عرض مشاركة واحدة
قديم 10-27-2010, 05:51 PM   #5
السيد عباس ابو الحسن
المشرف العام


الصورة الرمزية السيد عباس ابو الحسن
السيد عباس ابو الحسن غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 11
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : 11-30-2012 (04:20 PM)
 المشاركات : 735 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



النموذج الخامس: شهادة الواقع

بيّنت في النماذج الأربعة السابقة جوانب من الوهن الفكري والمنهجي الذي تنطوي عليه اللغة الملونة والبلاغة المثيرة لدى شريعتي.
وأوّد الآن أن أنتقل من عالم النصوص إلى عالم النفوس لأبيّن كيف يمكن أن تنطلي تلك اللغة المثيرة على القرّاء فيصدحون بأناشيدها ويتراقصون على أنغامها رغم أنها تطعنهم في الصميم وهم لا يشعرون.
لذا سألجأ هذه المرة إلى الواقع لأستقي منه النموذج الخامس والأخير.
نشر أحد الإخوة الكرام في أحد المنتديات الحوارية على الانترنت([32]) رسالة يوجّهها السيد مقتدى الصدر للنساء.
وقد كان هذا سببًا لإثارة نقاش سياسي بين أعضاء المنتدى، سألخّص منه الجانب المتعلق بموضوع هذه المقالة.
كتب ناشر الرسالة في إحدى مداخلاته العبارة التالية : [وسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد القائد مقتدى الصدر ذو حسب ونسب قديم مشرق أضاء لكل الأجيال، وذو حسب جديد شاهق ببصمات التشيّع العلوي لا الصفوي].
وكتب أيضًا: [وهل محاربة أرباب التشيّع الصفوي جريمة؟!]
وهذا ما دفعني لأن أوجه إليه السؤال التالي: [.. الرجاء أن توضح معنى التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي حتى نفهم كلامك بصورة جلية، ونرى مدى صحة هذا التصنيف وفائدته، لنعرف بعدها من يخدم هذا التشيّع أو ذاك، ومن هم الذين يجب أن نحاربهم من أرباب التشيّع الصفوي؟].
فكان جوابه: [ومن يسأل ما الفرق بين التشيع العلوي والتشيّع الصفوي فليراجع كتب الدكتور علي شريعتي].
وبعد ذلك أضاف: [أما بالنسبة للتشيّع العلوي والتشيع الصفوي، تستطيع فهمهما من كتاب الشهيد الدكتور علي شريعتي في كتابه الرائع "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"].
وأجبت: [أقول لك (...)
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة


