الصفحة 332
شيوع هذه المقالة في كتب الشيعة
إن جميع الكتب التي اعتمد عليها الدكتور القفاري في هذا الفصل هي كتب الحديث والتفسير بالمأثور لدى الشيعة، وقد سبق أن ذكرنا وأكدنا مراراً وتكراراً بما لا يقبل الشك بأنّ الكتاب الذي جمع الرّوايات من مصادر شتى شيء، وتمحيص تلك الرّوايات والحكم عليها بالصحّة والفساد شيء آخر، وهذا الأمر لا يخصّ مذهب الشيعة بل يشمل جميع المذاهب الاسلامية، فاننا لا نحكم على طائفة بحكم مّا لمجرّد وجود رواية في كتبهم الروائية، وإلاّ فما الفائدة من وجود علم الرّجال وعلم الدرّاية وفقه الرّوايات وغيرها؟ فهل هو إلاّ للتأكُّد من صحّة وفساد الراوي والرّواة وصحّة مدلول الرواية؟ فكيف يحقّ للدكتور القفاري وأضرابه الحكم على الشيعة بحكم ما وتكفيرهم؟ في حين أنّ الشيعة أنفسهم لا يصحّحونها بل يعتبرونها باطلة الدلالة، وهذا هو الإنصاف، فما يحكم به الدكتور القفاري علينا من خلال كتب حديثنا عليه أن يحكم به على سائر الفرق لوجود نفس تلك الرّوايات قال تعالى: (إنّ الله يأمركم بالعدل...) ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام هو أن الدكتور القفاري ـ تعمّداً أو جهلاً ـ كثيراً ما يخلط بين مدلول الرواية وفقهها، ولذا وقع في أخطاء عديدة أشرنا إلى بعضها وسنشير إلى بعضها الآخر.
كما ينبغي الاشارة إلى أن الدكتور القفاري كثيراً ما يبتعد عن فقه الرواية بل عن الرواية نفسها وينشغل بالألفاظ البذيئة البعيدة كل البعد عن روح البحث العلمي، وإذا ضاقت به السبل وتعذّر عليه الدليل تشبث بفكرة التقية التي في هذا المبحث لا معنى معقول ـ كما ستعرف بعد ذلك ـ ولأن مباحث هذا الفصل تكرّر بعضها، فنحن هنا نوجز مناقشة آراء الدكتور القفاري في هذه المسألة ضمن عدّة نقاط. قال الدكتور القفاري:
"إن البداية لهذه الفرية كانت بكتاب سليم وبدأت القضية بروايتين
الصفحة 333
فقط... ولم يكثر الوضع والكذب حولها... وجاء في القرن الثالث من تلقف هذه الاسطورة وزاد عليها... [وهو] علي بن إبراهيم القمِّي وحشا تفسيره بهذه الاسطورة وصرّح بها في مقدمة تفسيره; ولهذا قال شيخهم الكاشاني: "فإنّ تفسيره مملوء منه وله غلو فيه" وكذلك قال شيخهم الآخر النوري الطبرسي... ومع أنّ الكتاب قد مُلىء بهذه الزندقة فإن كبير علماء الشيعة اليوم "الخوئي" يوثّق روايات القمّي كلّها ـ كما سلف ـ "(1).
ثم أورد الدكتور القفاري عدة روايات من تفسير القمّي وقال:
"تلك على سبيل المثال وغيرها كثير".
قد مرّ عليك سابقاً قول الدكتور القفاري حول كتاب سليم في هذا المقام وأنـّه لا علاقة له بمسألة تحريف القرآن. وأمّا تفسير القمّي واُسطورة تحريف القرآن.
تفسير القمّي واسطورة تحريف القرآن:
إن هذا التفسير منسوب الى القمّي من غير ان يكون من صُنعه، وإنّما هو تلفيق من املاءاته على تلميذه "أبي الفضل العباس بن محمّد العلوي" من سورة الفاتحة والبقرة وشطر قليل من سورة آل عمران (الآية 45) وقسط وافر من تفسير أبي الجارود، ضمّه إليها أبو الفضل وأكمله بما رواه هو عن سائر مشايخه تتميماً للفائدة.
اذن فهذا التفسير بهذا الشكل، هو من صنع أبي الفضل العلوي وإنّما نسبه إلى شيخه القمّي لأنه الأصل من روايات هذا التفسير(2). والشاهد عليه تصريح مؤلف هذا التفسير في بعض الموارد بأنّ ما أورده في تفسيره ليس في رواية علىّ بن إبراهيم
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 226.
2 ـ انظر تفصيل الكلام كتاب "كليات في علم الرجال" للشيخ جعفر السبحاني: ص 309 ـ 320.
الصفحة 334
القمّي(1). فعلى هذا نقول:
أولاً: إن ما قاله الدكتور القفاري بأنّ "علىّ بن إبراهيم صرّح في مقدمة تفسيره بهذه الفرية" خطأ، فان مقدمة التفسير ليست من صنع علىّ بن إبراهيم لأنـّا نجد في آخر المقدمة هذا الكلام: "أقول: تفسير بسم الله الرحمن الرحيم. حدثني أبو الفضل العبّاس بن محمّد بن القاسم العلوي قال حدثنا أبو الحسن علىّ بن إبراهيم القمّي قال حدّثني أبي رحمه الله عن..."(2).
فمقدمة التفسير ليست لعلي بن إبراهيم رحمه الله كي نتهمه بالتحريف بل ان المقدمة من شخص قد جمع هذا التفسير وهو مجهول. أي الشخص الذي روى عن أبي الفضل العباس بقوله: "حدثني"، فهو غير معلوم شخصه وأوصافه كما أنّ أبا الفضل العباس أيضاً لا يوجد له أثر في الاصول الرّجالية أصلاً.
ثانياً: إذا أردنا أن نأخذ بما قاله سيّدنا الخوئي رحمه الله بتوثيق روايات تفسير القمي، لَزمَنا حينئذ توثيق ما روى القمّي بسنده في تفسيره لا ما روى جامع تفسير علي بن إبراهيم ـ وهو أبو الفضل العباس ـ عن مشايخه، فان شهادة القمّي تكون حجّة في ما يرويه نفسه لا ما يرويه تلميذه عن مشايخه. وما يرويه علي بن إبراهيم عن المعصومين باسناده قليل جداً أي لا يتجاوز "17" رواية.
فذاك خطأ آخر من الدكتور القفاري الذي ينسب وثاقة روايات القمي كلها إلى السيد الخوئي رحمه الله. ولو سلمنا بذلك، فان وثاقة الرواة عند السيد الخوئي لا تساوق قبول متن الرواية واعتبارها عنده مطلقاً(3). هذا وقد أخطأ الدكتور
____________
1 ـ كعبارته هذه: "... فيه زيادة أحرف لم تكن في رواية علىّ بن إبراهيم": ج 2، ص 360.
2 ـ التفسير [المنسوب إلى] القمي: ج 1، ص 5.
3 ـ وهذا معلوم من منهج السيد الخوئي فقد صرح رحمه الله باسقاط روايات التّحريف وقال في جملة ما قال: "ان حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال لا يقول به إلا من ضعف عقله..." البيان: ص 259 فهذا منه رحمه الله يعني عدم كفاية وثاقة الرواة في قبول مضمون الرّوايات وهذه قاعدة علمية لدى كل محقق، فَوثاقة الراوي لا توجب قبول متن روايته بدون الدرّاية والفحص عن معارضها والتطبيق مع الموازين القطعية وغيره... وهذا معلوم بأدنى تأمل.
الصفحة 335
القفاري أيضاً حيث يقول: "هذا التفسير يحظى بتقدير الشيعة كلّها"(1).
ثالثاً: ما أورده الدكتور القفاري على سبيل المثال(2) من تفسير [منسوب الى ]القمي لتأييد اتهاماته، ينقسم إلى أربعة اقسام:
القسم الأوّل: ما جاء في التفسير بدون إسناد، فبعضه من آراء كاتبه ـ وهو شخص غير معلوم كما سبق ـ كقوله: قال الله (فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فانزلنا على الذين ظلموا ـ آل محمّد حقّهم ـ رجزاً من السّماء بما كانوا يفسقون)(3).
وبعضه عن علي بن إبراهيم كما في قوله تعالى: (...وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس والشجرة الملعونة في القرآن) قال ـ أي علي بن إبراهيم ـ نزلت لمّا رأى النبىّ في نومه كأنّ قروداً تصعد منبره فساءه ذلك وغمّه غمّاً شديداً فأنزل الله: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس ـ ليعمهوا فيها ـ والشجرة الملعونة في القرآن" قال: كذا نزلت وهم ـ أي الشجرة الملعونة ـ بنو امية(4).
