الصفحة 260
اتهام مفضوح
الدكتور القفاري وهو ينكر روايات أهل السنة قد اتّهم الشيخ الطوسي بالكذب حيث قال الشيخ الطوسي:
"رويت روايات كثيرة من جهة العامة والخاصة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع لكن طريقها الآحاد لا توجب علماً، فالأوْلى الاعراض عنها... لأنّه يمكن تأويلها"(1).
فقال الدكتور القفاري:
"إنّ ما زعمه الشيخ الطوسي أنّ العامة قد شاركوا طائفته في رواية هذا الكفر، كذب..."(2).
وتعليقاً على كلام الطبرسي الذي قال:
"روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً..."(3).
قال الدكتور القفاري:
"يحاول الطبرسي ـ كعادة هؤلاء ـ أن يشرك بعض أهل السنة الذين عبر عنهم "بحشوية العامة" في هذا الكفر كنوع من الدفاع عن المذهب وحفظ ماء الوجه ولون من النقد المبطن لاهل السنة"(4).
ولكنّ انكار الدكتور القفاري واتهامه للطوسي والطبرسي لا وجه له فإنّ روايات أهل السنة التي أوردنا شطراً منها تصدّق قولهما.
____________
1 ـ التبيان في تفسير القرآن: ج 1، ص 3.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 292.
3 ـ مجمع البيان: ص 83.
4 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 295.
الصفحة 261
محاولة فاشلة
نعم الدكتور القفاري يقول في موضع آخر في مقام قبوله لتلك الرّوايات: إنّ الرّوايات الموجودة في كتب أهل السنة من جنس "روايات القراءات" أو "نسخ التلاوة" بخلاف روايات الشيعة التي هي من جنس التّحريف، وقد كرّر الدكتور القفاري هذا القول عشرات المرات ودافع عنه دفاعاً مريراً، فمثلاً تراه يقول:
"فكيف يجعل نسخ التلاوة كالقول بالتحريف إنْ ذلك إلاّ ضلال مبين وكيد متين... لان غاية ما تدل عليه تلك الآثار ان ذلك كان قرآناً ثمّ رفع في حياة الرسول والوحي ينزل..."(1).
وقال أيضاً:
"فمن يقل من الشيعة إنّ رواياتهم الواردة في كتبهم من جنس روايات القراءات ونسخ التلاوة فهو يتستر على هذا الكفر ويساوي بين الحق والباطل"(2).
ولكن كيف يمكن حمل كل روايات أهل السنة ـ التي أوردناها في المقام الأوّل "مبحث دراسة أحاديث التحريف في مصادر أهل السنة" ـ على القراءات أو نسخ التلاوة؟ وإذا كانت نظرية نسخ التلاوة من عند الله، وتعطي جواباً شافياً لقسم من الرّوايات، فلماذا هذا الترديد والإنكار من أهل السنة أنفسهم لهذه النظرية؟ وكيف تبطل نصوص تلك الرّوايات تلك النظرية؟ وإشكالات متعددة اُخر ذكرناها في المقام الأوّل، وعلى فرض المحال فلو قبلنا بأن القراءات أو نسخ التلاوة كلها من عند الله فإن الرّوايات الموهومة التي تقول بوجود اللّحن في القرآن والزيادة في القرآن وإلقاء الشياطين في الوحي القرآني وتغيير بعض الحكام في كلمات القرآن
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1019 وأيضاً ص 1044، 1054.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ج 1، ص 300 وأيضاً ص 248.
الصفحة 262
وغيرها من الرّوايات هل هي من جنس القراءات أو من جنس نسخ التلاوة؟؟
والأعجب من هذا، الإدّعاء الآخر الذي ذكره الدكتور القفاري بقوله:
"الإقرار بنسخ التلاوة أمر مشترك بين الفريقين وهو شيء آخر غير التّحريف"(1).
