10-27-2010, 05:41 PM
|
#3
|
المشرف العام
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 11
|
تاريخ التسجيل : May 2010
|
أخر زيارة : 11-30-2012 (04:20 PM)
|
المشاركات :
735 [
+
] |
التقييم : 10
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
النموذج الثالث: تزييف الحقائق - تزوير النصوص
يقول شريعتي في كتابه "الأمة والإمامة": ((علم الأخلاق هو العلم الذي يدرس [كيف يجب أن يكون] والإنسان لا يعرف ذلك! فقد أضحت الأسس البديهية للفضائل الأخلاقية مورد تشكيك وتردد في عصرنا الحاضر. بل نجد شخصية كسارتر يهاجم أعزّ وأقدس المسائل الأخلاقية التي يعتقد بها الجميع على الدوام، ويعدّها غير قابلة للتحليل المنطقي.
ويتحدّث في مسرحية الجدار عن شخصية سجينة، تطرح الاستفهام التالي: ماذا يعني إخلاصي لأصدقائي وبقائي الدائم في هذا العذاب أسيرًا؟ لِمَ أبقى في هذه المعاناة؟ لأجل ماذا، ومقابل ماذا؟ ألأجل أن يتمتع جمع بالحرية والاطمئنان؟ ماذا يعني ذلك؟
بعد ذلك يتهيّأ للاعتراف على عنوان أصدقائه وهو مقبرة المدينة، فتهاجم الشرطة المقبرة ويقبضون على زعيم الجماعة، وبعد أن يرى السجين صديقه بقبضة الشرطة يقهقه ضاحكًا، ثم تفرج الشرطة عنه!
لمَ ؟ لأن التضحية والفداء بما له من عظمة وإنسانية ليس له أيّ توجيه منطقي اليوم، والإنسان متردّد حتى أمام الفضائل والإيمان بالأصول الإنسانية التي كانت على الدوام أصولاً بديهية ومقدسة، فالإنسان لا يدري واقعًا ومنطقًا: هل أن الصيرورة والحياة على هذه الفضائل أمر حسن أم لا؟))([23]).
ربما يتعجّب القارئ من اختياري مثل هذا النص لأجعله شاهدًا من شواهد اللغة المثيرة التي تسبّب العمى ودليلاً على التزييف والتزوير اللذين يصطنعهما شريعتي في مؤلفاته! بل لعل بعض القرّاء المتحمّسين حين يقرأ هذا النص لشريعتي تنبثق في نفسه آيات التقدير ويتملّكه الشعور بالإعجاب، فينبري لتبيان ما ينطوي عليه النص من معارف وما يدعو إليه من مواقف. كيف لا ؟ وهو نصٌّ لا تكاد تتجاوز مساحته الصفحة الواحدة، ولكنها صفحة قد تغنيك قراءتها عن قراءة العديد من الصفحات.
فانظر كيف يعرّفك شريعتي فيها على الأصول الأخلاقية التي كانت على الدوام أصولاً بديهية ومقدسة، ثم انظر كيف يدلّك على طبيعة عصرنا الحاضر وما يحمله من تشكيك وتردد تجاه تلك الأصول. ولاحظ بعد ذلك ما تشتمل عليه هذه الصفحة من غنىً بالموضوعات الفلسفية والأدبية. ولا تنس أيضًا أن الموضوعَ موردَ البحث هو موضوع إسلامي ولكنّ صفحتنا هذه لم تقتصر في معالجته على المعارف الإسلامية وحدها، بل يمّمت وجهها شطر الثقافة الغربية أيضًا لكي تأتي المعالجة شاملة ووافية. وتأمّل أخيرًا كيف تنير هذه الصفحة عقولنا وتشحذ إرادتنا مما يزوّدنا بالشجاعة كلها لكي نقف إزاء الفكر الغربي موقف الباحث الناقد، ولا نغترّ بسمعته فنسلك تجاهه سلوك المستلَب المأخوذ...
بهذا النحو أو ما يماثله قد يؤثر نص شريعتي السابق على القرّاء الذين يقرأون بطريقة انفعالية.