وقد قال الدكتور القفاري عن ابن تيمية ما لفظه:
"جاء تأويلها ـ أي تأويل الشجرة الملعونة ـ عند الاثني عشرية بانها بنو أمية في أكثر من اثنتي عشرة رواية... وهذا من التأويلات
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 269.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 226، وقد ذكر الدكتور القفاري في الحاشية أرقام تلك الرّوايات.
3 ـ تفسير [المنسوب إلى] علي بن إبراهيم: ج 1، ص 48; والآية 59 من سورة البقرة (2).
4 ـ نفس المصدر: والآية التي أوردها 60 من سورة الاسراء (17).
الصفحة 336
المنحرفة التي ورثتها طائفة الاثني عشرية"(1).
وإذا كانت تلك التأويلات وردت في بعض مصادر الشيعة بدون أسانيد(2) فإنّها في كتب أهل السنة وردت بأسانيدها(3).
ولابدّ أن يكون أهل السنة ـ بناءً على زعم الدكتور القفاري وابن تيمية ـ قد ورثوا تلك التأويلات المنحرفة أيضاً، بل قد ورثتها عائشة التي قالت لمروان: "سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأبيك وجدّك: إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن"(4).
القسم الثاني: ما جاءت في التفسير وهي مرسلة، كالرواية التي رويت عن العالم عليه السلام في ذيل الآية (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) وقال العالم عليه السلام: نزل: "وآل عمران وآل محمّد على العالمين" فاسقطوا آل محمّد من الكتاب(5).
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 155.
2 ـ تفسير العياشي: ج 2، ص 298.
3 ـ انظر: شواهد التنزيل: ج 2، ص 457 والدرّ المنثور: ج 5، ص 308 و309 و310 والجامع لاحكام القرآن (تفسير القرطبي): ج 10، ص 283 و286 وروح المعاني: ج 9، ص 155 وتاريخ مدينة دمشق: ج 57، ص 340 ـ 342 وتاريخ ابن الاثير: ج 3، ص 407.
والعجب من ابن جرير الطبري، فانه بدل كلمة "بني امية" في رواية سهل بن سعد ـ بقوله ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يرى بني اميّة ينزون على منبره (تفسير القرطبي: ج 10، ص 283 وروح المعاني: ج 9، ص 155)ـ بـ "بني فلان"!! (جامع البيان: ج 15، ص 77) واعجب منه توجيه الآلوسي الضعيف لتلك الرّوايات للدفاع عن بني امية، لكن العلامة الطباطبائي ردّ كل تلك الدفاعات الهزيلة بجواب متين واستدلالي. انظر: تفسير الميزان: ج 12، ص 63 ـ 64. ولمزيد من التفصيل حول تلك المسألة عليك بمراجعة الغدير للشيخ العلامة الاميني: ج 8، ص 49 وما بعدها.
4 ـ الدرّ المنثور: ج 5، ص 310 وروح المعاني: ج 9، ص 155 وبهذا المعنى كذلك في تفسير القرطبي: ج 10، ص 281.
5 ـ تفسير [منسوب إلى] علي بن إبراهيم: ج 1، ص 100 والآية 31 من سورة آل عمران (3).
الصفحة 337
وهذه الرواية مضطربة المتن، وقد جاءت بعدّة طرق في كتب أهل السنة وسيأتي تحقيقها ان شاء الله في بحث "الطبرسي وانكاره لهذه الفرية".
ومنها ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام مرسلة أيضاً في قوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) قال أبو عبد الله عليه السلام: "ما كانوا أذلة وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنّما نزل "لقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء"(1).
فعلى فرض صحّة الرواية، يحتمل انّه عليه السلام يفسّر أنتم أذلّة، بأنتم ضعفاء في هذا المكان للعلّة التي ذكرها عليه السلام.
القسم الثالث: الرّوايات التي لا تمتُّ إلى مسألة التّحريف بصلة على الإطلاق بل من باب المخالفة في التأليف.
فمنها: ما أورد في شأن نزول الآية: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه...) قال: "بأنها نزلت في حنظلة بن أبي عامر واستئذانه رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثم عقّب بقوله: فهذه الآية في سورة النور وأخبار اُحد في سورة آل عمران فهذا دليل على ان "التأليف" على خلاف ما انزله الله"(2). وقد قلنا فيما سبق ان التأليف غير التّحريف كما هو واضح.
ومنها ما أورده أيضاً في شأن نزول الآية: (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) وقال: "فهذه الآية في سورة النّحل وكان يجب ان تكون في هذه السورة التي فيها أخبار اُحُد (وهي سورة آل عمران)"(3).
القسم الرابع: روايات مسندة في ظاهرها:
____________
1 ـ تفسير [منسوب إلى] علي بن إبراهيم: ج 1، ص 122 والآية 123 من سورة آل عمران.
2 ـ المصدر السابق: ج 1، ص 118.
3 ـ المصدر السابق: ج 1، ص 123.
الصفحة 338
فمنها: ماروي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن سنان قال: "قرأت عند أبي عبد الله عليه السلام (كنتم خير أُمّة اخرجت للناس) فقال أبو عبد الله عليه السلام (خير أمّة) يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام؟ فقال القاري جعلت فداك كيف نزلت؟ قال: نزلت "كنتم خير أئمة اُخرجت للناس" ألا ترى مدح الله لهم (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(1).
ومنها: ما روي أيضاً بسند علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السلام; قال: "(ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ـ يا علي ـ فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) هكذا نزلت"(2).
ومنها: ما روي أيضاً بسند علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام; قال: "انما انزلت (لكن الله يشهد بما أنزل إليك ـ في علي ـ أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً)(3).
ومنها: ما روي أيضاً بسند علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السلام قال: "نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذه الآية هكذا: (وقال الظالمون ـ لآل محمّد حقّهم ـ إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً * انظر كيف ضربوا لك الأمثال...)(4).
صحيح أنّ تلك الرّوايات مسندة في الظاهر، ولكنها ـ كما ذكرنا سابقاً ـ تعتبر مقطوعة الاسناد; لأنَّ الراوي عن علي بن إبراهيم في هذا التفسير مجهول، وأمّا من جهة المتن فإنه يوجد بعض مضامينه في كتب أهل السنّة(5) أيضاً، ولكن عند التنبّه
____________
1 ـ تفسير [منسوب إلى] علي بن إبراهيم القمي: ج 1، ص 110 والآية 110 من سورة آل عمران (3).
2 ـ المصدر نفسه: ج 1، ص 142 والآية 64 من سورة النساء (4).
3 ـ المصدر السابق: ج 1، ص 159 والآية 166 من سورة النساء (4).
4 ـ المصدر الاسبق: ج 2، ص 111 والآيتان 8 ـ 9 من سورة الفرقان (25).
5 ـ انظر: شواهد التنزيل: ج 1، ص 152 و153.
الصفحة 339
إلى التعابير الواردة فيها كـ "نزلت هكذا" والقرائن الاُخرى، حمل على المعنى التفسيري والتأويلي أو بيان شأن نزول أو مصداق أتم و... ـ كما فصّلنا ذلك في المقام الأوّل ـ وإذا لم نستطع حمل تلك الرّوايات على المعاني المتقدمة فانّا نحكم بسقوطها أيضاً لمعارضتها الأدلة القطعية على صيانة القرآن عن التّحريف.
وعلى كلّ حال فإنّا أوردنا نصوص تلك الرّوايات التي أوردها الدكتور القفاري كنموذج للتحريف من تفسير علي بن إبراهيم، أوردناها بكاملها لتكون مقدّمة لفهم كلام المحدّث الكاشاني الذي يقول:
"فإنّ تفسيره ـ [منسوب إلى] علي بن إبراهيم ـ مملوء منه وله غلوٌّ فيه"(1).
والدكتور القفاري حين أورد هذا القول بوصفه شاهداً على كلامه(2); قد غفل تماماً عن أنّ مراد المحدث الكاشاني منه هو أن تفسير علي بن إبراهيم مليء بروايات التّحريف بمعناه الأعم (يعني الشامل لكلّ أنواع التغيير كالاختلاف في القراءة أو الاختلاف في التأليف وغيره) واشتمل هذا المعنى الأعم ـ على الأقل ـ على أربعة أقسام من الرّوايات التي أوردناها، ويؤيد ما نذهب إليه من كلام المحدّث الكاشاني رحمه الله نصّ كلامه حيث قال:
"... إن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان ولم يكن من أجزاء القرآن فيكون التبديل من حيث المعنى... فمعنى "كذا انزلت" ان المراد به التفسير والبيان لا انها نزلت مع هذه الزيادة في لفظها فحذف منها ذلك اللفظ، ومما يدل على هذا..."(3).