أولاً: من هو الذي أقرّ بنظرية نسخ التلاوة المزعومة من الأساطين الإمامية؟ ذكر الدكتور القفاري أسماء ثلاثة من علماء الإمامية وهم "شيخ الطائفة الطوسي" و"الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي مؤلف مجمع البيان" و"الشريف المرتضى علم الهدى" وقال: الاقرار بنسخ التلاوة أمر مشترك بين الفريقين...".
ثانياً: ما المقصود من "نسخ التلاوة" في عبارة الدكتور القفاري هل هو نسخ التلاوة دون الحكم أو نسخها مع الحكم؟ فالأول ورد مرّة واحدة وهي آية الرجم، والشيخان الطوسي والطبرسي قبلا هذا المورد فقط، ولكنّ تمام الرّوايات المزعومة والتي هي أكثر من أن تحصى ـ ما عدا هذا المورد ـ هي من باب نسخ التلاوة مع الحكم، ولا يوجد أحد من الإمامية يشترك مع غير الإمامية في هذا الأمر البيّن الغيّ وإليك تفصيل ذلك: قال شيخ الطائفة:
"ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم فإنّ وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف وهي قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا..."(2).
وفي موضع آخر يقول شيخ الطائفة:
"وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن وفيما ذكرناه دليل على بطلان
____________
1 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1021، وتابع الدكتور القفاري في ادّعائه هذا أفراد آخرون أمثال: "محمّد عبد الرحمن السيف" في كتابه "الشيعة الاثني عشرية وتحريف القرآن": ص 22.
2 ـ التبيان: ج 1، ص 13.
الصفحة 263
قولهم"(1).
وهذه العبارات بعينها ذكرها الدكتور القفاري عن الشيخ ولم يورد ما بعده.
فالشيخ الطوسي حينما ذكر جواز النسخ فإنّما أراد به الاستدلال على جواز النسخ في عالم الثبوت والإمكان ـ مقابل قول بعض المعتزلة بعدم جواز النسخ حتى في عالم الثبوت(2) ـ ولم ينظر الشيخ في كلامه إلى عالم الإثبات والوقوع، فقال الشيخ بعد استدلاله: "وفيما ذكرنا دليل على بطلان قولهم".
ثم قسّم الشيخ رحمه الله النسخ في الشّرع إلى ثلاثة أقسام، وقال في القسم الثالث (نسخ التلاوة مع الحكم) ما نصّه:
"الثالث ـ هو مجوّز وإن لم نقطع بأنـّه كان. وقد روي عن أبي بكر أنـّه
____________
1 ـ التبيان: ج 1، ص 394.
2 ـ اتفق أكثر الاصوليين على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس ونسخهما معاً في عالم الثبوت والامكان واستدلوا على ذلك بدليل العقل والنقل وخالفهم شواذٌّ من المعتزلة حيث نسب إليهم بأنه لا يجوز نسخ الحكم وبقاء التلاوة لانّه يبقى الدليل ولا مدلول معه فحكى الزرقاني عن جماعة في منسوخ التلاوة دون الحكم أنـّه مستحيل عقلا. مناهل العرفان: ج 2، ص 125. وقال بعض: لا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء حكمها لان الحكم تابع لها فلا يجوز ارتفاع الأصل وبقاء التّابع.
انظر: الأحكام للآمدي: ج 3، ص 128، اللُّمع: ص 58، شرح اللّمع: ج 1، ص 495 ـ 496. الذريعة (للسيد المرتضى): ج 1، ص 428 ـ 429 والمنخول: ص 297.
وامّا حديث آية الرجم ونسخ تلاوتها وبقاء حكمها فقد أخرجه الشيعة والسنة في كتبهم الحديثية في أبواب الحدود. والأصل في هذه القضية هي تفرد عمر بن الخطاب بنقله فالخبر واحد لا يثبت به نص القرآني ولا نسخه وإنَّ مقارنة الخبر بسياق بقيّة الآيات القرآنيّة واسلوبها تؤدي إلى انكار كونها قرآناً، هذا فضلاً عن أنّ عليّاً عليه السلام قد أنكر ـ بالملازمة وليس بالصراحة ـ كونها آية قرآنية فانه عليه السلام لمّا جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال:
((حددتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.))
