بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم بقائمهم
يوسف عليه السلام وقوله تعالـى: "ولقد همَّت به وهمَّ بها "
قال في الندوة : بعض الناس يقولون " همَّت به " يعني مالت إليه بحيث يؤدي الموقف إلى الفاحشة ، " وهمَّ بها " أي بضربها ، ولكن طبيعة التعبير في الآية يتنافى مع هذا ، لأنه يقول " لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء "، إلى أن قال : لكن فهمي للمسألة أنَّ " همَّ بها " يعني تكونت لديه حالة انجذاب ، والانجذاب حالة لا شعورية ، ولكنه لا يتحول إلى فعل والى ممارسة والى قصد ، كما لو أنَّ إنساناً جائعاً يقبل على رائحة الطعام ، ألا تهشُّ نفسه للطعام فيقبل عليه من غير أنْ يأكله ، إلى أنْ قال : وخلاصة الفكرة إنّ يوسف لم يتحرك نحو المعصية ولم يقصدها ولكنه انجذب إليها غريزياً بحيث تأثر جسده بالجو دون أن يتحرك خطوة واحدة نحو الممارسة ، لأنه رأى في عصمته الروحية البرهان الذي يضغط على موقفه الجسدي لحساب موقفه الروحي. إهـ [149]
أقول : إنَّ حقيقة واقع البحث في هذه المسألة يقضي علينا بالبحث في عدة مسائل ومنها العصمة وإلى ما ترجع حقيقتها وما هو منشؤها ، وبما أنَّ البحث في ذلك يستدعي بسط الكلام بنحو يُمثِّل كتاباً مستقلاً من جهة ، وكان قد بحث في هذا الأمر أكثر من واحد من الفضلاء ، فرأينا أنْ نترك الخوض في المسألة المزبورة لضيق المجال جداً في المقام .
وأما ما ذكره السيِّد فضل الله فلا يكاد يخفى ما فيه ، فنقول : إنَّ كلَّ متأمل في الآيات الواردة الحاكية عن الأمر المبحوث فيه وما اكتنفه من أمور وملابسات يخلص بنتيجة حاصلها : إنَّ يوسف الصدِّيق المخلَص كان القدوة في الثبات أمام ما تُعرِّض له على الرغم من توفر جميع العوامل المساعدة على الاستجابة لما طُلِب منه ، بل يكاد يقطع كلُّ ذي فضلٍ بأنَّ البلاء والمحنة والاختبار الذي وقع ليوسف يُمثِّل في حقيقته أمراً يفوق الوصف ، مع أنَّ كلَّ مَنْ له دخلٌ في واقع يوسف الاجتماعي الذي كان يعيشه في بيت العزيز مأمونٌ جانِبُه ، بحيث ما كان مثل يوسف ليمتنع عما عُرِض له خشيةَ أمرٍ من أمور الدنيا ، بل يتمحَّض امتناعه في كونه مسبَّباً عن إمتلاك يوسف لحظٍّ عظيم من المعرفة بالحقِّ والخوف من المولى سبحانه ، وبالتالي فيوسف كان الشخص الذي ليس في قلبه إلا الحب لله تعالى والخوف منه سبحانه .
وهذا المعنى ينهض بإثباته أيضاً وصف المولى سبحانه له ب" انه من عبادنا المخلصين".[150] وقد قال سبحانه حاكياً عن إبليس عليه اللعنة قوله
" ولأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين "[151]، وقوله " قال فبعزتك لأغوينهم اجمعن إلا عبادك منهم المخلصين ".[152]
وبما أنَّ الشيطان يُمثِّل الباطلَ في جميع شؤونه وتقلباته ، فإنه يستفاد من الآيات المزبورة ، أنَّ المخلَص ( بالفتح ) لا يقرب منه الباطلُ ولا يدانيه ، وأنه ليس للباطل تطلُّعٌ إليه بأيِّ نحوٍ من أنحاء التطلُّع والنظر .