____________
1 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 47.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 226.
3 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 46 والوافي: ج 7، ص 1778.
الصفحة 340
وكذلك المحدّث النوري القائل:
"وقوع التغيير والنقصان في القرآن وهو مذهب الشيخ الجليل علي بن إبراهيم القمي وملأ كتابه من أخباره..."(1).
كان مراده أعمّ من كل نوع من انواع التغيير والنقصان والتغيير في التأليف والقراءة و...، ومعلوم أنّ التغيير والنقصان في تلك المعاني أعمّ من التّحريف بمعنى النقصان في نصوص آيات الوحي القرآني الذي هو محلّ البحث والنزاع.
وشاهد كلامنا ان ما أورده المحدث النوري من روايات تفسير القمي كلها تندرج ضمن المعاني المتقدمة اجمع ولا تختص بالتحريف بمعنى النقصان في نصوص آيات الوحي(2).
ثمّ قال الدكتور القفاري:
"ومن بعد القمّي جاء تلميذه الكليني (ت 328) الملقّب عند الشيعة بـ "ثقة الإسلام"... فقد روى الكليني في الكافي من أخبار هذه الاسطورة الشيء الكثير مع أنـّه التزم الصحّة فيما يرويه ولهذا قرر الكاتبون عنه من الشيعة: "انه كان يعتقد التّحريف والنقصان في القرآن، لانه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي ولم يتعرض لقدح فيها مع إنه ذكر في أول كتابه انه يثق بما رواه"... ولكن يلاحظ ان ابن بابويه القمي حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن مع وجودها في الكافي الذي يصفونه بهذا الوصف.
وقد رجعت إلى مرآة العقول للمجلسي فرأيته يحكم على بعض
____________
1 ـ فصل الخطاب: ص 25.
2 ـ وقد اعترف الدكتور القفاري نفسه بانّ الرّوايات التي أوردها المحدث النوري شاملة للقراءات الواردة، وتفسير الآيات أيضاً. انظر: اصول مذهب الشيعة: ص 214.
الصفحة 341
أحاديث الكافي بالضعف ولكنه حكم على روايات في التّحريف بالصحّة وكذلك الشافي في شرح اصول الكافي"(1).
فنقول: لو دققنا النظر في قول الدكتور القفاري لتبادرت إلى أذهاننا الأسئلة الآتية:
1 ـ هل الكليني يعتقد بالتحريف والنقصان في القرآن؟
2 ـ هل يوجد تهافت بين رأي ابن بابويه (الشيخ الصدوق) وروايات الكافي؟
3 ـ هل إنّ العلامة المجلسي وكذا صاحب كتاب "الشافي" حكما على روايات التّحريف بـ "الصحّة"؟
وإليك الجواب.
موقف الكليني من روايات التّحريف
هل إنّ الكليني رحمه الله قائل بالتحريف ـ بالمعنى المتنازع فيه ـ أو لا؟
إننا لو فتّشنا الكافي من أوّله إلى آخره لم نعثر على قول صريح للشيخ الكليني بتحريف القرآن، ومن قال ـ وهو المحدّث النوري ـ بإنّ الكليني يقول في كتابه بتحريف القرآن الكريم ينحصر دليله في طريقين لا ثالث لهما:
أ ـ إنّه روى روايات في معنى التّحريف في كتابه الكافي ولم يتعرض لقدح فيها، مع التزامه بأنه يثق بما رواه كما قاله المحدّث الكاشاني(2) وأوردها الدكتور القفاري هنا تأييداً لرأيه.
ب ـ استظهار هذا المعنى من عناوين أبواب الكافي فمنها: باب "انه لم يجمع القرآن كله إلاّ الأئمة عليهم السلام" كما استظهر المحدث النوري ذلك تبعاً لشارح
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 227 ـ 228.
2 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 47.
الصفحة 342
كتاب الوافية(1).
لكن نقول: هذه الاستفادة غير تامّة.
أولاً: انه مرّ عليك مكرراً بما لا مزيد عليه بأنّ ذكر الراوي لرواية في كتابه لا يعني أنه يقول بها، فكثير من الرواة يروون روايات معتبرة، ولكن لا من حيث الدلالة بل من حيث السند، واعتبار سند الرواية لا يعني اعتبار متنها مطلقاً، وخصوصاً إذا كان متن هذه الرّوايات متعارضاً مع روايات اُخرى اقوى منها سنداً ومتناً، وإلاّ لصار أصحاب الصحاح الستّة وكتب التفسير بالمأثور من أهل السنة والذين ختموا على كتبهم بخاتم الصحّة صاروا جميعهم متهمين بالقول بالتحريف وهذا تكرر كثيراً.
ثانياً: على فرض ان هذه المجموعة من روايات الكافي وردت في التّحريف بالمعنى المتنازع فيه فإنها معارضة بروايات اُخرى في كتاب الكافي نفسه وهي أكثر عدداً وأقوى متناً ووردت تحت عناوين أكثر وضوحاً حول القرآن من تلك(2).
وهناك قاعدة قطعية أخذها الكليني من الأئمة الطاهرين وجعلها في بداية كتابه وهي اننا حينما تتعارض الرّوايات ولا يوجد لها محمل صحيح يمكن حمل الرواية عليه أي ان التعارض من نوع التعارض المستقر، فهنا نعرض الروايتين على القرآن الكريم، فما وافق القرآن اُخذ به وما خالفه ضرب عرض الجدار وسقط عن الحجية، قال ثقة الإسلام الكليني:
"فاعلم يا أخي ـ أرشدك الله ـ إنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلف
____________
1 ـ فصل الخطاب: ص 25.
2 ـ مثل باب فضل حامل القرآن، باب من يتعلّم القرآن بمشقة، باب من حفظ القرآن ثم نسيه، باب ثواب قراءة القرآن، باب قراءة القرآن في المصحف، باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن و... انظر: الكافي: كتاب فضل القرآن، ج 2، ص 596 وما بعدها.
الصفحة 343
الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلاّ على ما أطلقه العالم عليه السلام [أي الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام ]بقوله: اعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه..."(1).
والكليني رحمه الله وان لم يكن دأبه من كتابه الردّ والقدح في الرّوايات، بل كان قصده ذكر الرّوايات المعتبرة فقط وهو ملتزم قطعاً وبشكل لا يقبل الشكّ بقاعدة عرض الرّوايات المتعارضة على القرآن وعلى هذا تكون روايات التّحريف ساقطة عنده عن الحجّية.
ونقصد بما ذكرنا أنّ كلام المحدّث الكاشاني الذي يقول في المرحوم الكليني: "إنّه كان يعتقد التّحريف والنقصان لأنّه روى روايات في هذا المعنى"... غير تام إن كان مراده من لفظة "التّحريف والنقصان" المعنى المتنازع فيه ـ يعني إسقاط آيات القرآن ـ وإلاّ فانّ الكاشاني في تتمة كلامه المتقدّم قال:
"إنّ بعض المحذوفات ـ التي سقطت من القرآن ـ كان من قبيل التفسير والبيان ولم يكن من أجزاء القرآن فيكون التبديل من حيث المعنى أي حرَّفوه وغيروه في تفسيره وتأويله أعني حملوه على خلاف ما هو به.
ومما يدل على هذا مارواه في الكافي باسناد صحيح عن أبي جعفر عليه السلام، أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير: "وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية..." الحديث.
____________
1 ـ الكافي: ج 1، ص 8.
الصفحة 344
وما رواه العامة من أنّ علّياً عليه السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. ومعلوم ان الحكم بالنسخ لا يكون إلاّ من قبيل التفسير والبيان ولا يكون جزءاً من القرآن..."(1).
وهذا يدلّنا على ان مراد المحدث الكاشاني من لفظة التّحريف والنقصان في عبارته المتقدمة غير المعنى المتنازع فيه.
ومن هذا المنطلق، فإنّ أحداً من كبار علماء الشيعة كالشيخ الصدوق رحمه الله والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي رحمة الله عليهم أجمعين وقد كان لديهم كتاب الكافي(2) ووقع نظرهم على عناوين أبوابه لكنهم لم يستنتجوا من هذه الرّوايات والأبواب تحريف القرآن في رأي الكليني، بل إنّك تراهم أوّلوا ما ورد في التّحريف بأنه إمّا "حديث قدسي" أو "تأويل الآيات" أو "القراءة الواردة" كما ذكرنا نصوص عباراتهم فيما تقدم.