ولكن ما الذي يمكن أن يحدث فيما لو قرأنا النص قراءة متفحّصة متدبرة؟ إننا لو فعلنا ذلك فإن الواقع المرّ سيصدمنا، لأننا سوف نتفاجأ بأمرين خطيرين هما: تزييف الحقيقة وتزوير النصوص. ولنبدأ بالأمر الأول.
تزييف الحقيقة
قرأنا في هذا النص قول شريعتي: [بل نجد شخصية كسارتر يهاجم أعزّ وأقدس المسائل الأخلاقية التي يعتقد بها الجميع على الدوام، ويعدّها غير قابلة للتحليل المنطقي]. وكذلك قوله: [لأن التضحية والفداء بما له من عظمة وإنسانية ليس له أيّ توجيه منطقي اليوم، والإنسان متردّد حتى أمام الفضائل والإيمان بالأصول الإنسانية التي كانت على الدوام أصولاً بديهية ومقدسة].
والذي يهمّنا الآن من كلام شريعتي هو ادّعاؤه أن المسائل والأصول الأخلاقية التي يتحدّث عنها هي من المسائل والأصول التي كان يعتقد بها الجميع وعلى الدوام، ولذلك كانت دائمًا أصولاً بديهية ومقدّسة.
ومن حقنا هنا أن نسأل: ما الحجة وما الدليل اللذان استند إليهما شريعتي لكي يبيح لنفسه أن يجزم هذا الجزم القاطع، وأن يعمّم هذا التعميم الواسع مدعيًا بأن الجميع وعلى الدوام كانوا يعتنقون هذه الأصول الأخلاقية ويقدسونها؟
وليته كلّف نفسه القيام ولو باستقراء عجول قبل أن يطلق كلامه هذا ويرسله إرسال المسلمات. ولكنه لم يفعل، ولا يناسبه أن يفعل، وإلا لما تسنّى له عندها أن يجزم ويعمّم، وهذا ما كان سيُفقد كلامه بعض قوّته، ويحرم بلاغته بعض مؤثراتها، لأنه من الواضح أن الإنسان حين يقف مدافعًا عن الحقائق العامة الدائمة، والبديهية المقدسة، سيكون كلامه أشد وقعًا وأبلغ أثرًا ممن يدافع عن حقيقة ليست لها القداسة نفسها عند الجميع، بل إن البعض يدعو إلى خلافها. وشريعتي كما عهدناه هو في صف البلاغة ولو على حساب الدليل الذي هو من شأن عشّاق المنطق.
وعليه نقول: إن دعوى شريعتي وعلى الرغم مما تتصف به من جزم وتعميم هي دعوى باطلة لا تؤيدها أية حجة صحيحة، والتاريخ يشهد على ما نقول، فهو يحدّثنا عن أناس ممن لا تنطبق عليهم دعوى شريعتي الآنفة، نذكر من بينهم -وعلى سبيل المثال- أصحاب مذهب اللذة، هؤلاء الذين يرون: ((أن اللذة خير حتى لو نجمت عن أشد الأمور مَجلبة للعار. إن الفعل هو العار، أما اللذة الناجمة عنه فهي في ذاتها فضيلة وخير)) ([24]).
ولا يتّسع المجال للإفاضة بالحديث عن الناس والحكّام والشعراء.. ولا عن الفلاسفة والمنظّرين.. ولا عن أصحاب مذهب (الشك)، ممن تكذّب آراؤهم ومعتقداتهم دعوى شريعتي الآنفة.
بهذا يتبيّن لنا جليًا كيف قام شريعتي بتزييف الحقيقة، فجزم حيث لا ينبغي الجزم، وعمّم حيث يقبح التعميم، وذلك لغاية في نفسه قضاها.
والطريف في المسألة أن شريعتي نفسه يحذّرنا كما يحذرّنا كتّاب آخرون من الانزلاق في مهاوي الجزم والتعميم.
ولنقرأ أولاً هذا النص لشريعتي - وهو يحكم على نفسه - حيث يقول: ((إن من شروط النظرة العلمية الصحيحة أن تكون شاملة ومتعددة الزوايا والأبعاد، وذات طابع نسبي، خلافًا للعوام الذين يميلون عادةً إلى تعميم الأحكام، وإضفاء صفة الجزم عليها))([25]).
