المسألة الثانية: دراسة في محتوى ومضمون مصحف الإمام علىّ:
أ: محتوى المصحف في مصادر أهل السنة:
توجد لدينا عدّة روايات من كتب أهل السنّة تدور حول مضمون مصحف الإمام علي عليه السلام، نشير إلى بعضها:
قال محمّد بن سعد بعد أن أورد الخبر:
"فزعموا أنـّه كتبه على تنزيله، وقال محمّد بن سيرين فلو اُصيب
____________
1 ـ المصدر السابق: ص 262.
2 ـ يرى "الفضل بن شاذان ت 260" أنّ هذا السؤال أجاب عنه أهل السنة فيقول: "ثم رويتم بعد ذلك كله ان رسول الله صلّى الله عليه وآله عهد إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ان يؤلف القرآن فالّفه وكتبه ورويتم أنّ ابطاء عليّ على أبي بكر البيعة [على ما] زعمتم لتأليف القرآن فاين ذهب ما الّفه علي بن أبي طالب عليه السلام حتى صرتم تجمعونه من افواه الرجال...". الايضاح: ص 222، وهذا الجواب يدل على قدم مسألة وجود مصحف الإمام علي عليه السلام في كتب أهل السنة بشكل لا يقبل الانكار.
الصفحة 426
ذلك الكتاب لكان فيه علم..."(1).
وقال ابن عبد البرّ بسنده عن محمّد بن سيرين مثله(2).
وقال ابن جزي:
"فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنّه لم يوجد"(3).
وقال ابن اشته:
"كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ"(4).
وقال ابن الضريس بسنده عن عكرمة:
"... لو أجمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا"(5).
وأخيراً قال السيوطي:
"جمهور العلماء اتفقوا على أنّ ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة وان ابن فارس استدل لذلك بان منهم من رتبها على النزول وهو مصحف علي كان أوله إقرأ ثمّ نون ثم المزّمّل هكذا ذكر السور إلى آخر المكّي ثم المدني"(6).
وقد ذكر عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة تفسيره فهرساً لترتيب السور في
____________
1 ـ الطبقات الكبرى: ج 2، ص 338.
2 ـ الاستيعاب، القسم الثالث: ص 976.
3 ـ التسهيل: ج 1، ص 4.
4 ـ نقلاً عن الاتقان: ج 1، ص 58.
5 ـ نقلاً عن الاتقان: ج 1، ص 66.
6 ـ الاتقان في علوم القرآن: ج 1، ص 66.
الصفحة 427
مصحف الإمام علي عليه السلام(1).
فنلاحظ ان مضامين هذه الرّوايات تتحد مع روايات الشيعة ـ الآتي ذكرها ـ في الدلالة على ان مصحف الإمام علي عليه السلام علاوة على أنّ سوره وآياته مرتبة كما أنزلها الوحي، فهو يشتمل على حقائق كثيرة من تبيين وتفسير للآيات الشريفة. فعلى هذا فإنَّ ما قاله ابن سيرين في شأن المصحف: "كتبه على تنزيله" ـ مع التنبه إلى اصطلاح "التنزيل" عند القدماء ـ كان بهذا المعنى أي إنَّ ذلك المصحف يشتمل على حقائق شرح وتفسير مراد الله عز وجل بحيث صار كنزاً عظيماً من العلم وهذا ما اكدته الرّوايات بقوله: "لو اصبت ذلك الكتاب لكان فيه علم" ولو كان التفاوت بين مصحف الإمام علي عليه السلام وهذا المصحف الذي هو الآن في أيدينا هو الترتيب والتأليف في الآيات والسور فقط لما قال عنه ابن سيرين وآخرون: "لكان فيه علم كثير" وهذا ممّا لا شكَ فيه لأنّا إذا تنبَّهنا إلى عظمة شخصية الإمام علي عليه السلام ومكانته من القرآن والنبىّ ـ فيما لو أمعنّا في مفاد حديث الثقلين وأنه عدل القرآن ـ لقطعنا بأنّ أمر تدوين القرآن الكريم لم يعرف علمه عند غير الإمام علي عليه السلام، ولو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يؤلّفوه هذا التأليف لما استطاعوا.
ب: محتوى المصحف في مصادر الإمامية:
لقد ذكرت روايات الخاصّة أيضاً شيئاً عن مضمون هذا المصحف، ولأنّ هذا المصحف موجود لدى الأئمة الطاهرين وراثة عن أمير المؤمنين عليه السلام فيجب ان نبحث هذه المسألة أكثر تفصيلا، لأنّ الدكتور القفاري ادّعى بأنّ هاتين الرّوايتين فيما يتعلق بهذا المصحف(2) وكلاهما تدلان على التّحريف اُولاهما عن
____________
1 ـ مفاتيح الأسرار: ج 1، ص 125.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 261.
الصفحة 428
الباقر عليه السلام يقول:
"ما ادّعى أحد من الناس أنـّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده."(1).