أو كنت تدري فالمصيبة أعظم

فلو أنك قرأت هذا الكتاب الذي تقول عنه أنه رائع لوجدت أن التشيّع الصفوي إنما ينطبق على الشهيد السيد محمد الصدر رحمة الله عليه، ولا يقتصر على باقي العلماء، ولكنك على ما يبدو لا تعرف من الكتاب سوى اسمه، كما أنك تُردّد ما لُقّنتَ من مصطلحات دون أن تدرك ما الذي يراد منها.
فبالله عليك اقرأ أولاً، وافهم ثانيًا، ثم بعد ذلك أطلق أحكامك، ولا تكن ببغاء تردد دونما وعي (...).
وما دام تصنيفكم للتشيّع يتّبع قواعد الدكتور علي شريعتي، فيا مرحبًا بالتشيع وبالإسلام، وهنيئًا لكم.
وإنما هذا سيكون ظلمًا للشهيد السيد محمد الصدر رحمه الله، وإساءة إليه. فانظروا على أيّ أرض تقفون].
فكان رده: [الحمد لله رب العالمين أنني قرأت هذا الكتاب أكثر من مرة، والحمد لله الذي جعل الذي يدّعي أنه شيعي يبهت الشيعي، ويرميه بما ليس فيه، وهو اتهامه بأنني لم أقرأ الكتاب.
أثبت بالدليل أن الكتاب يتكلم على كل العلماء، وأثبت لي بأن التشيع الصفوي ينطبق على المرجع الأعلى السيد الشهيد محمد الصدر. طبعًا وفق أطروحات الشهيد شريعتي].
وأجبت: [ (...) إن كتاب الدكتور الشهيد علي شريعتي فيه الغث والسمين، ومن يقرأه بتفهّم فإنه يجد أن صفة التشيّع الصفوي تطال شريحة واسعة من العلماء، ومنهم الشهيد السيد محمد الصدر، ولم يأتِ في كلامي أن الكتاب يتكلم على كل العلماء حتى أثبت ذلك. نعم إنما قلت أن التشيّع الصفوي ينطبق على الشهيد السيد محمد الصدر -حسب الكتاب- وإلا فمن وجهة نظري فإن الشهيد السيد محمد الصدر صاحب فكر أصيل، ولا أزال أستفيد مما كتب رحمه الله سواء في موسوعته القيمة عن الإمام الحجة، أو موسوعته الأخرى "ما وراء الفقه" كما استفيد من باقي كتبه.
وقبل أن أثبت دعواي دعني أوضح أنني أردت الدفاع عن الشهيد الصدر من الظلم الذي يقع عليه من مؤيديه قبل غيرهم حين يريدون أن ينتصروا له بمصطلحات الدكتور علي شريعتي].
ثم قلت: [والآن إلى بيان أن مصطلح التشيّع الصفوي ينطبق على الشهيد الصدر بحسب الدكتور شريعتي، وسأعطيك مثالاً واحدًا كافيًا وافيًا.
يقول الدكتور شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، دار الأمير، الطبعة الأولى، ص157-158: ((حقًا هذه الأمور ليست بشيء ! إذا ما قيست بما هو أخطر وأفدح منها من قبيل مسألة استرقاق العبيد، الظاهرة التي حاربها النبي وعليّ بكل شدة، ومع ذلك استمرّت الروحانية الأموية والعباسية والصفوية بتدريسها لقرون تارة باسم الفقه السنّي وأخرى باسم فقه أهل البيت... وتحت عنوان جذاب وعصري هو (العتق) يتمّ الحديث علنًا ودون حياء عن أحكام بيع وشراء الرقيق، وما زالت هذه البحوث تتداول حتى في زماننا الحاضر بما يوحي للناس أن الدين الإسلامي هو دين الاسترقاق الذي يبيح للمرء أن يبيع إنسانًا أو يشتريه، أليس هناك من يفتي بحرمة الاستماع إلى السمفونية الخامسة لبيتهوفن والتي تجسد صورة حية لحرية إرادة الإنسان قبال قوى الهيمنة والاستعباد، وفي نفس الوقت يبيح اقتناء فتى أو فتاة بمثابة عبد أو جارية!))
إلى أن يقول: ((إلا أن وعّاظ السلاطين انتهجوا منهجًا آخر أسهم في تكريس هذه الظاهرة إلى درجة أنه لم يعد اليوم من يجرؤ على تحريم الاسترقاق أو على الأقل ترك تدريس أحكام وبيع وشراء العبيد وذلك بالرغم من خلوّ الأسواق من العبيد وانتفاء الموضوع لأبحاث من هذا القبيل.))
ويا تُرى، هل كتب الشهيد محمد الصدر وفي عصرنا هذا بحوثًا حول الرقّ والعتق أم لا ؟!!
وهل يحرّم الموسيقى السيمفونية والتصويرية أم لا؟!
وهل هو ممن ينطبق عليهم مصطلح التشيع الصفوي -بحسب الدكتور علي شريعتي-أم لا؟!]([33]).
وكانت النتيجة أن هذا الأخ ترك الحوار بعد مداخلتي الأخيرة والتي كُتبت في العام 2005، ولم نره ثانية.
فكتبت أخيرًا: [نرجو أن يكون المانع من متابعتك الحوار خيرًا فقد أطلت الغياب، وكنا نتمنى أن يستمر الحوار نقطة نقطة لتظهر الحقيقة جلية، كما كنت أتمنى أن أعرف تعليقك حول انطباق التشيع الصفوي -بحسب الدكتور علي شريعتي- على السيد محمد الصدر.. وعلى كل حال، لا نعرف ما هي ظروفك، فنتمنى لك التوفيق].
تبين هذه الواقعة كيف يمكن للغة المثيرة أن تنطلي على بعض القرّاء فتحرّك نفوسهم وتثير حماستهم، ولكنها تعطل في الوقت نفسه عقولهم، وتشلّ قدرتهم على الفحص والتمييز، ولذلك نجد أن شخصًا مثل محاورنا الكريم قد قرأ كتاب التشيع العلوي والصفوي عدة مرات، ووصفه بالكتاب الرائع، ثم راح يتبنّى مصطلحاته ويستخدمها دون أن يشعر ولو للحظة واحدة أن هذا الكتاب يطعنه في الصميم ويصيب منه مقتلاً !
وإذا كان هذا هو شأن من قرأ الكتاب عدة مرات، فما بالك بمن يكون قد قرأه مرة واحدة فقط؟!
خاتمة

