المرحلة الثانية من الجواب على الشبهة
دراسة متون الروايات :
أولا : علمنا أن آية : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) نزلت في العام الثالث بعد البعثة ، وقد جاء في الروايات 1 و 2 و 3 و 7 و 8 و 9 ، ان رسول الله ( ص ) خاطب ابنته فاطمة في من خاطب ، وقال في الأولى : اني لا أملك لكم من الله شيئا . . .
وقال في 2 و 7 و 8 : يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، وقال في الثالثة : يا فاطمة بنت رسول الله ( ص ) سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا ، بينما كانت فاطمة على القول الأصح ولدت في السنة الخامسة بعد البعثة ( 1 ) .
ولو قبلنا رأي الآخرين والذين اختلفوا في سنة مولدها ، فقد كان عمرها عام البعثة قبل سن البلوغ ولا تصح مخاطبتها يومذاك كسائر المكلفين ، بينما كان لها ثلاث أخوات متزوجات ولا يأت ذكر هن في الروايات .
ثانيا : جاء في الروايات 1 و 2 و 3 و 7 ، ان رسول الله خاطب بني عبد المطلب وبني كعب بن لؤي وقريش وقال لهم : اني لا أملك لكم من الله شيئا ، أنقذوا أنفسكم من النار . وهذا الخطاب يصح ان يخاطب به من يؤمن بيوم القيامة وبرسالة الرسول ( ص ) وينتظر شفاعته يوم القيامة ، وكيف يخاطب به من قال قائلهم : ( ان هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) و : ( من يحيي العظام وهي رميم ) وقال في الرسول ( ص ) : انه ساحر ومجنون ؟ ومتى كان لرسول الله ( ص ) مال ليقول لهم : خذوا من مالي ما شئتم ؟ انه كان يعيش من أموال زوجته خديجة . ‹ صفحة 300 ›
ثالثا : جاء في الروايات 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 ان رسول الله ( ص ) عندما نزلت عليه آية : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) خاطب قريشا وآل عبد مناف وقال : . . . . في حين ان الآية خصت أمر الانذار بعشيرته الأقربين ، وهم بنو عبد المطلب وبنو هاشم ، وليس ما عداهم من قبائل قريش ! رابعا : في رواية أبي أمامة الأخيرة ، انه لما نزلت الآية جمع الرسول ( ص ) بني هاشم بباب البيت ونساءه وأهله فاطمة وعائشة وحفصة وأم سلمة وقال : . . . في حين ان رسول الله ( ص ) تزوج بعائشة وحفصة وأم سلمة في المدينة ، والآية نزلت كما ذكرنا في مكة وفي السنة الثالثة من البعثة . * * * كان ذلكم شأن الروايات التي أسندت روايتها إلى الصحابة ، ولا نطيل البحث بايراد روايات رويت في هذا المقام عن التابعين الذين لم يدركوا الرسول ( ص ) ليخبرونا عما حدث في عصره ، وكذلك شأن من جاء بعد التابعين من الرواة .
بعد وضوح تناقض هذه الروايات بعضها مع بعض وتناقضها مع الواقع التاريخي نرجع إلى مصادر الدراسات الاسلامية ، ويظهر لنا ان هذه الروايات بمجموعها تتحدث عن خبرين كالآتي بيانه : عندما بعث رسول الله ( ص ) امن به من كان في بيته زوجه خديجة وابن عمه علي ومولاه زيد ، وفي السنة الثالثة من البعثة نزلت آية : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) وكان من خبره ما تحدث عنه الإمام علي ممن شاهد الحادثة واشترك فيها .
روى الطبري ، وابن عساكر ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والمتقي ، وغيرهم - واللفظ للأول - قال : عن علي بن أبي طالب ( ع ) قال : ‹ صفحة 301 › لما نزلت هذه الآية على رسول الله ( ص ) : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . دعاني رسول الله ( ص ) فقال لي : يا علي ، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعا ، وعرفت أني متى أباديهم بهذا الامر أرى ما أكره ، فصمت عليه حتى جاءني جبرئيل فقال : يا محمد إن لا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك . فاصنع لنا صاعا من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، وأملأ لنا عسا من لبن ، ثم أجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به . ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب . فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم ، فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله ( ص ) حذية ( أي : قطعة ) من اللحم فشقها بأسنانه ، ثم ألقاه في نواحي الصحفة ، ثم قال : خذوا بسم الله .
فأكل القوم حتى ما لهم بشئ من حاجة ، وما أرى إلا موضع أيديهم . وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم . ثم قال : إسق القوم ، فجئتهم بذاك العس ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعا ، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله ( ص ) أن يكلمهم ، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لشد ما سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله ( ص ) . فقال الغد : يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ، ثم اجمعهم إلي . قال : ففعلت ، ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام ، فقربته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشئ حاجة ، ثم قال : إسقهم ، فجئتهم بذاك العس ، فشربوا حتى رووا منه جميعا .