ب ـ استظهار معنى التّحريف من عناوين أبواب الكافي:
لو أننا تمكنّا من استظهار عناوين أبواب الكافي لأمكن القول بأنّ المرحوم الكليني معدود في القائلين بالتحريف(3) ولكن قبل البحث في عناوين الكافي يتحتم علينا الجلوس مع القدامى من العلماء لنسألهم عن معنى التّحريف والتنزيل و... ما هو؟ فانهم سيقولون لنا: إنّ "التّحريف" يقصد به الأعم من التغيير في المعنى
____________
1 ـ تفسير الصافي: ج 1، ص 67.
2 ـ جميع هؤلاء العلماء الكبار رأوا كتاب "الكافي" كالصدوق رحمه الله حيث ذكره في "من لا يحضره الفقيه": ج 4، ص 51. وأيضاً ج 4، ص 165 ذيل الحديث: 578 من الباب 115. والسيد المرتضى علم الهدى حينما سئل عنه: "حول الحديث المروي في الكافي في قدرة الله تعالى" فاجابه (قدس سره) راجع: رسائل الشريف المرتضى: المجموعة الاولى، ص 409. والشيخ الطوسي رحمه الله راجع: الفهرست للشيخ الطوسي: ص 161.
3 ـ لان الظاهر من طريقته انه انما يعقد الباب لما يرتضيه وهو مذهب القدماء غالباً.
الصفحة 345
واللفظ، و"التنزيل" أيضاً بمعنى مطلق ما نزل من الوحي من آيات القرآن أو تفسيره وبيانه(1) ـ ومع تلك الحال فلو فتشنا الكافي من أوله إلى آخره، لما وجدنا باباً تحت عنوان "تحريف القرآن" أو شيئاً من هذا القبيل، والذين أرادوا الايقاع بالكليني رحمه الله واتهامه بفرية التّحريف لم يجدوا إلاّ عنواناً واحداً ليتشبثوا به في دعواهم وهو باب "لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمة عليهم السلام وإنّهم يعلمون علمه كلَّه"(2) ولكن هذا العنوان لا يدلُّ على التّحريف بالمعنى المتنازع فيه وشاهد ذلك وجود (6) روايات في ذيل ذلك العنوان.
ورد في هذه الرّوايات أنّ جميع القرآن ظاهره وباطنه عند الأئمة الطاهرين عليهم السلام، فالروايتان الأوليان مجملتان والأربعة الباقيات في مقام شرح وتفصيل الأوليين(3)، وقد يعطي نفس عنوان الباب، الاجمال والتفصيل(4)، وفي المجموع فإنّ هذه الأحاديث تثبت أنّ القرآن الكريم من جهة تنزيله وتأويله وعلوم ظاهره وباطنه عند الأئمة الطاهرين(5)، ولا غرو في ذلك فإنّهم أحد الثقلين اللّذين أوصى بهما النبىّ صلّى الله عليه وآله، وهما إمامان لا يختلفان وأخوان لا يتخاذلان ومجتمعان لا يفترقان.
____________
1 ـ قد بحثنا هذه النكتة في المقام الأول.
2 ـ وهو المحدث النوري في فصل الخطاب: ص 25 وعنوان الباب من الكافي، كتاب الحجة: ج 1، ص 228.
3 ـ انظر الرواية الثالثة حيث قال: "... ان من علم ما اُوتينا تفسير القرآن واحكامه" والرّوايات الرابعة والخامسة والسادسة حيث فسّر فيها "من عنده علم الكتاب" بالائمة عليهم السلام. الكافي: ج 1، ص 229.
4 ـ وهو قوله: "لم يجمع القرآن كله... وانهم يعلمون علمه كله".
5 ـ وهو ما افادهُ العلامة الطباطبائي في حاشية الكافي: ج 1، ص 228.
الصفحة 346
التهافت بين حكم الشيخ الصدوق وروايات الكافي:
هل يوجد تهافت بين رأي ابن بابويه (الشيخ الصدوق ت 386) وروايات كتاب "الكافي"؟
إنّ القفاري في كلّ موضع يحاول وبألفاظ رنّانة طنّانة أن يثبت وجود تعارض بين رأي الصدوق وأحاديث الكافي واستنتج من هذا التباين المزعوم نتائج غريبة سيأتي بعضها، قال الدكتور القفاري:
"فقد روى الكليني في الكافي: "إنّ القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، سبعة عشر ألف آية"... وهذا يقتضي سقوط ما يقارب ثلثي القرآن فما أعظم هذا الافتراء!
وقال ابن بابويه: "... إنّه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية وذلك مثل قول جبرائيل... عش ما شئت فإنّك ميت..." فانظر إلى هذا الاختلاف والتباين بين نصّ الكليني ونصّ ابن بابويه... ان ابن بابويه يقول: ان النقص في غير القرآن والكليني يصرح بأن النقص في القرآن"(1).
أنا في الواقع لا أدري لماذا يتجاهل الدكتور القفاري نفسه، وما هو غرضه في الحقيقة؟ فقد قطّع فيما مضى كلام الشيخ المفيد وحرّفه ليحصل له ما يريد، ثمّ بدأ يقارن ويوازن بين قولي الصدوق والكافي، وظلّ يعزف على هذا الوتر ولا أدري ماذا سيحصل له بعد ذلك، هل أنّ الدكتور القفاري حقاً لا يفرق بين الكتاب الحديثي الذي غرض مؤلفه وصاحبه جمع الأحاديث من المصادر المعتبرة (كالكافي) وهو يهتمّ بأن يودع في كتابه من الأحاديث ما هو معتبر السند، ويكون
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 246 ـ 247.
الصفحة 347
أميناً في نقله ومتثبتاً فيما يرويه ـ والكتاب الذي أُلـّف لبيان الاعتقادات و"دراية الحديث" (كرسالة الاعتقاد للشيخ الصدوق رحمه الله) الذي يهتم بتحصيل العقائد ويعطي رأيه في فقه الرّوايات مع الدرّاسة والتّأني وحل المتعارضات والأجوبة للمناقشات وغير ذلك فلا يجد الدكتور القفاري فرقاً بين هذين النوعين من الكتب؟
وإذا كان في كتب الشيعة تباين وتناقض بين كتب الحديث وكتب دراية الحديث، فهذا الاختلاف والتناقض أيضاً موجود في كتب أهل السنة.
فعلى سبيل المثال انظر إلى التباين والاختلاف بين ما روى مالك في الموطأ(1)ومسلم(2) في صحيحه وغيرهما من قول عائشة: "كانت فيما اُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن..." وهذا صريح بحصول النقص في القرآن لأنـّها قالت: كانت فيما اُنزل من القرآن، وقد اجتهد لحلّ تلك المعضلة بعض العلماء كالحافظ العاصمي (المولود سنة 378) وابن قتيبة وغيرهما، قال العاصمي:
"إنّه ـ أي عشر رضعات معلومات ـ من جنس ما كان ينزل عليه على جهة التبليغ والرسالة لا على جهة أنـّه قرآن يتلى أو يكتب ومن نحو هذا ما روي عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنـّه قال حكاية عن ربِّه عزّ وجلّ أنـّه قال: كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فانه لي وأنا أجزي به. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: أنا عند ظن عبدي بي فليظنّ بي ما شاء وما نحوها أخبار كثير"(3).
____________
1 - الموطأ: كتاب الرضاع: ص 608، الحديث: 17.
2 ـ صحيح مسلم: ج 4، ص 167.
3 ـ المباني لنظم المعاني المخطوط: الورقة 62، 63، 64، ومقدمتان في علوم القرآن: ص 85 ـ 86، عن المباني، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: ص 292 فقد أوردنا نص كلامه في المقام الأوّل وقد عزا ابن حزم أيضاً هذا القول في آية الرجم والرضاع إلى قوم: عن فتح المنان في نسخ القرآن: 226 ـ 227.
الصفحة 348
وهذا تصريح بأنّ النقص في غير القرآن وذاك ـ أي قول مالك في موطأه ومسلم في صحيحه ـ تصريح بأنّ النقص في القرآن!! ومثل هذا التباين والاختلاف كثير جداً(1).
وعلى كلّ حال يبدو أنّ الدكتور القفاري يرى التفاوت بينهما ولكنّه يتجاهل هذه المسألة، بل يلجأ إلى الكذب ويقول: "انّ ابن بابويه القمّي حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن مع وجودها في الكافي الذي هو عند شيوخ الرافضة في أعلى درجات الصحّة"(2).
والحال إنّ ابن بابويه لم يقل قط، أولا: إنّ تلك الرواية من الكافي وثانياً: إنّها موضوعة، بل لم يتعرض لصحّة سندها أو سقمه، فابن بابويه عالج متن الرواية فقط وقال: "إنّه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن..."(3).
