ثم ليعلم أننا لا نلتزم بنقل جميع وكلِّ ما ورد من أخبار وآثار، وإنما عمدنا إلى نقل بعض الأخبار في كلِّ مورد طلباً للاختصار، ويعجبني قبل الشروع في المقصود أن أنقل ما نقله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج عن بعض متكلمي المعتزلة.
قال: قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي: لولا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد، لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية، فقد علم الناسُ كافةً أنَّ الدولةَ والسلطانَ لأرباب مقالتهم، وعرف كلُّ أحد علوَّ قدر شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم، وظهورَ كلمتهم وقهرَ سلطانهم وارتفاعَ التقية عنهم، والكرامةَ والجائزة لمن روي الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر وما كان من تأكيد بني أمية لذلك، وما واذه المحدثون من الأحاديث طلباً لما في أيديهم، فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي (عليه السلام) وولده، ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم، ويحملوا على شتمهم وسبهم ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، فكانوا بين قتيل وأسير وشريد وهارب ومستخف ذليل وخائف مترقب، حتى أنَّ الفقيه والمحدِّث والقاضي والمتكلم ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الإيعاد وأشد العقوبة ألا يذكروا شيئاً من فضائلهم، ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم، وحتى بلغ من تقية المحدِّث أنه إذا ذكر حديثاً عن علي (عليه السلام) كنى عن ذكره، فقال قال رجل من قريش وفعل رجل من قريش ولا يذكر علياً (عليه السلام) ولا يتفوه باسمه.
ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله ووجَّهوا الحيل والتأويلات نحوها من خارجيٍّ مارق، وناصبٍ حنق، وثلبتٍ مستبهم، وناشئ معانِد، ومنافقٍ كذاب، وعثمانيٍّ حسود يعترض فيها ويطعن، ومعتزليٍّ قد نقض في الكلام وأبصر علو الاختلاف، وعرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطالِ مناقبه وتأوُّلِ مشهور فضائله، فمرة يتأوَّلها بما لا يحتمل، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض، ولا يزداد مع ذلك إلا قوةً ورفعةً ووضوحاً واستنارةً، وقد علمتَ أنَّ معاوية ويزيد ومَن كان من بني مروان أيام ملكهم وذلك نحو ثمانين سنة، لم يدعوا جهداً في حمل الناس على شتمه ولعنه واخفاءِ فضائله وسترِ مناقبه...... فحرصوا واجتهدوا في اخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى اللهُ أن يزيد أَمْرَه وأَمْرَ ولده إلا استنارةً وإشراقاً، وحبَّهم إلا شغفاً وشدةً، وذكرَهم إلا انتشاراً وكثرةً، وحجتَهم إلا وضوحاً وقوةً، وفضلَهم إلا ظهوراً، وشأنَهم إلا علواً، وأقدارَهم إلا إعظاماً، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاءً، وبإماتتهم ذكرهم أحياءً، وما أرادوا به وبهم من الشر تحوَّل خيراً، فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون، ولا ساواه فيه القاصدون، ولا يلحقه الطالبون، ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة وكالسنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد(2).
أقول: وما ذكره الاسكافي يعرف حقيقته كلُّ مَن له أدنى إطلاع على التأريخ ومعرفة بالماضي بل وبالحاضر، وبوسع كل أحد أن يقف على ما لا يحصى من الشواهد والبينات.
وإذا ما كان الأمركذلك، فلماذا رأينا ونري بعض المعاصرين ممَن ينتسبون إلينا مُهمِلاً غافلاً عن نقل ما ورد من فضائل العترة الطاهرة؟
أَوَ ليس من الوفاء لأهل الوفاء وسادات البشر، أن يغتنم مَن بوسعه نشر فضائلهم سعةَ الظروف والحال، فيعمد إلى الإشارة والبيان في كل مقام ومقال؟
أَوَ ليس من علامات الحب والولاء لشخص أن يغتنم المحبُّ الفرصةَ المناسبة لذكر مَن يحب ويتولى؟
فكيف إذا ما كانت الحاجةُ الأكيدةُ تفرض ذلك انتصاراً لمذهب الحق وتشييداً له؟! على أنه أيُّ عملٍ هو أشرف وأفضل من التذكيرـ على الأقل ـ بمناقب أئمة الهدي من آل بيت سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله)؟!
ثم إننا قد تتبعنا في كتاب المعاصر ممَّا كتبه في تفسير القرآن، فوجدناه قد غفل وأغفل وأهمل التعرُّضَ في كثير من الموارد إلى مناسبة نزول الآية مما يرتبط بآل ياسين تارة، وإلى ما ورد في المأثور من نص على كون المراد من هذه الآية أو تلك أمير المؤمنين (عليه السلام) وما شاكل ذلك، مما يجمعه عنوان أنَّ الآية يثبت بها فضيلة لأهل البيت (عليهم السلام).
ونحن بدورنا لا يسعنا أن نمرَّ مرور الكرام على مثل هذا النحو من التفسير ممَّا لم يُعهَد ممَن ينتسب إلينا، فعزمنا متوكِّلين على الله تعالى على استعراض تلك الموارد بل أهمها وبيان ما ورد مما لم يُشِر إليه هذا المعاصر.