ثم تكلم رسول الله ( ص ) فقال : يا بني عبد المطلب ، إني والله ما أعلم شابا في الرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ، إني قد جئتكم ‹ صفحة 302 › بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمرعلى أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعا وقلت - وإني لأحدثهم سنا ، وأرمصهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأحمشهم ساقا - : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ( 1 ) .
أشرنا في ما مضى أن دعوة النبي ( ص ) قد انحصرت في بيته ابتداء ، وقد أحس أمير المؤمنين ( ع ) العطر السماوي والوحي الإلهي في أول لحظات البعثة ، حيث إنه ( ع ) كان يرافق النبي ( ص ) في غار حراء ، وبعد رجوعه ( ص ) إلى البيت التحقت بهما السيدة خديجة ، فأصبح عدد المسلمين ثلاثة ، وهناك شواهد موثوقة على أن الاسلام لم يتجاوز هؤلاء الثلاثة لمدة مديدة ( 2 ) .
ثم التحق بهم بعد زمن مديد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ، وإنا لا نعرف الزمن المحدد لاسلامهما .
ان الله تعالى أمر النبي الأكرم ( ص ) في السنة الثالثة للبعثة أن يدعو الأقربين من عشيرته إلى الاسلام ، وذلك بعد ثلاث سنوات من سرية الدعوة ،
‹ صفحة 303 › وكانت الآية 214 من سورة الشعراء حاملة لهذا التكليف ، كما عرفنا قصة هذه الدعوة قبل ذلك عن لسان الامام أمير المؤمنين ( ع ) ، وكان بعد هذا الوحي السماوي أن دعا رسول الله ( ص ) الأقربين من عشيرته إلى وليمة ، وانذرهم وبلغهم في بيته ، وبعد هذه الدعوة انتشرت الدعوة ، واعتنق الاسلام مختلف الناس تدريجا ، فازداد عدد المسلمين . عند وجود النبي ( ص ) في مكة لم يكن توجيه مثل هذا الخطاب العام إلى قريش ميسورا ، فان قريش لم يؤمنوا به ( ص ) سوى عدد قليل منهم ، حتى ينذرهم من عذاب النار ويكلمهم عن الشفاعة وعدمها ، فمثل هذا الكلام يصح إذا خضعت قريش للاسلام واعتقدوا برسول الله ( ص ) كنبي ، وإن كان اعتقادا ظاهريا ، ففي الحالة التي كان الرسول ( ص ) في صراع ليل ونهار مع قريش المترفين والمقتدرين واتباعهم ، كانوا يهزأون به وأحيانا يلقون أمعاء الإبل على رأسه الشريف أو يصبون عليه الرماد ، في مثل هذه الظروف لا يعقل ان يكلمهم النبي ( ص ) ويقول لهم بأنه لا يتمكن من الشفاعة لهم ، وعليهم أن يخلصوا أنفسهم من النار بعملهم الصالح ( 1 ) . وعندما نفرض توفر مثل هذا الانذار العام فيجب أن يكون ذلك عندما أسلم كلهم ولو ظاهريا وقبلوه ( ص ) نبيا .
وقد وجدنا في روايات أئمة أهل البيت :
أولا : ان الروايات المتضمنة آية الانذار تحكي جميعها عن انذار الأقربين من العشيرة في بيت النبي ( ص ) ولا تحكي عن شئ آخر ( 2 ) .
ثانيا : تخبر عن صعود النبي ( ص ) على جبل الصفا ، وخطبته العامة
‹ صفحة 304 › تأخرت إلى بعد فتح مكة . على جبل الصفا فقد روى الإمام الصادق ان الرسول ( ص ) عندما فتح مكة ، قام على جبل الصفا وقال : يا بني هاشم وأولاد عبد المطلب ! أنا رحيم بكم وشفوق ، لا تقولوا محمد منا ، والله ليس أقربائي منكم ومن غيركم سوى المتقين ، لا تكونوا ممن يأتون يوم القيامة حاملين الدنيا على عواتقهم ، ويأتي الآخرون حاملين الآخرة معهم ، اعلموا أني لم أدع أي عذر بيني وبينكم ، ولا بين الله تعالى وبينكم ، ولي عملي ولكم عملكم ( 1 ) .
لقد كان ينوي الرسول الكريم ( ص ) من هذه الخطبة البليغة توجيه أقربائه أن لا يتجهوا إلى الدنيا اعتمادا على قدرة النبي ( ص ) بعد أن انتصر على أهل مكة وأصبح حاكما في الواقع على جزيرة العرب ، وأن عليهم أن يعرفوا أساس القربى والرابطة بالنبي ( ص ) الذي يرتبط بالتقوى وحسب ، وهذا لا ينسجم مع حب الدنيا ونهب ثروات الناس ، وأن لا يفكروا كسائر الحكام الدنيويين ، ولا يقولوا ان في مثل هذه الظروف التي يحكم فيها أحد أقربائهم ويقود المجتمع ، فلهم الحق في الوصول إلى القدرةوالثروة والراحة ، ويكون لهم السيادة الدنيوية والأخروية .