المناقشة الثانية:
قال الدكتور القفاري:
"تصف رواية سليم جمع علي القرآن بأنه لم يكن كلّه قرآناً بل جمع تنزيله وتأويله والناسخ والمنسوخ منه وهذا رغم أنـّه لا يصحّ من أصله إلاّ أنه يدل على أنه ليس وفق الاصول التي أمر بها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لجمع القرآن ومنها قوله: "لا تكتبوا عنّي شيئاً غير القرآن"(2) فقد أمر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بكتابة القرآن ونهى أن يكتب معه غيره خشية أن يختلط بشيء آخر"(3).
أولاً: إنّ رواية سليم ليست وحدها التي ذكرت أنّ في هذا المصحف التنزيل والتأويل والناسخ، بل إنّ ذلك ورد في روايات أهل السنة أيضاً.
ثانياً: إنّ الدكتور القفاري نفسه يدّعي أنه:
"كان لابن مسعود وأبي بن كعب وعائشة وسالم مولى حذيفة مصاحف... وقد يكتبون تفسيراً لبعض الآيات في نفس المصحف... وربما كتبوا ما نسخت تلاوته..."(4).
فهل انّ جميع هؤلاء نسوا أمر النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدم كتابة شيء سوى القرآن؟ أم انّ رواية "لا تكتبوا عنّي شيئاً غير القرآن" في الأساس إمّا
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 200.
2 ـ وردت رواية بمضمونها عن ابي هريرة، انظر: تقييد العلم: ص 34.
3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 236.
4 ـ نفس المصدر: ص 1025.
الصفحة 436
صادرة في مورد خاص أو انها موضوعة ومختلقة كما هو الاقوى.
ثالثاً: ان رواية "لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن" لم ترد من طريق أهل البيت ولا من طريق من يركن إليه، وهي من الحديث الموقوف(1) والمعارض(2) بزخم من الرّوايات، وما هو في الواقع إلاّ توجيه لحفظ عمل الخلفاء واُمراء بني امية الذين منعوا كتابة ـ وحتى نشر ـ روايات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى النصف الأوّل من القرن الثاني(3)، فهم لم يجدوا حيلة يدافعون بها عن اجتهاد الخلفاء وحكام الجور إلاّ الاستناد إلى رواية هي على أضعف الفرضيات موقوفة وعلى أكثر الشواهد مختلقة. بل إنّ الخلفاء أنفسهم قد منعوا من كتابة ونشر حديث النبىّ صلّى الله عليه وآله لم يستندوا إلى هذه الرواية.
رابعاً: كما ان سنة النبىّ صلّى الله عليه وآله لم تكن على منع كتابة الحديث، إذ هل يعقل ان المولى عزّ وجلّ امر النبىّ صلّى الله عليه وآله بتبيين وتعليم آيات الوحي للناس في جميع ابعادها من الاصول والفروع ولكن النبىّ صلّى الله عليه وآله وهو معلِّم الوحي(4) ومبيّنه(5) منع عن كتابة كلامه؟! والحال ان دين الإسلام هو الدين العالمي ويجب أن يصل صوته إلى جميع أرجاء المعمورة إلى يوم القيامة الأمر الذي يقع على عاتق الكتاب والسنة.
خامساً: إنّ مسألة منع كتابة الحديث ليست بالأمر الهيّن إذ هي محل ابتلاء
____________
1 ـ عدّ البخاري هذا الحديث موقوفاً. نقلاً عن تقييد العلم: ص 31.
2 ـ فهي معارض لسنّة وسيرة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والرّوايات الصريحة المنقولة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، كما سيأتي.
3 ـ المنع من كتابة الحديث حتى النصف الأوّل من القرن الثاني من المسلّمات التأريخية، وهناك شواهد ومصادر كثيرة تدلّ على ذلك. انظر مثلاً: أضواء على السنّة المحمّديّة: ص 47.
4 ـ سورة الجمعة (62): الآية 2.
5 ـ سورة النحل (16): الآية 46.
الصفحة 437
الناس وهم في أمسِّ الحاجة إليها فعلى هذا كيف ترد في تلك المسألة العظيمة ومحل الابتلاء، رواية أو روايتان فقط وتتعارض مع روايات عديدة(1).
والطامة الكبرى هي أنّ كثيراً من الصحابة خالفوا هذا الأمر الخطير فهذه الرواية المنقولة عن عائشة أمّ المؤمنين وفيها:
"جمع أُبي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلّب كثيراً قالت: فغمّني، فقلت: أتتقلّب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلمّا أصبح قال: أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرّقها..."(2).
وهكذا الأمر بالنسبة إلى عمر بن الخطاب الخليفة، إذ بلغه انه قد ظهر في أيدي الناس كتب فاستنكرها وكرهها وقال:
["أيها الناس... فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي فظنوا انه يريد ينظر فيها، ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار..."](3).
سادساً: ثم كيف يمكن أن ينهى النبىّ صلّى الله عليه وآله عن الكتابة والحال انّ الرّوايات الاخرى الكثيرة تنقل عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره بالكتابة والتعليم والتعلم، وحتى الأمر بكتابة الحديث، فعلى سبيل المثال:
إن النهي عن الكتابة يخالف ما روي عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتاب وصيته في حادثة يوم الخميس التي روتها أهل السنة والشيعة(4)، ولوضوح موقفه
____________
1 ـ ان كانت المسألة عظيمة وكثيرة الابتلاء ومع هذا لم ينقل عنها إلاّ عدد قليل، فهذا دليل على انها موضوعة أو خطأ من راويها.