وفي الحديث الآخر عن الإمام الباقر عليه السلام أيضاً يقول:
"ما يستطيع أحد ان يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء"(2).
ولكنَّ هاتين الروايتين مع غض النظر عن سندهما(3) لا تدلان على تحريف القرآن إطلاقاً وهذا ما يستفاد من القرائن الداخلية في تلكما الروايتين كما قاله العلاّمة الطباطبائي:
"قوله عليه السلام "إنّ عنده القرآن كلّه" الجملة وإن كانت ظاهرة في لفظ القرآن ومشعرة بوقوع التّحريف فيه لكن تقييدها بقوله: ظاهره وباطنه يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة الفهم العادي ومعانيه الخافية على الفهم العادي وكذا قوله في الرواية السابقة "وما جمعه وحفظه" الخ، حيث قيد الجمع بالحفظ فافهم"(4).
وقرينة "الاوصياء والأئمة من بعده" في هذه الرّوايات هي أيضاً خير شاهد على أنّ المراد من جمع القرآن كله ظاهره وباطنه، هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة والباطنة وعلى الرغم من أنّ الدكتور القفاري قد تجاهل ذلك قائلاً:
____________
1 ـ الكافي: ج 1، ص 228.
2 ـ المصدر السابق وأيضاً بصائر الدرّجات: ص 193.
3 ـ يقول العلامة المجلسي في سند الحديث الأوّل: انه مختلف فيه، والثاني ضعيف، مرآة العقول: ج 3، ص 30.
4 ـ تعليق على اصول الكافي: ج 1، ص 228.
الصفحة 429
"ثم هم يقولون في رواياتهم وأبوابهم "من ادعى إنّه جمع القرآن غير الأئمة فهو كذّاب" مع أنهم زعموا أن القرآن كان مدوّناً مجموعاً من عهد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ويستدلّون على هذا برواية جاءت في البحار فهل كان الحسن والحسين وبقية الأئمة هم الذين يتولّون جمعه في عهد النبىّ صلّى الله عليه؟"(1).
أقول: من فمك ندينك ايها الدكتور فإنّ نفس الرواية التي جاءت في بحار الأنوار ورواية سليم القائل: "جمع تنزيله وتأويله والناسخ والمنسوخ" وأيضاً الرّوايات الاخرى بعنوان قرائن خارجية وقرائن داخلية في نفس تلك الرّوايات تدل على ان المراد من "الجمع" ـ في الحديث ما ادّعى أحد إنّه جمع القرآن كلّه... ـ هو نفس المعنى الذي ذكرناه يعني جميع علومه ظواهرها وبواطنها عند الأئمة عليهم السلام فعلى أساس تلك الرواية والدراية في مفادها تسالم كبار علماء الشيعة من متقدمين ومتأخرين على وجود تفاوت بين مصحف أمير المؤمنين والمصحف الموجود، بعد أن اتّفقوا على ان هذا التفاوت ليس من سنخ الآيات والوحي القرآني، ومن هؤلاء العلماء اعتقدوا بأنّ هذا الاختلاف في الزيادة والنقصان من نوع الأحاديث القدسية كالشيخ الصدوق رحمة الله عليه إذ يقول:
"وقد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لبلغ مقدار سبع عشرة ألف آية... كما كان أمير المؤمنين عليه السلام جمعه، فلمّا جاء به قال: هذا كتاب ربّكم كما اُنزل على نبيّكم، لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف..."(2).
وبعضهم اعتقدوا بان هذا الاختلاف هو من ناحية التأويل والتفسير كالشيخ
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 262.
2 ـ الاعتقادات: ص 92.
الصفحة 430
المفيد حيث يقول:
"... ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز..."(1).
وكذلك المحدّث الكاشاني(2)، والشيخ جعفر الكبير(3)، والمحقّق الكاظمي(4)، والسيد الخوئي في "البيان" قال:
"... لا دلالة على أنّ هذه الزيادات كانت من القرآن وقد اسقطت بالتحريف، بل الصحيح أنّ تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحاً للمراد"(5).
ويرى بعض آخر من العلماء أنّ هذا التفاوت إنّما هو ترتيب وتأليف الآيات كالشيخ المفيد في موضع آخر إذ يقول:
"... قد جمع أمير المؤمنين عليه السّلام القرآن المنزل من أوله إلى آخره بحسب ما وجب من تأليفه فقدّم المكّي على المدنىّ والمنسوخ على الناسخ ووضع كلَّ شيء منه في موضعه ولذلك قال جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام: أما والله لو قرئ القرآن كما اُنزل لألفيتمونا فيه مسمَّين كما سمّي من كان قبلنا..."(6).
____________
1 ـ اوائل المقالات: ص 93.
2 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 43 وعلم اليقين: ص 130. والمحجّة البيضاء: ج 2، ص 264.
3 ـ كشف الغطاء;كتاب القرآن: ص 274.
4 ـ شرح الوافية في علم الاصول نقلاً عن فصل الخطاب: ص 31.
5 ـ البيان: ص 223.