ومَنْ لا يقرُب منه الباطلُ مع كونه قد واجه ربَّ الأرباب قاهرَ السموات والأرضيين ، يكشف عن تحصُّنِ المخلَص بما أفاد للباطل علماً يقينياً قطعياً بأنْ لا جدوى من محاولة إغوائه ، وليس من وجهٍ لذلك إلا كون قلب المخلَص وعقله وروحه ونفسه محاطَاً بحب الله تعالى والخوف منه الناشئ من العلم الحقيقي بالله تعالى ، بحيث يكون المخلَص في جميع شؤونه مستغرِقاً في جمال الله تعالى إستغراقاً كلياً ، لينتج عن ذلك كله صيرورته نوراً إلهيا ومخلوقاً ربانياً ، فيحصل لقلبه الإشراق المستمر ويقع عليه في تمام أحواله من تجلِّيات النور الحقِّ ما يُبقِيه مقهوراً في حالة الحب الحقيقي والخوف الواقعي ، ليكون في مرتبة ما نظرتُ إلى شيء إلا ووجدت الله ، وإنْ كان التفاوت بين المخلَصين في أمر وجدان الله وجداناً حقيقياً موجوداً ، فإنَّ القابلية والاستعداد ليسا بنحو واحد .
ومَنْ يكون مخلِصاً في السرِّ والعلن يحصل له المقهورية التامة لساحة ذي الجلال والإكرام ، فيستحيل أنْ يتأثر شيءٌ من جسده بسوى ما يناسب تجلِّيات الحقِّ في قلبه ، وإلا فإنَّ الجسد من دون روح لا قابليةَ له على التأثر والإنفعال ، فإنَّ المتأثِّر والمنفعِل هو الروح لينعكس ذلك على الجسد الضعيف المقهور لحاكمية الروح المدبِّرة له والقائم هو بها .
وهل حدَّث عاقلٌ بأنَّ حجراً قد تأثر وانجذب عندما جلست عليه فتاة ذات جمال وأناقة ؟! فكيف يتأثر جسد يوسف الذي واجه نظره لامرأة العزيز لِمَا تحمله من مواصفات في مجال الإغراء ؟!
هل لأنَّ يوسف المخلَص عندما نظر إليها كان آبقاً من مولاه ، أو كان بين قلب يوسف وجمال الله تعالى وعظمته حاجبٌ فقهر جمالُ المرأة قلبَه ؟!
وهل عندما واجهته المرأة لم يكن مخلَصاً ، وبالتالي لم يكن قلبه محاطَاً بحب الله تعالى ، وكان في قلبه شيء من الفراغ ومن الباطل ، فكان أنْ سبَّب ليوسف أنْ نظر إليها بقلبه فحصل له التأثر ؟!
وهل لقلب يوسف المستغرِق في الله مجالٌ لأنْ يُبصِر في قلبه غيرَ الله سبحانه ليتصور ذو مسكة في حقه تأثر جسده ؟!
وإذا كنَّ النسوة عندما برز لهنَّ يوسف قد غفلنَّ عن أنفسهنَّ فقطَّعنَّ أيديهنَّ وهنَّ غيرُ ذات شعور بما يفعلنَّ بأنفسهنَّ ، فأنَّى ليوسف الذي ينظر إلى نور الله والذي يبصر جمال الله والذي يلحظ عظمة الله ، أنْ يغفل عن جماله ونوره تعالى ويعمى عن عظمته سبحانه ، فيقع منه النظر إلى مثل امرأة العزيز ليـتأثر جسده 0
وإذا كان فَعَل الجمال اليوسفي بالنسوة ما فعل ، فهل لك أنْ تدرك ماذا يفعل جمال الله سبحانه في يوسف المخلَص ، وفي قلب يوسف الصدِّيق ، وفي روح يوسف المصطفى ؟!
وهذا المقدار الذي ذكرناه لا أتصور إلا كونه وافياً بالمطلوب في المقام .
وأما ما ادَّعاه السيِّد فضل الله من أنَّ : ولكن طبيعة التعبير في الآية يتنافى مع هذا ، فإنه لا يخفى فساده بحسب ما قررناه اختصاراً أولاً .
وثانياً : كأنَّ السيِّد فضل الله لم يتفطَّن إلى قوله تعالى " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " فإنَّ مثل هذا التعبير يتنافى مع ما ذكره هو ، إذ لو كان لِما ذكره وجه – والعياذ بالله – لكان التعبير الذي ينسجم معه أنْ يقال : كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء لفرض أنه انجذب إلى السوء والفحشاء ، فكان منا أنْ نصرفه ، لا أنْ يقال : " كذلك لنصرف عنه " والذي يفيد جداً أنه ليس بينه وبين السوء والفحشاء أيُّ التقاء وأيُّ انسجام حتى جسدياً .