وهذا كلام يُغنينا فعلاً عن الإدلاء بأي تعليق، وقد كان بالإمكان أن نجعل من مسألة التناقض بين دعوة شريعتي إلى عدم الجزم والتعميم وبين ارتكابه لخطيئة الجزم والتعميم التي هي من شأن (العوام) محورًا مستقلاً، ولكننا اكتفينا بهذه الإشارة إذ ليس غرضنا في هذه المقالة سوى التنبيه وضرب الأمثال.
ولنقرأ بعد هذا تحذيرًا آخر كتبه المفكّر الاجتماعي الرصين "مالك بن نبي" في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" حيث يقول: ((والمجتمع الذي يقع في مثل تلك الطفولية يكشف عن ظاهرة غريبة من التعويض عن افتقاره إلى الأفكار (...) إلى أن يقول: فعدم التماسك تبدو علاماته حين تنعدم الأفكار، حينئذ يأتي الصوت ليعلو كيما يحلّ محل حجة افتقدت.
ويبرز التصنع البلاغي في الأدب: الإفراط في أدوات التفضيل، التشدّق في الأوصاف (...).
إنها حجة الإثارة أن يقال إنه أمر خطير جدًا، بدلاً من أن تعطي مجرد فكرة محدودة عن الموقف.
إنها المبالغة في التهويل أو التهوين بأن يقال: [كل الدنيا تعلم بذلك] لتأييد رأي، أو [لا أحد يصدق ذلك] للانتقاص من قيمة رأي.
والخلاصة إنه حشو الكلام حيث كل كلمة تلقي ظلالاً من الغموض على الموضوع بدلاً من أن تجلّيه، فعندما يسيطر التشويش وانعدام التماسك على عالم الأفكار، تظهر علاماتها في أبسط الأعمال))([26]).
وهذا لعمري وصف دقيق وجليل حقًا للظاهرة التي يمثّل شريعتي أحد مصاديقها البارزين: بدءًا بعدم التماسك، ومرورًا بالصوت الذي يعلو ليحلّ محلّ حجة افتقدت، وعطفًا على حجة الإثارة والتصنّع البلاغي، وانتهاءً بالتعميم أو التهويل..
هذا فيما يرتبط بالأمر الأول من محورنا وهو تزييف الحقيقة، ويبقى أن نبين الأمر الثاني وهو تزوير النصوص.
تزوير النصوص
قرأنا في النص الآنف لشريعتي تلخيصه لأحداث (مسرحية) الجدار للفيلسوف الفرنسي سارتر، مستدلاً بهذا التلخيص على موقف سارتر ومهاجمته لأعزّ وأقدس المسائل الأخلاقية التي يعتقد بها الجميع على الدوام..
ولكي لا أكرر الكلام فإنني أرجو من القارئ الكريم أن يراجع التلخيص كما أورده شريعتي، ثم ليرافقني بعدها للكشف عن وجه الحقيقة.
والحقيقة هي أن قصة الجدار -وهي قصة قصيرة وليست بمسرحية- بريئة كل البراءة مما نسبه شريعتي إليها. إذ ليس صحيحًا أن الشخصية السجينة قد طرحت الاستفهام حول معنى إخلاصها وبقائها في العذاب الدائم لأجل أن يتمتّع جمعٌ بالحرية والاطمئنان، ثم خلصت إلى أنه لا معنى لذلك.
كما أنه ليس صحيحًا أيضًا أن هذه الشخصية قد تهيّأت للاعتراف والذي كانت نتيجته مهاجمة الشرطة للمقبرة والقبض على زعيم الجماعة، حتى إذا رأى سجيننا صديقه بقبضة الشرطة قهقه ضاحكًا، ثم أفرجت عنه الشرطة.