يروي جلال الدين الرومي في كتابه "المثنوي" حكاية مسافر لجأ أثناء سفره إلى إحدى الزوايا ليبيت ليلته فيها.
وموجز الحكاية: أن هذا المسافر لما وصل إلى تلك الزاوية قاد حماره إلى الحظيرة. وكان في الزاوية جماعة من الصوفية المعوزين الفقراء، وهم لفرط فاقتهم قد اتفقت كلمتهم على بيع الحمار. وقد عللوا فعلتهم هذه بالقول: [إن الضرورة تبيح أكل الميتة، وكم من فساد جعلته الضرورة صلاحًا!].
وسرعان ما باعوا الحمار الصغير، واشتروا بثمنه طعامًا شهيًا، وأضاؤوا الشموع!
وتعالت الصيحات في جوانب الخانقاه: [إن الليلة للطعام الشهي والمسرّة ومجلس السماع!].
وذلك المسافر أيضًا كان متعبًا من الطريق الطويل، فرأى هذا الإقبال والتكريم. ولما رأى ميلهم إليه قال: [لو أنني لم أطرب الليلة، فمتى يكون ذلك؟].
فأكلوا لذيذ الطعام ثم بدأ السماع، فامتلأ جو الزاوية بالدخان والغبار. دخان من المطبخ، وغبار يتصاعد من الأرض تدقّها أقدام الراقصين! وأرواح ثائرة غلب عليها الاشتياق والوجد!
وحينما اكتمل السماع من أوله إلى آخره، بدأ المطرب من جديد يعزف نغمة قوية!
وبدأ يترنّم قائلاً: [ذهب الحمار!] فدفعت حرارة النغمة جملة الحاضرين لمشاركة الغناء.
وبتلك الحرارة ظلوا يرقصون حتى السحر، ويصفقون بالأكف مرددين: [إن الحمار مضى وولى يا فتى]، وعلى سبيل التقليد بدأ هذا المسافر أيضًا يردد مترنمًا: [ذهب الحمار].
وحينما انقضت هذه النشوة والانفعال وذاك السماع، بزغ الصبح، فقالوا جميعًا: [الوداع].
وأخرج المسافر متاعه من الحجرة ليربطه فوق الحمار، ودخل الحظيرة ولم يجد حماره، وأقبل الخادم فسأله المسافر: [أين الحمار؟]. فقال له الخادم: [انظر إلى لحيتك]، فقام بينهما عراك.
وقال المسافر: [إنني أسلمت إليك الحمار. وجعلتك موكلاً به، فالزم حدود هذا البحث ولا تجادلني. وردّ إليّ ما أودعته عندك].
فقال الخادم: [لقد كنتُ مغلوبًا على أمري، فإن الصوفية تهجّموا عليّ فغدوت خائفًا على روحي].
قال المسافر: [فلنسلّم أنهم قد أخذوه منك ظلمًا، وأنهم أصبحوا قاصدين دمي أنا المسكين. فإنك لم تجئ، ولم تقل لي: [ها هم أولاء يأخذون حمارك، أيها المسكين!].
فقال الخادم: [والله، إني قد جئت إليك مرارًا، حتى أنبئك بهذه الأعمال. فكنت تقول لي: (إن الحمار مضى وولى يا فتى)!، وكنتَ أكثر انفعالاً من جميع الناطقين بهذا القول. فكنت أرجع قائلاً: (إنه واقف على هذا الأمر. وهو راض بهذا القضاء، فهو رجل عارف!)].