2 ـ تذكرة الحفاظ: ج 1، ص 5.
3 ـ الطبقات الكبرى: ج 5، ص 188 وتقييد العلم: ص 52.
4 ـ وهي الحادثة التي وصف فيها ابن عباس بالرزية وقال: "الرزّية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب..."، انظر صحيح البخاري مع فتح الباري: ج 8، ص 32، كتاب المغازي الرقم 4432، النص والاجتهاد: ص 151، صحيح مسلم: ج 3، ص 1259، كتاب الوصية: الرقم 22، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي و... وغيرها كثير من روايات أهل السنة التي أوردت هذه الحادثة المرّة، ولغرض استيفاء سند ومتن كتابة الوصية انظر الهوامش التحقيقية الملحقة بكتاب "المراجعات": ص 446 وما بعدها.
الصفحة 438
صلّى الله عليه وآله وسلّم من كتابة الحديث وأمره به، فانّ ثلّة من علماء أهل السنّة اعتمدوا على ذلك في جواز كتابة العلم في عصر النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم "ابن حجر" في فتح الباري(1) ورفعت فوزي "في توثيق السنّة في القرن الثاني الهجري"(2).
وأمّا التوجيه الذي ذكره بعضٌ وتبعه الدكتور القفاري في نهي النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الكتابة وهو: "نهى أن يكتب معه ـ أي مع القرآن ـ غيره خشية أن يختلط بشيء آخر" فهو غير مقبول ولا مسموع، وإنّ ما ذهب إليه الدكتور القفاري مستفاد من قول النووي في شرحه على صحيح مسلم حيث يقول النووي:
"اختلفوا ـ أي المسلمون ـ في فهم المراد بهذا الحديث: لا تكتبوا عنّي شيئاً غير القرآن الوارد في النهي"
وبعد أن أورد وجوهاً في تعيين المراد من هذا الحديث قال:
"قيل: إن حديث النهي منسوخ بالأحاديث الواردة في جواز الكتابة، وكان النهي حيث خيف اختلاطه بالقرآن، فلمّا أمن ذلك أذن في الكتابة و..."(3).
____________
1 ـ فتح الباري: ج 4، ص 210.
2 ـ توثيق السنّة في القرن الثاني الهجري: ص 47.
3 ـ صحيح مسلم بشرح النووي: ج 18، ص 130. وأوردها أيضاً في فتح الباري: ج 1، ص 206 وما بعدها بهذا الاختلاف.
الصفحة 439
لكن إعجاز القرآن ينفي وجود مثل هذا الاختلاط، وخاصة في حياة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى مرأىً منه، إذ إنّ النبىّ صلى الله عليه وآله وسلم سيمنع من وقوع أي اختلاط، ومع جواز هذا الاحتمال الباطل فان الخوف من الاختلاط إنّما يتأتّى في أوائل البعثة يعني الزمان الذي لم يدوّن فيه القرآن كما ذهب إليه كثير من أهل السنة قديماً(1) وحديثاً(2)، فهناك يكون خوف الاختلاط أمراً وارداً، لكن الاشكال حينئذ يصبح أشدّ صعوبة حيث ان الراويين للحديث اثنان فقط أحدهما: "أبو سعيد الخدري"(3) والآخر "أبو هريرة"(4). فأمّا أبو سعيد فكان عُمره يوم اُحُد ثلاث عشرة سنة، وأبو هريرة دخل الإسلام في السنة السابعة من الهجرة في المدينة، فكيف يتسنّى لهما نقل رواية كهذه في أوائل البعثة.
نعم، إنّ مسألة منع كتابة الحديث في زمن الخلفاء لها جذور تمتد إلى عصر الرسالة، حيث انّ صدى الرسالة لم يصل إلى أعماق نفوسهم، فجوّزوا لأنفسهم الاجتهاد في مقابل النص، وإليك ما ذكر "عبد الله بن عمرو بن العاص" شاهداً على ما ذكرناه، فقال:
"كنت أكتب كلّ شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنّك تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول
____________
1 - كابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: ص 266 وابن القيم، كما في تهذيب سنن أبي داود: ج 5، ص 245، وقد عزا الخطيب البغدادي هذا القول الى عدّة من الناس. تقييد العلم: ص 57.
2 ـ كمحمد أبو زهرة في كتابه "الحديث والمحدثون": ص 124 وصبحي الصالح في "علوم الحديث ومصطلحاته": ص 20.
3 ـ انظر: كتب التراجم والرجال كـ "سير أعلام النبلاء": ج 2، ص 168.
4 ـ أسلّم أبو هريرة قبل وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بثلاث سنين (في وقعة خيبر). انظر: اضواء على السنة المحمدية: ص 202 وشيخ المضيرة: ص 45.
الصفحة 440
الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بشر يتكلّم في الغضب والرّضا، فأبيت عن الكتابة، فذكرت ذلك للرسول فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي إلاّ الحقّ"(1).
والمؤسف أنَّ هذه الفكرة استمرت إلى ما بعد وفاة النبىّ صلّى الله عليه وآله وتركت آثاراً مضرّة ومخرّبة، ودراسة تلك الأضرار، من فتح الطريق لدخول الاختلاق والوضع في الأحاديث ونشر الاسرائيليات بشكل واسع، وابتعاد الناس عن المنبع الثاني في التشريع وهم أهل البيت عِدل القرآن ـ ونقدها وتقويم آراء العلماء في هذه المسألة يحتاج إلى مجال آخر
|