ثم لا أريد أنْ أبحث في أنَّ هل حالة الانجذاب النفسي ترجع إلى الاختيار ، أو أنها حالة غير شعورية ؟
وهل أنَّ للأولياء إنجذاباً نفسياً غير شعوري ، أو أنَّ لهم إنجذاباً نفسياً في غير ساحة الحقِّ ؟ فإنَّ للبحث في هذا مجالاً آخر إنشاء الله تعالى ، ويكفي للعاقل أنْ يلحظ بعض أدلة العصمة وبعض أوصاف المعصومين ليقف على شيء من الحقيقة كافٍ وافٍ .
ولكني أتساءل وأسأل من السيِّد فضل الله هل أنه رأى من نفسه أنَّ إنجذابه النفسي في الأمور الجنسية هو حالة غير شعورية ؟!
وهل وقف على حالات الناس فعَرِف ولو من خلال سؤاله أهل الخبرة في هذا المجال ، أنَّ حالات الانجذاب في ما يرتبط بالشهوة الجنسية هي حالات غير شعورية ؟!
وهل يرى السيِّد فضل الله أنَّ الإنسان المتَّزن الملتزم - لا أقول المعصوم - إذا جلس مع أختٍ له من أبيه وأمه بعد غياب طويل عنها ، وهو مع ذلك يشكو في نفسه حاجةً جنسيةً شديدةً ، فجلس معها وهي ذات جمال جميل وسحر جذاب ، فهل يرى السيِّد فضل الله أنَّ كلَّ إنسان متزن ملتزم يكون منه حالة الانجذاب النفسي ، مبرِّراً لدعواه التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان أنَّ الانجذابَ أمرٌ غير شعوري ؟!
ثم لا تُسرِع بالنقض فتقول : عدم الانجذاب إلى الأخت ليس مرجعه الحرمة فقط 0 لأننا نقول : بلى لو كان نكاح الأخت جائزاً لكان التعامل والتفاعل معها أمراً طبيعياً قطعاً ، ولا مجال للتفصيل .
وهل يرى السيِّد فضل الله أنَّ كلَّ الناس مبتلين الآن بحالة الانجذاب النفسي ، لما يعايشوه في أكثر مواقع حياتهم من الاختلاط بالنساء مع ما هنَّ عليه النساء من حالات السفور والتبرُّج ؟!
أَوَ يجهل السيِّد فضل الله بأنَّ الجرح يسكنه الذي هو آلم ، وبأنَّ اشتغال الإنسان العاقل وانشغاله بأمر يراه مهماً ، يستلزم عدم إنجذابه إلى أيِّ أمرٍ آخر لِما يفرضه واقع الاستغراق التام في أمر من الأمور من تمام الغفلة عن غيره ، فلا يقع من المستغرِق الالتفات إلى سوى ما هو في حالة استغراق فيه ، ولا يقع منه ولا له إنجذاب نفسي ولا تأثر روحي ولا جسدي !
أو أنَّ يوسف كان يشكو حاجة جنسية شديدة ، وهو مع ذلك غفل عن أنَّ المرأة حرام عليه ، فوقع في قلبه سهم من سهام الباطل ، وأصابت عين البصيرة ، فحُجِب عنه الحقُّ ، فكان من الطبيعي أنْ نظر إلى امرأة العزيز نظر ريبة وشهوة ، فتحركت غريزته لأنَّ صمَّام الأمان كانت قد أصابته السكتة ، لِما عاين من المرأة ما عاين ، بحيث رأى يوسف ضالته ووجد حكمته ، ولكنَّ الله من لطفه ثبَّت وبرحمته لطف ، فأدركته العناية الإلهية فرأى في عصمته الروحية – التي كانت قد غابت عنه أو كان هو غاب عنها بسبب الصدمة وقد حصلت له عندما واجهته المرأة – البرهانَ الذي يضغط على موقفه الجسدي لحساب موقفه الروحي ، بعد أنْ تصارع الجسد المقهور من الروح مع الروح القاهرة له أبداً ، فغلبت مع أنَّ الجسد أبداً مغلوبٌ مقهورٌ؟!!!
نعم كلُّ إنسان ملتزم متديِّن يخشى الله تعالى خشيةً معتدَّاً بها ، إذا كان جائعاً وأقبل على رائحة طعام وهو يجهل بأنها رائحة طعام محرم ، فإنه تهشُّ نفسه للطعام ويُقبِل عليه .