انظر: جواهر الكلام: ج 41، ص 30، عوالي اللآلي: ج 2، ص 152 وج 3، ص 553 ورواه أحمد والبخاري والنسائي والحاكم وغيرهم فلو كان عليه السلام يرى أن حكم الرجم ثابت بآية قرآنية قد نسخت تلاوتها كما رأى عمر لم يقل ذلك.
الصفحة 264
كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر"(1).
ولو دققنا في قول الشيخ: "هو مجوّز" فإنه يعني امكان حدوث النسخ ثبوتاً لكنّه في مقام الإثبات قال: "لم نقطع بأنـّه كان" أي لم يثبت النسخ في عالم الإثبات والوقوع، وما ورد في الرّوايات ليس آية قرآنية حتى يمكن اعتبارها قسماً من النسخ وإنما هي روايات آحاد لا حجّة فيها في المقام.
هذا الكلام كان في مورد شيخ الطائفة، وأمّا الشيخ الطبرسي فهو كالشيخ الطوسي ذهب إلى أنّ الآية الوحيدة التي جرى فيها نسخ التلاوة دون الحكم هي آية الرجم(2).
أمّا السيد المرتضى رحمه الله فهو منكر لكلا هذين القسمين من النسخ; ولا أدري من أين جاء الدكتور القفاري بهذه النسبة للسيد المرتضى إذ يقول:
"وهو (أي السيد المرتضى) يقرّ بنسخ التلاوة ففي كتابه الذريعة قال: "فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دونه ثم تكلّم عن ذلك"(3).
ونحن نعجب من الدكتور القفاري كيف فهم من عبارة المرتضى القول بجواز نسخ التلاوة في عالم الوقوع والإثبات، والحال إنا ننقل لك نصّ عبارته لتتضح لك واقعية الدكتور القفاري. قال السيد المرتضى:
"فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دونه... مثال نسخ الحكم دون التلاوة نسخ الاعتداد بالحول وتقديم الصدقة أمام المناجاة ومثال نسخ التلاوة دون الحكم غير مقطوع به لأنـّه من جهة
____________
1 ـ التبيان: ج 1، ص 398.
2 ـ مجمع البيان: ج 1، ص 180.
3 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1021.
الصفحة 265
خبر الآحاد... وهكذا مثال نسخ الحكم والتلاوة معاً موجود ـ أيضاً ـ في أخبار الآحاد..."(1).
فالسيد المرتضى ـ كالشيخ الطوسي ـ في مقام بيان أنّ نسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دونه ثبوتاً جائز أو لا، فمثال نسخ الحكم دون التلاوة هنا موردان من الآيات يمكن الاتيان بهما لأنـّه مقطوع به وأمّا في مقام نسخ التلاوة دون الحكم أو معه فهو غير مقطوع به لانّ طريقه هو خبر الواحد، إذ ان نسخ الآيات القرآنية ـ كالآيات القرآنية نفسها ـ يجب أن يكون متواتراً ومقطوعاً به، وعلى هذا يكون نسخ التلاوة بكلا قسميه مردوداً عنده لأن أخبارهما آحاد وبناء على هذا فكيف يمكن للقفاري أنْ يقول بأنّ السيد المرتضى يذهب إلى قبول نسخ التلاوة؟
على هذا فإنَّ كل ما عند الدكتور القفاري من جواب لروايات أهل السنَّة هو نسخ التلاوة أو القراءة الواردة فنسخ التلاوة موهوم لا غير وادّعاؤه بأنـّه مشترك بين الفريقين كذب لا غير وأمّا القراءة الواردة فإنّها من عند الله إذا كانت تلك الرّوايات في كتب أهل السنة فقط لا في كتب الآخرين. قال الدكتور القفاري:
"الأحاديث الصريحة الدلالة في أنّ كلّ واحد من القرّاء قد أخذ قراءته من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهي مخالفة لقراءة صاحبه وأنّ النبىّ أقرّ كلاً منهم وأخبر بأنها هكذا نزلت فبان أنّ الجميع نازل من عند الله"(2).