موقف المجلسي من روايات التّحريف:
هل إنّ العلامة المجلسي رحمه الله وصاحب كتاب "الشافي" قد حكما بصحّة روايات تحريف كتاب "الكافي"؟ هذا بعض ما ادّعاه الدكتور القفاري قائلاً:
"وقد رجعت إلى مرآة العقول للمجلسي فرأيته يحكم على بعض أحاديث الكافي بالضعف ولكنّه حكم على روايات في التّحريف بالصحَّة وكذلك الشافي في شرح اُصول الكافي"(4).
هذا كتاب "مرآة العقول" للمجلسي رحمه الله، فعمدة ما في الباب على ما صرّح به الدكتور القفاري الرّوايات التي توجد في باب "فيه نكت ونتف من التنزيل في
____________
1 ـ انظر: المقام الأوّل، فصل: أجوبة أهل السنة لروايات التّحريف.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 227 ـ 228.
3 ـ الاعتقادات: ص 85.
4 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 228 و353.
الصفحة 349
الولاية" من كتاب الكافي ففيه اثنتان وتسعون رواية ـ مع غضّ النظر عن مكرراتها ـ حكم المجلسي بالصحّة والحسن في ثمانية منها(1) وهي لا علاقة لها بمسألة التّحريف أصلاً، بل هي صريحة في بيان تأويل الآيات وتفسيرها، ثمّ إنّها لا تتطابق مع الأرقام التي ذكرها الدكتور القفاري في الهامش ـ وهي 14 رواية ـ(2)وعدّها من أخبار اُسطورة التّحريف، والحال إنّ المجلسي حكم بتضعيفها ـ أي الروايات الأربع عشرة التي ذكرها الدكتور القفاري بأرقامها كلّها ـ إلاّ رواية واحدة فيها قال انها مجهولة(3).
وأورد الدكتور القفاري أيضاً ستّ روايات من الجزء الثاني من كتاب "الكافي" ونصّ على أرقامها في الهامش(4).
وهذه الروايات أيضاً لم يحكم المجلسي عليها بالصحّة ـ كسابقاتها ـ بل وثّق روايتين منها فقط وحكم على الباقي بالضعف والإرسال(5).
نعم ممّا وثقه العلاّمة المجلسي رحمه الله الخبر المتقدّم ذكره في عدد آي القرآن وقال تعليقاً عليه:
"وفي بعض النسخ عن هشام بن سالم موضع هارون بن مسلم فالخبر صحيح حينئذ"(6).
____________
1 ـ أرقام هذه الرّوايات: 17، 65، 67، 72، 74، 78، 80، 83 و89 انظر: مرآة العقول: ج 5، ص 2 ـ 160.
2 ـ وهي ما ذكرها في حاشية كتابه بالارقام: 8، 23، 25، 26، 27، 28، 31، 32، 45، 47، 58، 59، 60، 64، راجع: اصول مذهب الشيعة: ص 227.
3 ـ وهي الرواية رقم: 28، انظر مرآة العقول: ج 5، ص 160 ـ 161.
4 ـ باب ان القرآن يرفع كما انزل: ص 619، رقم 2 وباب النوادر: ص 627 وما بعدها رقم: 2، 3، 4، 23، 28، انظر: اصول مذهب الشيعة: ص 227.
5 ـ انظر: مرآة العقول: ج 12، ص 506 وص 516 وما بعدها، فكل ما في الباب ثمان وعشرون رواية، ثلاث موثقات وثلاث حسنات والباقيات بين ضعيفة ومرسلة ومجهولة.
6 ـ مرآة العقول: ج 12، ص 525.
الصفحة 350
فعلى كل حال، في تلك الأخبار التي نصّ عليها الدكتور القفاري بأرقامها وعدّها من اُسطورة التّحريف لا يوجد خبر صحيح عند المجلسي رحمه الله إلاّ هذا الخبر إن كان على رواية "هشام بن سالم" وإلاّ فموثّق إن كان راويه "هارون بن مسلم" وهذه عثرة أخرى من الدكتور القفاري.
وأمّا صاحب كتاب "الشافي" فقد حكم بصحّة ستّ روايات فقط(1) من اثنتين وتسعين رواية وكلُّ هذه الستّ لا تتطابق مع الأرقام التي ذكرها الدكتور القفاري وقال هنّ من أخبار اُسطورة التّحريف(2).
إذن لماذا يفتري الدكتور القفاري على العلامة المجلسي وكذلك عبد الحسين المظفّر قائلاً: إنـّهما حكما بصحّة روايات التّحريف، بل انه يذكر ارقاماً لروايات يدعي صحّتها، في حين لم يحكم أحدٌ منّا بصحتها، فهل هذه طريقة المحقق الذي يبغي الحقيقة ويلازم التقوى ليصل إلى مطلوبه أم حَنَّ قِدْحٌ ليس منها!
وبعد أن أتـمّ الدكتور القفاري بحثه حول كتاب الكافـي انتقل إلـى البحث حول "تفسير العياشي" و"تفسيـر فرات" و"كتاب الغيبـة" لمحمد بن إبراهيم النعماني و"الاستغاثة" لأبي القاسم الكوفي، وقـد اعترف بنفسه بأن "تفسير العياشي" عار عن السنـد، وأبرز أيضاً رأي كبـار علمـاء الشيعة في أبي القاسم الكوفي مؤلف كتاب "الاستغاثة" كالنّجاشي الذي قال: "إنه اُصيب آخر عمره بالغلو وفساد المذهب"(3) ولا يوجد أيضاً في كتاب "الغيبة" شيء يدلّ على
____________
1 ـ وهي الرّوايات بالرقم: 17 ـ 72 ـ 74 ـ 75 ـ 80 ـ 83 وقد حكم على اثنتين منها بالمجهول كالصحيح وهما، الروايتان: 6 و65، انظر "الشافي في شرح الكافي": ج 7، ص 227. وقال تعليقاً على خبر عدد آي القرآن بعد حكمه بأنه "موثق" وقال: لعلّ الاختلاف من قبل تحديد الآيات: ج 7، ص 227.
2 ـ انظر: اصول مذهب الشيعة: ص 228، هامش رقم 3 وهي نفس الاربع عشرة رواية التي ذكر ارقامها قبلاً.
3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 229. انظر: معجم رجال الحديث: ج 11، ص 246 ـ 247.
الصفحة 351
التّحريف(1) ما عدا صفحة واحدة(2) أشار إليها وهي قسم من رواية طويلة عن أبي الحسن علي بن موسى عليهما السلام والتي استدل فيها الإمام الرِّضا عليه السلام على مسألة الإمامة بعدّة آيات; وهي لا ربط لها بمسألة التّحريف، فماذا أراد الدكتور القفاري في بحثه حيث خلط الصحيح بالسقيم والحابل بالنابل وقال:
"ومن بعد هؤلاء نرى شيخهم المفيد (ت 413) سجل في كتابه "اوائل المقالات" اجماع طائفته على هذا المنكر ونقل بعض أخباره عن بعض كتبه كالارشاد وهو من كتبهم المعتمدة"(3).
أوردنا مسبقاً تلك العبارة عن الدكتور القفاري في بحث آراء الشيخ المفيد، ولاحظنا أنّ الدكتور القفاري قام بتقطيعها وهي خيانة واضحة لاتخفى على من له حظ من العلم، ومن ثمّ نسب الاتهام العظيم إلى الشيخ المفيد، وقد صرح الشيخ المفيد بأنّ القرآن الموجود بين أيدينا من جهة "ترتيب الآيات" من حيث التقديم والتأخير والناسخ والمنسوخ والمكّي والمدني، خلاف ما نزل، وفي رأي الشيخ المفيد أن الإمامية اتفقوا على ذلك، ولكنّ الدكتور القفاري زوراً وبهتاناً أبدل "تأليف الآيات" بـ "تحريف الآيات" ثم قال: "سجّل الشيخ المفيد اجماع طائفته على هذا المنكر" فقد مرّ ذلك منه كثيراً; إذ وعدنا بالأمانة فخان وعده بل حرّف.
وأمّا رواية كتاب الارشاد التي أشار إليها الدكتور القفاري أوردناها في المقام الأوّل تفصيلاً تحت عنوان "روايات الفساطيط" فإنّها كما لاحظتم لا تمت إلى التّحريف بصلة لا من قريب ولا من بعيد بل تؤيّد الرّواية نفسها، القرآنَ الموجود.
____________
1 ـ المصدر السابق: ص 230.
2 ـ وهي الصفحة 218 من كتاب الغيبة.
في الواقع ان الدكتور القفاري اخذ هذه المطالب من صاحب "مرآة الأنوار" وأورد نفس الفاظه حول هذه الكتب ولا يخفى ان صاحب مرآة الأنوار أخباري المسلك وهو يذهب إلى تحريف القرآن.
3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 230.