وأما إذا كان يعلم بأنها رائحة طعام محرم ، فإنه لا تهشُّ نفسه للطعام وواللهِ لا يُقبِل عليه ، نعم يأكله حال الاضطرار وهو كاره له غير باغ ولا عاد ، اللهم إلا أنْ يكون ضعيفَ الإيمان ضعيفَ العقيدة ، وليس يُنكِر هذا المعنى إلا كلُّ ضعيفِ الإيمان مذبذبِ العقيدة .
ولو تنزلنا فهل المعصوم إذا عطش وأقبل على رائحة خمر ونبيذ تهشُّ نفسه لشرب الخمر والنبيذ ؟! قاتل الله كل من يُدَّعى له أنه معصوم إذا كانت حالته كذلك .
ولعن الله كل من يُدَّعى له أنه معصوم إذا ما كانت نفسه تهشُّ للطعام المحرم .
ثم إننا لا نُنازع في أنَّ أمرَ الغريزة من الأمور التي تتأثر تلقائياً بسبب مواجهة الإنسان لكل ما من شأنه أنْ يحرِّكَها ، ولكن مع ذلك فليس الانجذاب النفسي بنحوٍ واحدٍ بالنسبة لعوامل الغرائز المتعددة من جهة ، مضافاً إلى تفاوت حالة الاستجابة النفسية بتفاوت الأمور التي يواجهها الشخص الواحد فضلاً عن تفاوتها بتفاوت حالات الشخص ، فضلاً عن وضوح تفاوت الناس فيما بينهم بالنسبة لشيءٍ واحد .
والانجذاب النفسي الحاصل بسبب التوجُّه إلى المحرِّك يرجع إلى جُنْبةٍ إختيارية تتمثَّلُ بجانب التوجُّه الإرادي ، غايته يكون ضَعْفُ القوة العاقلة عند شخص وذوبانه في ظلام الغرائز ومثيرات الشهوة ، وفقدانه للمناعة مما يستلزم غالباً حصول الانجذاب الغريزي بنحو يكون مفقوداً فيه عنصرُ الاختيار كعنصرٍ بارزٍ ، وإنْ كان لا يكاد يُنكَر وجوده .
لذا ترى - ولا يتأتَّى لأحد إنكاره - التفاوتَ بين أبناء البشر في أمر الإستجابة أمراً ملحوظاً ، تبعاً لتفاوت حالات الأشخاص بل حالة الشخص الواحد .
وإذا ما كان ذهن الإنسان مصروفاً عما يراه من مثيرات لانشغاله أو إشتغاله بأمر تعظم عنايته فيه ، وكان همُّه مستغرِقاً في نجاح ما هو مشتغِل في إتمامه ، فإنَّ أيَّ إنجذابٍ لا يكاد يحصل في نفسه .
والنفس التي تقصر عن التوجه إستقلالاً إلى أكثر من أمرٍ في نفس الآن ، فإنَّ الإنسان بالتالي لا يتأتَّى منه ولا يحصل لديه إلا التأثر بما هو فعلاً يتوجَّه إليه ويفكِّر فيه .
ثم إنَّ الغريزة أيَّةَ غريزة ليست مما لها حظُّ التمرد على النفس الناطقة العاقلة القوية تمرَّداً كلياً ، بمعنى أنْ تكون النفسُ أبداً ودائماً مقهورةً للغريزة ، بل هذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص في أمر الإدراك والقابلية والتهذيب للقوى المتباينة والتي تحاول البروز والسيطرة .
فمن كانت الغلبةُ في نفسه للعقل وجندِه ، فإنَّ النفسَ العاقلةَ الناطقةَ تقهر الغريزة بحسب ما يكون للنفس من حظٍ في عالم الحقيقة والواقع ، وهذا يتفاوت بتفاوتِ قوةِ العقل وقوة جنده ، وكم للنفس حظٌّ من الجند ، فإنَّ للقوة العاقلة وللعقل مراتبَ ودرجاتٍ ، وللنفس في شأن استجماع الجند حالات ومقامات .