قال المسافر: [إنهم جميعًا كانوا يُحسنون ترديد هذا القول، ولقد راق لي أنا أيضًا أن أردده!
وإن تقليد هؤلاء هو الذي أسلمني للريح. فعلى هذا التقليد مئتان من اللعنات]([34]).
. . . .
ولولا أن يجيء الكلام مبتورًا ونابيًا عن العرف والمألوف، لوضعت نقطة على السطر عند نهاية الحكاية، واكتفيت بها خاتمة للبحث تُغنيني عن أية إضافة أو استطراد.
ولكنني وجدت نفسي مضطرًا إلى المتابعة قليلاً لا لأقول جديدًا، وإنما مراعاة للذوق الشائع وللعادة الجارية.
ولذا أختم كلامي بالقول: ما أشبه حال اللغة الملونة بحال الحكاية السابقة. إذ كثيرًا ما يُقبل القارئ على قراءة بعض النصوص المثيرة فتأخذه النشوة، وتدفعه حرارة النغمة ليردد مع صاحب النص وبانفعال يفوق انفعال الجميع: [إن الحمار مضى وولى يا فتى]، وهو لا يشعر أن الحمار حمارُه، وأنه في غمرة نشوته إنما يندب الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها للانتقال والسفر.
إنه وعلى سبيل التقليد يردد ما يقرأ مترنمًا، ويفوته الكثير مما ينطوي عليه النص المقروء من تهافت أو تزييف أو تزوير أو قلب للحقائق..
ولذا حاولت في هذه المقالة أن أنبّه على بعض المخاطر التي تحتفّ بها اللغة المثيرة لكي لا يغلب الطرب على عقل القارئ، وتسقط الحقيقة شهيدة عند أقدام البلاغة الأخاذة والبيان الساحر.
وأرجو أن تكون النماذج التي قدمتها كافية في تحفيز القارئ على التدبّر عند قراءته لأي نص تغلب عليه اللغة الملونة، سواء تعلّق الأمر بالدكتور علي شريعتي أم بغيره من الكُتّاب والمؤلفين.
ونحن إنما طرحنا كلام شريعتي من باب المثال، وكان اختيارنا له بالخصوص لأنه يُعدّ واحدًا من أبرز رواد هذا الميدان.
كما أن النماذج التي سقناها من كلامه إنما تمثل بعض العيّنات مما قد تطفح به كتبه من مشكلات، وهي على كل حال عينات كافية في التدليل على المراد، وقد استطاعت أن تُظهر بجلاء: أن بلاغة الدكتور علي شريعتي لا ترقى إلى مستوى الدليل.
(انتهى المقال)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
([33]) وليكن معلومًَا للقارئ أن الشهيد السيد محمد الصدر قد كتب في موسوعته "ما وراء الفقه" بحثاحول الرق والعتق، كما أنه ذهب في هذا الكتاب إلى تحريم الموسيقى السيمفونية.

([34]) انظر تمام القصة في: مثنوي جلال الدين الرومي، ترجمة د. محمد عبد السلام كفافي، دار المكتبة العصرية، بيروت - صيدا، 1967، ط1، المجلد الثاني، ص67-73.



 
 توقيع : السيد عباس ابو الحسن

يــــا لـثارات الـــزهــــــراء








رد مع اقتباس