الصفحة 352
وعلى كلّ حال فان الدكتور القفاري تابع البحث لكي يصل إلى مقصوده الواقعي وهو استخدام أبشع الألفاظ وأهجنها وأقذرها واتهام الإمامية بأبشع الاتهامات قائلاً:
"وهذا الزخم! من المصنفات وغيرها لتأييد هذا الكفر واثباته لا يشك مسلم انه كيد زنديق حاقد على كتاب الله ودينه واتباعه... فادعوا ـ أي علماء الإمامية ـ أنّ في كتاب الله نقصاً وتغييراً... ولكنَّهم فيما يبدو لم يحسبوا لهذه الدعوى حسابها فارتدت عليهم بأسوأ العواقب فقد فضحتهم أمام الملأ وكشفت عن وجوههم وأبانت عن عداوتهم ونفاقهم وقطعت صلتهم بالإسلام والقرآن وأهل البيت"(1).
وبعد هذا تطرّق إلى كتاب "الاحتجاج" للطبرسي واعترف أيضاً بأنّ رواياته مجردة عن كلّ إسناد، وهذا الاعتراف يعنى عدم اعتبار الكتاب في مقام الاحتجاج بلا شك ولا سيما في المسألة الخطيرة التي تمس قداسة القرآن الكريم.
وإن ذكر صاحب الاحتجاج أنّ الرّوايات التي أوردها في كتابه مما اشتهر بين الإمامية، وقوله هذا على الرأس والعين، ولكنّه لا يمكن الركون إليه في مجال التحقيق اعتماداً على هذا القول كما لا يخفى.
ثم قال الدكتور القفاري:
"في ظلّ الحكم الصفوي الذي شهد إثارة لهذه الاُسطورة واختراع روايات لها وترويجها أشد مما كان في القرن الثالث... حتى يلاحظ ان هذه الاُسطورة التي بدأت بروايتين في كتاب سليم بن قيس أصبحت كما يعترف شيخهم نعمة الله الجزائري أكثر من ألفي رواية، حيث إن شيوخ الدولة الصفوية كالمجلسي في بحاره والكاشاني في تفسير
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 231.
الصفحة 353
الصافي والبحراني في البرهان ونعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية وما سواها من كتبه وأبي الحسن الشريف في مرآة الأنوار والمازندراني في شارح الكافي وغيرهم تولوا نشر هذه الفرية على نطاق واسع في ظل الحكم الصفوي الذي ارتفعت فيه التقية إلى حدّ ما"(1).
الحكم الصفوي وفرية التّحريف:
إنّ حكومة الصفويين بدأت سنة 906 واستمرت إلى سنة 1134، وقد كان هناك في هذه الفترة مجموعة كبيرة من العلماء الذين عاصروا الحكومة الصفوية ولكنّهم ذهبوا جمعياً إلى صيانة القرآن عن التّحريف وهم:
1 ـ قاضي القضاة علي بن عبد العالي المعروف بالمحقق الكركي (ت 940) في "رسالة نفي النقيصة"(2).
2 ـ ملا فتح الله الكاشاني (ت 988) في تفسيره "منهج الصادقين" وخلاصة تفسيره المسمى بـ "خلاصة المنهج"(3).
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 233. ونلاحظ ان الدكتور القفاري نفسه متردد أيضاً ولا يعلم ماذا يقول إلاّ انه أضاف كذبة على كذبه قائلاً (في الصفحة 291):
"... والزيادات التي تصرح بالتحريف هو من جعل شيوخ الدولة الصفوية، لكن يرد على ذلك ان تلك الرّوايات موجودة في كتب معاصرة للطوسي أو أقدم كتفسير القمي والعياشي وفرات، إلاّ إذا قلنا ان الشيعة يغيرون في كتب قدمائهم كما فعلوا في كتاب "سليم بن قيس".
وقد بحثنا ادعاء الدكتور القفاري هذا ـ يغيرون في كتب قدمائهم ـ في مبحث "بداية الإفتراء كما يؤخذ من كتب الشيعة" فراجع، وسيأتي تفصيلها في "التذييل".
2 ـ عن آلاء الرحمن: ص 26 وصيانة القرآن عن التّحريف: ص 72.
3 ـ منهج الصادقين: ج 5، ص 154 وخلاصة المنهج: ج 4، ص 59.
الصفحة 354
3 ـ المحقّق المولى أحمد الاردبيلي (ت 993) في "مجمع الفوائد والبرهان"(1).
4 ـ محمّد بن علىّ النقي الشيباني (ت قبل 994 هـ.)(2).
5 ـ الشيخ أبو الفيض الناكوري (ت 1004) في "سواطع الالهام"(3).
6 ـ السيد نور الله التستري (ت 1019) في "مصائب النواصب"(4).
7 ـ شيخ الإسلام عصر الصفوية محمّد بن الحسين الشهير ببهاء الدين العاملي (ت 1030) في "العروة الوثقى"(5).
8 ـ محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي المعروف بملاّ صدرا (ت 1050 هـ.) في شرحه على "اصول الكافي" و"تفسير القرآن"(6).
9 ـ الملا عبد الله البشروي الخراساني (المعروف بالفاضل التوني ت 1071) في "الوافية في الاصول"(7).
10 ـ الشريف اللاّهيجي (ت 1097) في تفسيره المشتهر بـ "تفسير شريف اللاهيجي"(8).
11 ـ الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104) في "رسالة تواتر القرآن وعدم نقصه وتحريفه"(9).
12 ـ القاضي سعيد محمد بن محمد مفيد القمي (ت / 1107 هـ.) في كتابه
____________
1 ـ مجمع الفوائد والبرهان: ج 2، ص 218.
2 ـ مختصر نهج البيان عن كشف معاني القرآن: ص 263.
3 ـ سواطع الالهام: ج 3، ص 214.
4 ـ نقلاً عن الشيخ رحمة الله الدهلوي في كتابه اظهار الحق: ج 2، ص 89.
5 ـ عن آلاء الرحمن: ص 26 والعروة الوثقى في تفسير سورة الحمد: ص 57.
6 ـ تفسير القرآن الكريم: ج 5، ص 19.
7 ـ الوافية في الاصول: ص 148.
8 ـ تفسير شريف اللاهيجي: ج 2، ص 658.
9 ـ انظر: فهرس النسخ المخطوطة لمكتبة جامعة طهران: ج 16، ص 153.
الصفحة 355
"الأربعينيات لكشف أنوار القدسيّات"(1).
13 ـ نور الدين محمّد بن مرتضى الكاشاني (ت 1115) في "تفسير المعين"(2).
فإذا ارتفعت التقية في العصر الصفوي ـ على حد مزعومات الدكتور القفاري ـ فكيف يحكم هؤلاء بصيانة القرآن عن التّحريف وهم يستطيعون أن يكشفوا الستر ويعلنوا عما في ضمائرهم من القول بتحريف القرآن في ظلّ الحكم الصفوي.
وعلى هذا فإن في ذلك دلالة على أن الدكتور القفاري تجاهل في معنى التقية ويريد أن يشغل القارئ بمسرحيته ولو بهذه الكلمات وبذلك ينهدم بنيانه الذي أسسه.
نعم في ظلّ الحكومة الصفوية فسح مجال كبير لعلماء الشيعة في ان يجمعوا روايات الشيعة من الكتب المتفرقة، وراج في ذلك العصر تدوين الحديث وعلومه والتفسير بالمأثور وغيرها من العلوم. ولكننا ذكرنا مراراً بأن الروايات وتدوينها شيء، وفقه الرّوايات وبيان مدلولها شيء آخر.
وعلى أية حال فالدكتور القفاري عاد مرّة أخرى وأخرى إلى التمسّك بروايتي سليم بن قيس، واللّتين اثبتنا بالدليل القاطع بعدهما الشاسع عن مسألة التّحريف.
ولو بنينا على ما قال الدكتور القفاري أي أنـّنا ننظر إلى حجم الرّوايات فقط بغض النظر عن مداليلها وعلاجها، لحكمنا على روايات أهل السنة، وقلنا: "ان هذه الاسطورة ـ أي اسطورة التّحريف ـ بدأت برواية في كتاب "الموطأ" لمالك بن أنس(3) (ت 179 هـ) ثم أصبحت كما يعترف به "قاسم بن سلاّم" (م 224 هـ) "بأنـّها
____________
1 ـ الأربعينيّات لكشف أنوار القدسيّات: ص 58.
2 ـ تفسير المعين: ج 2، ص 650.
فقد تقدم نص كلام هؤلاء الاعلام في مبحث "شهادة علماء الإمامية بنزاهة القرآن عن التّحريف" في المقام الأوّل فراجع.
3 ـ الموطأ، كتاب الرضاع: ص 608، الحديث 17، وهي مارواه في مزعومة الرضاع.