والمؤمن من الناس أقوى من غير المؤمن في الجملة ، والصالح والزاهد قويٌّ فيما صلحت نفسه فيه أو زهدت به وعنه ، والوليُّ أعلى درجةً ثم الترقِّي في عالم العقل بحسب الاستعداد والقابلية والتي لا يغيب عنها اللطفُ الإلهيُّ والعنايةُ الربانيةُ ، والرحمةُ الرحمانيةُ حافظةٌ بحفظ الله تعالى لمن يحفظ ويثبت في عزمه ، والعزمُ يتبع العلمَ الدافعَ بالشوق إلى العمل ، ولأنْ شكرتم لأزيدنَّكم ، والعلمُ له الغلبة في عالم الحقائق ، فلا يستوي مَنْ يعلم ومَنْ لا يعلم ، وكلما ازداد الوليُّ علماً إزداد خشوعاً وخوفاً وشوقاً ورجاءً ، حتى إذا غلب العلمُ واستوى العقلُ بحسب ما يطيق فإنه تحصل السيطرةُ التامةُ على الغرائز ، فلا يكون كلامه إلا في الله ، ولا يكون نظره إلا ربانياً وسمعه إلا رحمانياً ، فيقع عليه إسم خليفة الله ، ليتجسَّد الحقُّ فيه عقلاً وروحاً وقلباً ونفساً ، فلا يرى ولا يُبصِر ولا يسمع إلا الحقَّ ، ومَنْ يحصل له الاطمئنان بالله فلا غروَ أنْ يستوحِش مِنْ كل مَنْ سواه ، فلا يمكن لنفسه أنْ تهشَّ إلا في الله ومع الله .
ومَنْ يُبصِر النورَ يعمى عن الظلمة ويلهو عن الباطل .
وهل رأيتَ حبيباً انجذب نفسياً أو غرائزيَّاً إلى مَنْ يكره ويُبغض وهو يرى حبيبه ويلحظ آياته ؟!
وهل يغيب المولى سبحانه عن قلب يوسف ، أو يلتفت يوسف إلى سواه ؟!
ومَنْ أبصَرَ جمالَ النورِ هل يُبصر نفسه ؟!
وهل تظنُّ في مجنون ليلى أنه كانت لتغيب عنه ليلى فيحاكي الجدار ؟!
وهل تظنُّ في يوسف الذي أنِسَ بالمولى سبحانه ، أنْ تلهيه مثل امرأة العزيز ليلتفت إليها ، وبرهانُ الله قد صدع قلبَه وأخذ بلُبِّه ، وجمالُه سبحانه قد أسكره سكرةً لا يكاد يفيق منها لولا لطف الجميل ، وعظمتُه تعالى قد خشع لها قلبُه وعقلُه فأُصيب لولا الرحمة الواسعة بغيبوبة السكتة .
وكم ترى في نفسك - وأين أنت من الصديق المخلَص يوسف -أنك كثيراً ما تقهر غريزتك فإذا هي ساكنةٌ ، وتكاد تدرك أنْ لا غريزةَ لك حتى تكاد تغفل عن الإدراك المزبور 0
وكم رأيت في نفسك ضعفك عن تحريك غريزتك ، وقصور أمور عدة عن تفعيلها في نفسك إنجذاباً واستجابةً نتيجةً لصدمة قوية أو مشكلة شديدة .
فهل ترى في يوسف ضعفاً في مقام قهره وقتله وإماتته لجند من جنود الشيطان ، أو تراه ضعيفاً عن قهر غريزته في غير مقام هو يريد لها أنْ تستجيب ؟!
أَوَ ترى أنَّ برهان الله تعالى وعظمته سبحانه ونور جماله جلَّ شأنه ، أقل شأناً ، وأضعف قوة ، وأهون وقعاً ، وأخف قدراً ، حتى يكون مَنْ عاين نوراً بعين بصيرته ، وأدرك مِنْ عظمة الله بعقله ما أدرك ووعى من الحقيقة ما وعى ، ممن يبقى في غياهب نفسه أثرٌ لشهوة حيوانية أو غريزة نفسانية ، بحيث يكون مِنْ شأنه أن تتحرك غريزته ، أو تنجذب نفسه مِنْ غير إرادته ودون إختياره ؟!
وهل لشيءٍ يُسمَّى بلا شعور له حظُّ في نفس مثل يوسف ؟!
ومَنْ يشعر بالله في كلِّ حالاته وسائر تقلباته ، هل يبقى فيه شيء يُطلَق عليه اسم اللاشعور ؟!
ثم لا أدري هل أنَّ الإنجذاب النفسي اللاشعوري حاصلٌ لأهل المحشر ، فكيف تذهل كلُّ مرضعةٍ عما أرضعت ، وهم يومئذ سكارى وما هم بسكارى ؟!!