____________
1 ـ الذريعة إلى اصول الشريعة: ج 1، ص 429.
وهما آيتان، الاولى من سورة البقرة: الآية 240 وهي آية نسخ الاعتداد بالحول، والاخرى من سورة المجادلة: الآية 12 وهي آية نسخ الصدقة أمام المناجاة. فعلى هذا فإمكان النسخ وجوازه، أمر متفق عليه بخلاف وقوعه ووروده، والمنقول من جمهور الاصوليين هو الجواز ونسب بعض الخلاف إلى شاذ من المعتزلة. انظر: البيان: ص 206 و279 و284.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1035.
الصفحة 266
فعلى هذا كل قراءة في زعم الدكتور القفاري من عند الله لكن إذا كانت نفس تلك الرّوايات في كتب الشيعة فإنها من باب كذب وافتراء.
فعلى سبيل المثال جاءت في بعض مصادر الشيعة(1) قراءة الآية بدون كلمة "عن" في الآية الشريفة (يسألونك عن الأنفال...) فقال الدكتور القفاري:
"وغرض الرافضة من هذا الزعم أنّ الأنفال كانت خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم هي للأئمة الاثني عشر المعصومين من بعده والصحابة إنما كانوا يسألون الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم منها على سبيل الصدقة ولم يكن سؤالهم عن حكمها وهذا لا يتأتى للرافضة إلاّ بحذف كلمة "عن"(2).
لكن هذه القراءة توجد في مصادر أهل السنة عن كثير من الصحابة والتابعين(3)بل نقل "ابن جرير" عن بعض انهم قالوا:
"نزلت الآية لأنَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر فأعلمهم الله أنَّ ذلك للّه ولرسوله دونهم"(4).
____________
1 ـ وردت هذه القراءة عن ائمة الهدى عليهم السلام: الإمام علي بن الحسين والصادقين عليهم السلام. انظر التبيان للطوسي: ج 5، ص 86 ـ 87.
2 ـ اصول مذهب الشيعة: ص 1011. ورأى في موضع آخر أن قراءة الآية بدون كلمة "عن" من وحي الشيطان وحقد على الإسلام وأهله. اصول مذهب الشيعة: ص 1007، الهامش رقم 2.
3 - كابن مسعود و سعد بن ابي وقاص وزيد بن علي وعطاء والضحاك وغيرهم راجع: الاعراب للنحاس: ج 1، ص 664، البحر المحيط: ج 4، ص 456، التبيان للشيخ الطوسي: ج 5، ص 86 - 87 وجامع البيان للطبري: ج 6، ص 176.
4 ـ جامع البيان: ج 6، ص 174.
الصفحة 267
فهل يريد الدكتور القفاري أصرح من هذا، فلماذا افترى على الشيعة وقال: "وهذا لا يتأتّى للرافضة إلاّ بحذف كلمة "عن".
ومثله كثير وسيأتي بعضه(1).
وهنا نستعرض نكاتاً قصيرة في أصل وجود روايات أهل السنة، وموقف الدكتور القفاري منها، ونقف هنا وقفة قصيرة لمقارنة "أجوبة" أهل السنة ـ عن رواياتهم ـ بمعايير الدكتور القفاري وموازينه.
____________
1 ـ انظر على سبيل المثال مبحث: "مضامين روايات التّحريف في كتب الشيعة" و"هل انكار المنكرين لهذا الكفر من قبيل التقية".
|