الصفحة 356
كثيرة"(1) واشتدّ اختراع الرّوايات وترويجها حتى قال الآلوسي (م 1270) "بأنها أكثر من أن تحصى"(2).
فهل هذا الحكم صحيح وعادل؟
أمّا قول الدكتور القفاري: "يعترف شيخهم نعمة الله الجزائري أكثر من ألفي رواية" فإن مراد السيد نعمة الله الجزائري هو جميع الرّوايات التي تحدّثت عن التّحريف بمعناه العام الشامل لكل نوع من انواع التغيير أمثال اختلاف القراءات المخالفة في التأليف، والتّحريف المعنوي و... وأيضاً الشامل للأعمّ من الرّوايات المسندة والمرسلة والضعيفة والمجهولة، والأعم من روايات أهل السنة والشيعة، والحقيقة إنّ تلك الرّوايات التي ادّعاها السيد الجزائري هي الرّوايات التي ذكرها المحدّث النُّوري في فصل الخطاب، وقد فصّلنا فيها القول في المقام الأوّل في بحث "كتاب فصل الخطاب ونقاط مهمّة" فراجع إن شئت.
وأمّا فيما يخصّ قول الدكتور القفاري في بحار الأنوار فنقول:
إذا لاحظنا أنّ مصادر "بحار الأنوار" الذي اُلّف في العصر الصفوي ـ وهو أكبر موسوعة حديثية عند الشيعة ـ تصل إلى أربعمائة كتاب من كتب الشيعة وخمسة وثمانين كتاباً من كتب أهل السنة(3). ومصنّف هذا الكتاب لمّا رأى أنّ كثيراً من كتب الحديث ـ لصغر حجمها وقدمها ـ سيكون مآلها إلى التلف، أخذ في جمعها وتدوينها في كتابه "بحار الأنوار" وإن كان لا يلتزم بصحّة كل ما في هذه الكتب(4). إذا لاحظنا
____________
1 ـ فضائل القرآن: ص 195.
2 ـ روح المعاني: ج 1، ص 45.
3 ـ وهذا هو المقدار الذي صرح به العلامة المجلسي رحمه الله في المقدمة وغير هذا كثير، قد أشار المجلسي إلى ذلك بقوله: "وان اخرجنا من غير هذه الاصول والكتب ـ المذكورة في المقدمة ـ فنصرّح في الكتاب عند ايراد الخبر" انظر: بحار الأنوار: ج 1، ص 24.
4 ـ كشف الأسرار: ص 319.
الصفحة 357
ذلك يسهل لنا الخطب بأن تكون في كل باب من أبواب البحار عشرات الروايات المزيدة على روايات أبواب "الكافي" مثلاً، وهذا مثل كتاب "كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال" لعلاء الدين علي المتقي الهندي (ت 975) فان الرّوايات في كلّ باب منه أكثر من الرّوايات التي في المصادر أخذ عنها كلا على انفراد ولا غرو.
وعلى هذا المنوال جرت كتب التفسير بالمأثور التي يهتمّ مؤلفوها بأن تجمع فيها الأخبار من مصادر شتّى، فمن الطبيعي أن يوردوا في تفسير كلّ آية روايات كثيرة ربّما بلغ بعضها إلى عشرات الرّوايات ـ من غير تحري الصحّة ـ كتفسير "البرهان في تفسير القرآن" للسيد هاشم البحراني رحمه الله (ت 1107) و"الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور" لجلال الدين السيوطي (ت 911).
فعلى هذا، لا مجال لتوجيه الدكتور القفاري الاتهام في المقام بقوله: "تولّوا نشر هذه الفرية على نطاق واسع في ظلّ الحكم الصفوي... إلى آخر اتهاماته" فوجود الحكم الصفوي وعدمه سيّان في المقام، طبعاً جمع الأخبار من مصادر شتّى مع تأليفه وتنسيقه من جديد في كتاب واحد، يقتضي كمّية هائلة وحجماً واسعاً. ولا علاقة له بالدولة الحاكمة فسواء حكم الصفويون أم غيرهم ممن هو مضادّ للشيعة فالمسألة تبقى ثابتة وهي أنّ استخراج جميع الأخبار من مجموعة كتب تزيد على خمسمائة كتاب وجمعها في كتاب واحد يحتاج إلى عشرات المجلدات.
والطريف في الأمر أن الدكتور القفاري أورد مثالاً عدّه قطرة من بحر من كتاب "بحار الأنوار" لإثبات مطلوبه في فرية التّحريف فأشار إلى: "باب تأليف القرآن وإنه على غير ما أنزل الله عزّ وجلّ"(1). وهذا الباب في الواقع لا علاقة له بتحريف القرآن، بل العلاّمة المجلسي ـ وكما هو واضح من عنوان بحثه الذي هو تأليف القرآن
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 233 قال: انظر: بحار الأنوار، كتاب القرآن، باب تأليف القرآن وانه على غير ما انزل الله، ج 92، ص 66 وما بعدها.
الصفحة 358
لا تحريفه ـ في صدد إثبات انّ ترتيب الآيات القرآنية الشريفة هو اجتهادي لا توقيفي، وضرب لذلك عدّة امثلة: من جملتها الآية 234 من سورة البقرة (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير اخراج)فالعلاّمة المجلسي يقول بانّ الآية 240 منسوخة(1)، والآية 234 ناسخة، والمنسوخ لابد أن يأتي قبل الناسخ، وهذا يدلّ على أنّ تأليف الآيات ـ لا تحريف الآيات ـ هو على غير ما أنزل الله، ثمّ ذكر أمثلة اُخر في هذا المقام، وبيان مذهب الشيخ المفيد(2)، وبالتالي ذكر قصّة جمع القرآن بواسطة زيد بن ثابت من مصادر أهل السنة(3).
وليت شعري كيف فهم الدكتور القفاري مسألة التّحريف من هذا الباب؟
واما رأي الدكتور القفاري في تفسير الصافي لمؤلفه المحدّث الكاشاني فأقول:
فإنّ المرحوم المحدّث الكاشاني (ت 1091 هـ.) مؤلف "تفسير الصافي" ذكر بشكل صريح لا يقبل الجدل بأنّ القرآن مصون من التّحريف والتغيير(4)، ولكنَّ
____________
1 ـ قال المجلسي رحمه الله: "لانّ العدة في الجاهلية كانت سنة فانزل الله في ذلك قرآناً في العلة التي ذكرناها في باب الناسخ والمنسوخ واقرّهم عليها ثم نسخ بعد ذلك فانزل آية اربعة اشهر وعشراً..." بحار الأنوار: ج 92، ص 67.
2 ـ في كتابه "المسائل السروية" وقد تقدم نص كلامه بطوله.
3 ـ كصحيحي البخاري ومسلم وغيرهما.
4 ـ انظر: "علم اليقين في اصول الدين": ج 1، ص 565، تفسير الصافي: ج 3، ص 102. قال في تفسير الآية الكريمة ما نصّه: (انا نحن نزّلنا الذكر)رد لانكارهم واستهزائهم ولذلك أكده من وجوه (وانا له لحافظون) من التّحريف والتغيير والزيادة والنقصان، الآية 9 من سورة الحجر. ومثله قال في تفسيره الآخر المسمّى بـ "الأصفى في تفسير القرآن": ج 1، ص 626. وأصرح من ذلك في كتابه "الوافي" حيث قال: "لو كان تطرّق التّحريف والتغيير في الفاظ القرآن لم يبق لنا اعتماد على شيء منه اذ على هذا يحتمل كل آية منه ان تكون محرفة ومغيرة وتكون على خلاف ما انزله الله فلا يكون القرآن حجة لنا وتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه والوصية به وعرض الأخبار المتعارضة عليه. ثم أورد كلام الشيخ الصدوق بتمامه". الوافي: ج 2، ص 273 ط. القديم وج 7، ص 1778 من الطبعة الحديثة وكتابه "المحجة البيضاء": ج 2، ص 263 ـ 264.
الصفحة 359
الدكتور القفاري زعم ـ كما ذكره في الهامش ـ أنَّ الصافي ذكر التّحريف في مقدمة تفسيره وبعض من رواياته المنقولة فيه(1).
إن هذه الرّوايات عددها أربع لا أكثر، وقد نقلها من الكتب الروائية الشيعية مثل "الكافي" و"تفسير العياشي" و"التفسير المنسوب إلى القمّي". ولكنّ هذه الرّوايات أيضاً باعتقاد المحدّث الكاشاني نفسه رحمة الله عليه في مقدمة تفسيره أنـّها من باب التفسير والتأويل، وفي غير هذه الصورة فهي ساقطة.