وإنما الصحيح هو عكس ما يخبرنا به شريعتي تمامًا من أحداث القصة، فالقصة تقول أن هذا السجين ظلّ محافظًا على سرّ صديقه إلى آخر لحظة موطّنًا نفسه على الموت قبل أن يفشي السرّ، بل إنه علاوة على هذا أراد أن يهزأ بسجّانيه فقال : ((أنا أعرف أين هو. فهو مختبئ في المقبرة)). وهو يُوضح سبب تصرّفه هذا بالقول: ((كان ذلك لأهزأ منهما، أودّ أن أراهما يقفان، ويشدان حزاميهما ويعطيان الأوامر)). إلى أن يقول: ((كنت أضحك من وقت لآخر من الوجه الذي سيقابلونني به))، وذلك لأنه كان يعلم علم اليقين أين يختبئ صديقه وأنه ليس في المقبرة. ولكن الصدفة لعبت دورها فلجأ صديقه إلى المقبرة دون علم سجيننا بذلك، فكان أن وجدته الشرطة هناك وقتلته.
وحين علم سجيننا بالأمر بدأ يرتجف، وقال: ((كل شيء بدأ بالدوران، ووجدتني جالسًا على الأرض، كنت أخجل بقوة، إلى حدّ أن الدموع بانت في عينيّ))([27]).
فيا سبحان الله كيف انقلبت الحقائق وتبدّلت الوقائع على لسان شريعتي فصار الهُزء بالسجانين استسلامًا، وغدا حفظ السر وشاية، واستحال الارتجاف والخجل والبكاء قهقهةً وضحكًا؟!
وأين يحدث كل هذا؟
إنه يحدث في بحث حول الأخلاق يدافع فيه المعلم شريعتي عن الأصول الإنسانية والمبادئ الأخلاقية التي كانت على الدوام أصولاً بديهية ومقدسة.
ولا أدري ما الذي علينا أن نصدّقه: أقوال المعلم أم أفعاله؟
ولكنني على يقين من أن النزهة في حدائق شريعتي والتجوال بين مؤلفاته هما من الأمور الطريفة والممتعة، لذا دعنا نقرأ له هذا النص من كتابه " التشيع العلوي والتشيع الصفوي " والذي يصف فيه جماعة السوفسطائيين وهم يقلبون النهار إلى ليل ببيانهم الساحر، فيقول: (( وكانت اليونان في ذلك العهد انتشر فيها السوفسطائيون، وهم أشخاص ذوو حذاقة عالية في الجدال والمناقشة، وكانوا قادرين ببيانهم الساحر على قلب الليل إلى نهار والنهار إلى ليل. وقد هيمن السوفسطائيون بقوة استدلالهم وسحر بيانهم على مقاليد الأمور في اليونان على كافة الأصعدة السياسية والفكرية والقضائية))([28]).
ولا أدري ما إذا كان هؤلاء السوفسطائيون يقلبون الليل إلى نهار والنهار إلى ليل، بقوة استدلالهم وسحر بيانهم فقط، أم أنهم كانوا علاوة على ذلك يزيّفون الحقائق ويزوّرون النصوص؟!
وهنا لا بد أن نسأل: إننا لو قبلنا التصنيف المحبّب على قلب شريعتي، وهو تصنيف التشيّع إلى تشيّع علوي وتشيع صفوي، فأين يمكننا أن ندرج عملية تزييف الحقائق وتزوير النصوص؟
أم لعله يجدر بنا اختراع صنف ثالث لكي نتمكن من إدراج مثل هذه العملية فيه، لأن الصنفين الأولين لا يتسعان لها. ولنطلق على هذا الصنف اسم: التشيع (الميتاصفوي).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
([23]) د. علي شريعتي: الأمة والإمامة، دار الأمير، بيروت، 1992م-1413هـ، ص96-97.
([24]) د. عبد الرحمن بدوي: الأخلاق النظرية، وكالة المطبوعات، الكويت، ط2، أيار-مايو، 1976م، ص242.
([25]) د. علي شريعتي: التشيّع العلوي والتشيع الصفوي، ترجمة حيدر مجيد، دار الأمير، بيروت، ط1، 1422هـ - 2002م، ص68.
([26]) مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم ألإسلامي، دار الفكر المعاصر- بيروت، ودار الفكر - دمشق، 1423هـ-2002م، ص66-67.
([27]) كل ما أوردناه من القصة يمكن الاطلاع عليه في: الجدار لجون بول سارتر، ترجمة هاشم الحسيني، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979م.
([28]) التشيّع العلوي والتشيع الصفوي، مصدر سابق، ص43.
|
|
يــــا لـثارات الـــزهــــــراء
|