6 ـ المسائل السروية: المسألة التاسعة، ص 133.
الصفحة 431
ومنهم ابن شهرآشوب في "المناقب"(1) والنهاوندي في "نفحات الرحمن"(2)وأبو عبد الله الزنجاني في "تاريخ القرآن"(3) والعلاّمة الطباطبائي في تفسيره "الميزان" مستدلاً بالآتي:
"... ولو كان مخالفته في بعض الحقائق الدينية لعارضهم بالاحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد اعراضهم عمّا جمعه واستغنائهم عنه"(4).
والشخص الوحيد من الإمامية الذي ادّعى أنّ التفاوت بين مصحف الإمام علي عليه السلام والمصحف الموجود بين أيدينا هو تفاوت في جوهر القرآن ـ بحسب علمي ـ هو المحدّث النوري تابعاً للمحدّث الجزائري في فصل الخطاب على عادته!! فهو في اثبات توهماته يقول:
"إنّها ـ زيادات ـ من أعيان المنزل اعجازاً أي نفس القرآن حقيقة لا من الأحاديث القدسية ولا من التفسير والتأويل"(5).
لقد كان بعض أدلّة المحدث النوري في هذا المقام من روايات أهل السنة، ولكن لو تأمّل أىُّ منصف أدلة المحدّث النوري وهي عبارة عن روايات عن العامة والخاصة لرأى أنها من حيث السند ساقطة، ومن حيث المتن فبعضها لا ربط له بمصحف الإمام علي عليه السلام وبعضها الآخر لا يدل تماماً على مراده، واليك تفصيله:
إنّ المحدث النوري توهم أنّ هذه الرّوايات تدل على ما ادّعاه وهي:
1 ـ ما رواه السياري عن هشام عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى:
____________
1 ـ مناقب آل أبي طالب: ج 2، ص 49.
2 - نفحات الرحمن: المخطوط، الورقة 12.
3 ـ تاريخ القرآن: ص 76.
4 ـ الميزان في تفسير القرآن: ج 12، ص 119.
5 ـ فصل الخطاب: ص 97.
الصفحة 432
"والملائكة حول العرش يسبّحون بحمد ربّهم ولا يفترون ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين" قلت ما هذا جُعلتُ فداك، قال: هذا القرآن كما اُنزل على محمّد بخطّ علىّ صلوات الله عليهما قلت، إنّا نقرأ (... ويستغفرون لمن في الأرض...)قال: ففي الأرض اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الاوثان أفَترى أن حملة العرش يستغفرون لهم...؟(1) ففي سند هذه الرواية السياري يعني أحمد بن محمّد السياري الذي اتفق علماء الرجال من الشيعة والسنة على فساد مذهبه وتضعيفه، واتفقوا أيضاً على سقوط كتابه "القراءات" بالاتفاق(2).
وأمّا من جهة المتن فلا دلالة فيه على مدّعى النّوري، لأنـّنا نجد في القرآن في هذا المقام آيتين إحداهما الآية الثامنة من سورة غافر وهي قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم)والاخرى هي الآية الخامسة من سورة الشورى وهي قوله تعالى: (... والملائكة يسبحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض إنّ الله هو الغفور الرحيم)، وآية سورة الشورى عامة وآية سورة غافر خاصّة، وحمل العام على الخاص هو مطابق للمحاورات العرفية، وقد ذكر سلفاً بأنـّه في مصحف الإمام علي عليه السلام شخصت الآيات العامة والآيات الخاصّة، وعلى فرض صدور هذه الرّوايات فإنّ الإمام الصادق عليه السلام استفاد من هذه الطريقة في "تفسير
____________
1 ـ فصل الخطاب: ص 124.
2 ـ معجم رجال الحديث: ج 2، ص 282، قال النجاشي فيه: "أحمد بن محمّد السياري ضعيف الحديث، فاسد المذهب" وأضاف الشيخ الطوسي أنه مجفو الرواية، كثير المراسيل و...". المصدر نفسه، ولسان الميزان: ج 1، ص 382، رقم 800.
الصفحة 433
الآية".
2 ـ الرّوايات التي وردت حول سورة "لم يكن" واستند إليها الدكتور القفاري أيضاً وسيأتيك الكلام عنها قريباً إن شاء الله.
3 ـ الرّوايات التي وردت في باب القراءة وجاءت في كتب الفريقين(1) مثل زيادة كلمة "وصلاة العصر" في قوله تعالى: (... والصلاة الوسطى)(2) وزيادة كلمة "ولا محدّث" في قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبىّ...)(3) وزيادة "إلى آخر الدهر" بعد قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر)(4) ومثل تعبير "آل محمّد" في آية (ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ـ وآل محمّد ـ على العالمين)وهي تعدّ من القراءات الواردة و...(5).
4 ـ الرواية التي تقول: "إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمّد صلّى الله عليه وآله سبعة عشر ألف آية". وقد فصلنا القول في هذه الرواية في المقام الأول في مبحث "دراسة روايات التحريف في كتب الشيعة
|