إنّ المرحوم الفيض الكاشاني في ابتداء تفسيره كغيره من المفسّرين، رتّب مقدّمات، ومن جملتها "المقدمة السادسة" ذكر فيها مسألة "جمع القرآن وتحريفه وزيادته ونقصه وتأويله". ثمّ عرض الرّوايات الخاصة بالتحريف في هذا المقام وأدلّة الموافقين والمخالفين لها، وناقش(2) كلا الرأيين، والذي يعتبر حقّاً لكلّ باحث وطالب للحقيقة، وليس معنى مناقشته الدليل على قبوله أو عدم قبوله للطرف الآخر، وقد افترض جدلاً في البداية وجود التّحريف في القرآن لوجود أدلّة روائية، ولكنه ما لبث أن ردّ هذا الفرض قائلاً:
"ويرد على هذا كلّه إشكال; وهو أنه على هذا التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن اذ على هذا يحتمل كل آية منه ان يكون محرفاً ومغيراً ويكون خلاف ما أنزل الله فلم يبق لنا في القرآن حجّة أصلاً فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه والوصية بالتمسك به إلى غير ذلك.
هذا وقد قال الله عزّ وجلّ: (وإنـّه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). وقال: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)فكيف يتطرق إليه التّحريف والتغيير.
____________
1 ـ تفسير الصافي: ص 136 ـ 163 ـ 399 ـ 420.
2 ـ تفسير الصافي، المقدمة السادسة: ص 46.
الصفحة 360
اضافة إلى أنـّه قد استفاض عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام حديث عرض الخبر المروي على كتاب الله ليعلم صحته بموافقته له وفساده بمخالفته، فإذا كان القرآن الذي بأيدينا محرّفاً فما فائدة العرض؟ مع أنّ خبر التّحريف مخالف لكتاب الله مكذب له فيجب رده والحكم بفساده أو تأويله.
ثم بقي رحمه الله متردداً في صحّة أسانيد الأخبار التي تدلُّ بظاهرها على التّحريف والتغيير فقال:
ويخطر بالبال في دفع هذا الاشكال والعلم عند الله أن يقال: إنْ صحّت هذه الأخبار ـ أي أخبار التّحريف ـ فلعلّ التغيير إنما وقع فيما لا يخل بالمقصود كثير إخلال...
ولا يبعد أيضاً أن يقال: إنّ بعض هذه المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان ولم يكن من أجزاء القرآن، فيكون التبديل من حيث المعنى أي حرَّفوه وغيروه في تفسيره وتأويله أعني حملوه على خلاف ما هو به.
وممّا يدلّ على هذا ما رواه الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام; إنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير: "... وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه..." وما رواه العامة أنّ عليّاً عليه السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، ومعلوم أنّ الحكم بالنسخ لا يكون إلاّ من قبيل التفسير والبيان ولا يكون جزءاً من القرآن فيحتمل ان يكون بعض المحذوفات أيضاً كذلك"(1).
____________
1 ـ تفسير الصافي، المقدمة السادسة: ص 46 ـ 47.
الصفحة 361
أوردنا كلام المحدّث الكاشاني رحمه الله تعالى على رغم طوله لكي يعرف صدوف الدكتور القفاري وغيره عن احكام الشرع وسنن الاخلاق لأنهم ذكروا شطراً من كلام المحدث الكاشاني وحذفوا بقية كلامه لكي يتهموه بالتحريف والتغيير.
ثمّ قال الدكتور القفاري:
"وفي القرن الثالث عشر وقعت الفضيحة الكبرى للشيعة في هذا الباب فقد ألـّف شيخهم حسين النوري الطبرسي... مؤلفاً في هذا الكفر جمع فيه كل ما لهم من "اساطير" في هذا الباب وسماه "فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الارباب" فاصبح هذا الكتاب عاراً على الشيعة أبد الدهر... وقد كشف بهذا الكتاب ما كان خفيّاً وأبان ما كان مستوراً. لقد وضع "المجهر" الذي كشف ما في زوايا كتب القوم وخباياهم من كيد حاقد وعداوة مبيتة للقرآن وأهله.
وبعد هذه الفضيحة والخزي قام فئة من شيوخ الشيعة المعاصرين يتبرأون من هذه المقالة وينكرونها كالبلاغي في آلاء الرحمن، ومحسن الأمين في الشيعة بين الحقائق والاوهام، وعبد الحسين شرف الدين في أجوبة مسائل جار الله، والخوئي في تفسيره البيان، ومحمّد حسين آل كاشف الغطاء في أصل الشيعة واُصولها، ومحمّد جواد مغنية في الشيعة في الميزان، وفي عدد من كتبه وغيرهم وسنتوقف في مناقشة أقوالهم في فصل "الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم"(1).
نحن لا ننكر، أنّ بعض محدّثي الشيعة قد جرى له ما جرى لبعض أهل السنة
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 234 ـ 235. وسنرى إن شاء الله مناقشات الدكتور القفاري في هذا المجال وأجوبتها في مبحث "الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين".
الصفحة 362
أيضاً، حيث ان بعض علماء أهل السنة قد خدع برواياتهم التي شحنت بها صحاحهم وزخرت بها مجاميعهم الحديثية المعتمدة عندهم، ككتاب "الفرقان"(1)الذي أثار في وقته ضجّة عارمة في القطر المصري وقام الأزهر في وجهه موبّخاً ومؤنّباً وأبان وجه البطلان والفساد فيه ومن ثمّ طلب إلى الحكومة مصادرته، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب وصادرته لكن بقيت منه نسخ كثيرة منتشرة في أرجاء العالم الاسلامي وغيره.
هذا، ومحاولة الدكتور القفاري ـ وغيره ـ نسبة ما في كتاب فصل الخطاب إلى الشيعة بأجمعهم، محاولة يائسة وبعيدة عن الانصاف، وقد اعترف هو نفسه بأنّ جلّة علماء الشيعة قد أنكروا على هذا المحدّث فعله وقبّحوا صنيعه وردّوه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة.
بل في الوقت نفسه كتب الردّ عليه بعض معاصريه، كالفقيه المحقق الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرب الطهراني(2) (ت 1313) والسيد محمّد حسين الشهرستاني(3) (ت 1315) وغيرهما وما تزال الردود تترى عليه إلى الآن. وقد رأيتم فهرس الكتب التي ألّفها علماء الشيعة للردّ على مزعومات المحدث النوري في النقطة الرابعة في بحث "كتاب فصل الخطاب ونقاط مهمّة".
وعلى هذا فقول الدكتور القفاري:
"لقد وضع "المجهر" الذي كشف ما في زوايا كتب القوم وخباياهم من كيد حاقد وعداوة مبيتة للقرآن واهله"
____________
1 - وهو، لـِ "محمّد محمود عبد اللطيف بن الخطيب" احد المصريين الّف كتابه المفضوح سنة 1948 م; وقال في مقدمته "كلمة حق، ان اغضبت مخلوقاً قد ارضت خالقاً وان ساءت جاهلاً، فقد سرت عالماً وان اضرت بعض المقرئين فقد نفعت سائر المسلمين".
2 ـ وهو "كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب" فرغ منه في (17 ج2 ـ 1302 هـ. ق.).
3 ـ وهي رسالة أسماها "حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف".
الصفحة 363
بعيد عن الورع والدين.
وليت شعري ما هذا الكيد الحاقد والعداوة المبيتة من الشيعة للقرآن؟
فكم من كتب كتبت وهي لا تعبر في الحقيقة إلاّ عن رأي كاتبها ومؤلفها ويكون فيها الغث والسمين والحق والباطل وتحمل في طيّاتها الخطأ والصواب، ونحن نجد ذلك عند كلّ الفرق الاسلامية وليس هو أمر يختصّ بالشيعة دون سواهم، أفيجوز لنا أن نحمّل أهل السنة والجماعة مسؤولية كلّ مكتوب في عالم أهل السنة؟ أفيجوز لنا أن نقول قول الدكتور القفاري بالنسبة إلى كتاب "الفرقان": "لقد وضع المجهر الذي كشف ما في زوايا كتب القوم...الخ"؟
بل كيف يشنع أهل الشقاق على الشيعة من أجل كتاب النوري الذي ـ على الأقل ـ نصف رواياته المبثوثة في فصوله هي مصادر أهل السنة، فهل يسوغ لنا أن نقول كما قال الدكتور القفاري لقد وضع المحدّث النوري "المجهر" الذي كشف ما في زوايا كتب أهل السنة وخباياهم من... الخ. ونحن بحمد الله في المقام الأول بحثنا تحت عنوان "فصل الخطاب والنقاط الهامة" ما هو الحق في المقام الذي لا يستغني عنه كلّ محقق منصف فراجع إن شئت.
|