك الحقِّ ، ويتفاضلون في القابلية والاستعداد ، مضافاً إلى أنَّ للواقع الاجتماعي الخاص الذي تعيشه كلُّ أمة أو كلُّ فرد أثراً وتأثيراً ، لم يقع لمن يجهل بالإمام الحقِّ من الشارع الأقدس وصفٌ خاصٌّ ذو خاصيَّةٍ واحدةٍ ، فلم يقل مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه مات كافراً ، بل أثبت له الميتة الجاهلية .
ثم من العجيب ما قاله في الندوة : وأما " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " فهذه من باب التنزيل .[183]
فإنَّ كون مَنْ لا يعرف إمام زمانه مع تشهُّدِه بالشهادتين محكوماً عليه بالإسلام في الحياة الدنيا ، لا ينافي أنْ يكون مُلحَقاً بالكفار في عالمَ الآخرة كما هو مفاد الحديث المتفق عليه بين الفريقين (الشيعة والسنة) - أي الحديث المزبور- ، ذلك أنَّ الحديثَ ناظرٌ إلى مَنْ حاله كذلك بعد الموت لا قبل الموت .
نعم مَنْ لا يعرف إمام زمانه وإنْ أُلحق بالكفار في الآخرة لكنه في الدنيا أيضاً من أهل الضَّلال ، وهذا يجتمع مع كونه محكوماً عليه بالإسلام في الدار الدنيا في الجملة .
فما في بعض الأخبار من الحكم بالكفر لا ينافي ما في بعضها من كونه من أهل الضَّلال ، وذلك بحمل الأول على حال الآخرة والثاني على ما عرفت .
ونفيُّ الإمام عليه السلام أنَّ ميتته ميتة كفر محمولٌ على نفيِّ كفره في حال الدنيا ، أي لا تكون ميتته عن كفر ، وإثباته عليه السلام أنَّ ميتته ميتة كفر محمول على أنَّ بعد الموت يكون حالُه حالَ الكفار المنافقين الضالِّين .
وقد روى في الكافي مسنداً عن إبن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول رسول الله صلَّى الله عليه وآله : مَنْ مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية ، قال : قلت : ميتة كفر؟ قال : ميتة ضلال .[184]
وعن الحارث بن المغيرة قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله : مَنْ مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية ؟ قال : نعم . قلت جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه ؟ قال : جاهلية كفر ونفاق وضلال .[185]
هذا ويمكن حَمْلُ جواب الإمام عليه السلام في الحديث الأول على بيان حال غير المنكِر وفي الثاني على المنكِر .
ومهما يكن فلا وجهَ لتفسير الحديث بالرأي بعد ورود الأثر الصحيح عن أهل البيت عليهم السلام ، بل اللازم على مَنْ يرى عصمتهم ووجوب ولايتهم كمال الانقياد والمتابعة ، وعدم متابعتهم ممن يدَّعي أنه موال لهم كما ترى ، فتدبر .
وأخيراً فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام ، وإنما الأئمة قُوَّام الله على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنة إلا مَنْ عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا مَنْ أنكرهم وأنكروه .[186]
وقد روى الشيخ المفيد في أماليه بإسناده إلى أنس بن مالك قال : نظر النبي صلَّى الله عليه وآله إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال : يا علي مَنْ أبغضك أماته الله ميتة جاهلية ، وحاسبه بما عمل يوم القيامة.[187]
فهل أنَّ مَنْ أبغض علياً عليه السلام هو ممن يعيش بعض عناوين الجاهلية ؟ وقد ورد أنَّ الله تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب والخنزير، وأنَّ الناصب لأهل البيت عليهم السلام أنجس منهما !
-----------------------------
[159] الندوة 1 ص 255 ط الثانية 1417 - 1997
[160] النساء 31
[161] المائدة 3
[162] المائدة67
[163] الكافي 1 باب معرفة الامام والرد اليه ص 180 ح 1
[164] المصدر السابق ح 2 ص 180
[165] المصدر السابق ح 4 ص 181
[166] المصدر السابق ح 5 ص 181
[167] المصدر السابق ح 8 ص 183
[168] الكافي 1 كتاب الحجة ، باب فيمن دان الله عز وجل بغير امام ح 1 ص 374
[169] الكافي 2 كتاب الايمان والكفر ، باب دعائم الاسلام ح 1 ص 18
[170] المصدر السابق ح 3 ص 18
[171] المصدر السابق ح 4 ص 18
[172] المصدر السابق ح 7 ص 21
[173] المصدر السابق ح 8 ص 21
[174] المصدر السابق ح 9 ص 21
[175] المصدر السابق ح 5 ص 18
[176] المصدر السابق ح 11 ص 22
[177] المصدر السابق ح 14 ص 23
[178] المصدر السابق ح 13 ص 22
[179] المحاسن 1 باب ما على ملة ابراهيم غيركم ، كتاب الصفوة والنور ح 56 ص 147
[180] الوسائل 1 باب 29 من ابواب مقدمة العبادات ح 12
[181] المصدر السابق ح 13
[182] الاسراء72
[183] الندوة 1 ص 256 ط الثانية 1417 -1997
[184] الكافي 1 كتاب الحجة باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى ص 376 ح 2
[185] المصدر السابق ح 3 ص 377
[186] نهج البلاغة الخطبة 149 من القسم الاول
[187] امالي المفيد المجلس الثامن ح 10ص 75 0دار التيار الجديد بيروت
|