نعم، إذا ما كان لهذا المعاصر عذرٌ في ما ارتكبه ـ ولا نري ذلك قطعاً ـ وعَمَدَ فيما بعد إلى إصلاح ما في كتاباته وعباراته، فإننا نرجو من المولى سبحانه أن نكون بهذا الكتاب ممَّن شارك في حفظ شيء من فضائل العترة الطاهرة (عليهم السلام)، وكل الرجاء من سادات الخلق صلوات الله ربي وسلامه عليهم أجمعين، أن يكون منهم قبول هذا العمل، فإنه لا مطمع لنا إلا في رضاهم.
هذا ومن المفيد أن نشير أولاً إلى المنهج الذي اتَّبعناه، والنحو الذي سلكناه وذلك ضمن نقاط:
النقطة الأولى: قد نقلنا تمام كلام المعاصر والذي يرتبط بخصوص الآية المبحوث فيها.
النقطة الثانية: كان العزم على أن نكتفي بإيراد الأخبار والأحاديث الواردة دون أن نناقش في ما طرحه المعاصر، ولكنا حيث أوردنا كثيراً من الأخبار من طرق العامة، وكان رأي المعاصر موافقاً لما التزم به بعض العامة، مضافاً إلى تشكيكه بصحة بعض الأخبار تارة أو ادعائه اضطراب مضمونها وما شاكل مما ناقش فيه سنداً أو متناً، فرأينا أنَّ المناقشة ولو بنحو مختصر أتم وأكمل للبحث، فعمدنا إلى مناقشة بسيطة مختصرة جداً لضيق المجال فحسب.
النقطة الثالثة: لم نبنِ على أن نتعرض لتحقيق صحة ما أوردناه من الأخبار مما ورد من طرقنا فيما إذا كانت قد وردت وبنحو متظافر من طرق أبناء السُّنة، نعم إذا ما كانت الأخبار الواردة قد انفرد أصحابنا بروايتها من طرقنا، وكان ثمة ما يدعو إلى الإشارة إلى صحتها واعتبارها سنداً، فسوف نتعرض لذلك إن شاء الله تعالى.
النقطة الرابعة: إننا لم نورد فيما أوردناه تمام ما ورد من أخبار وأحاديث، والأحاديث الواردة قد يتعدد ويختلف سند بعضها عن بعضها الآخر وقد يتّحد.
ففي صورة الاتّحاد نكتفي بذكر المصدر الآخر الذي ورد فيه ذكر الخبر، وفي صورة الاختلاف فأن كان المضمون واحداً ولو بأن لا يكون فيه زيادة يترجَّح معها ذكر المتن ثانية، فإننا نشير إلى المصدر فقط، اللهم إلا أن يكون نفسُ المضمون وارداً عن طريق صحابي أو تابعي آخر أو عن شخص معتدٍّ به عند أبناء العامة، فإننا نذكره ونشير إلى المصدر، وإن كان في الخبر نكتةٌ خاصة فإننا نوردها وحدها أو في ضمن الخبر، ولا يكون ذلك من التكرار في شيء.
النقطة الخامسة: بما أنَّ الغاية القصوي هو تزييف الرأي المخالِف لما ثبت عن ساداتنا(عليهم السلام)، فإنَّ المهمَّ تحقيقُ ذلك ولو بالتوسُّل بقول عالم هنا ومحقِّق هناك.
وفعلاً فإذا ما وجدنا أو ظفرنا بكلام مفيد ونافع، فإننا نورده مع المحافظة على نسبة القول إلى صاحبه وذكر المصدر، بل إذا كنا قد طالعنا كلاماً لأحد واستفدنا منه فيما كتبناه، فإننا لا محالة ـ إن شاء الله تعالى ـ نشير إلى ذلك، كأن نقول وقد أشار فلان مثلاً إلى هذا المعنى، ولا نظن أننا نكون في مقام نكران الفضل لمَن سبقنا وأخذنا عنهم وتربينا على فتات موائدهم، وإنَّ من موارد وموجبات التوفيق أن يذكر الإنسان الشخص الذي استفاد منه، وفي مثل مقامنا يكون بالتنويه باسمه على الأقل.
النقطة السادسة: بما أننا التزمنا بالاستشهاد بكلام غيرنا من أبناء السُّنة، وكان غيرنا مترحمين مترضيين على مَن لا نترضَّى ولا نترحَّم عليهم، وقد يذكرون الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) فيصلُّون عليه الصلاة البتراء من دون الصلاة على آل محمد (عليهم السلام)، ويذكرون أئمتنا فلا يُسلِّمون عليهم كما أمر المولى تعالى شأنه، فقد عمدنا إلى حذف الكلام الباطل وتتميم الناقص.
ولنشرع في المقصود، راجياً من المولى الكريم أن يُوفِّق للاتمام كما يحب ويرضى، وأن يتقبله بقبول حسن هو حسبي، عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعداء الله ظالميهم.
الغازية ـ صيدا
علي بن حسين أبو الحسن الموسوي العاملي
-----------------------------------------------------------------
(1) تفسير الشهرستاني ج1 ص 105، شواهد التنزيل ج1 ص 52 إلى 60، تاريخ بغداد ج 6 ص 219، تاريخ دمشق ج 42 ص 363، مناقب امير المؤمنين ج1 ص 146، ذخائر العقبى ص 89، جواهر المطالب ج1 ص 221، المناقب للخوارزمي ص 279 ح 272، مناقب أحمد لابن الجوزى ص 163، العمدة ص 6.
(2) شرح نهج البلاغة ج 13 ص 219 ـ 223.
|