8 ـ في عصر الشيخ البحراني ( ت 1186 ه )
8 ـ في عصر الشيخ البحراني ( ت 1186 ه )
المحدث الشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم آل عصفور الدرازي البحراني .
قال أبو علي الحائري في ( منتهى المقال ) :
عالم فاضل ، متبحر ماهر متتبع ، محدث ورع ، عابد صدوق ، من أجلة مشايخنا وأفاضل علمائنا المتبحرين .
وقال الشيخ التستري في ( مقابس الأنوار ) : العالم العامل ، المحقق الكامل ، المحدث الفقيه ، المتكلم الوجيه ، خلاصة الأفاضل الكرام ، وعمدة الأماثل العظام ، الحاوي ، من الورع والتقوى أقصاهما ، ومن الزهد والعبادة أسناهما ، ومن الفضل والسعادة أعلاهما ، ومن المكارم والمزايا أغلاهما ، الزكي النقي التقي . . .
____________
(43) بحار الأنوار 42 / 259 .
(82)
وقال المولى شفيع في ( الروضة البهية ) : من أجلاء هذه الطائفة ، كثير العلم ، حسن التصانيف ، نقي الكلام ، بصير بالأخبار المروية عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين . . . وكان ثقة ورعا عابدا زاهدا . . . من فحول العلماء الأجلة .
وقال هو عن كتابه ( الدرر النجفية ) : كتاب لم يعمل مثله في فنه ، مشتمل على تحقيقات رائقة ، وأبحاث فائقة .
وقال الحائري في ( منتهى المقال ) : كتاب جيد جدا ، مشتمل على علوم ومسائل ، وفوائد ورسائل ، جامع لتحقيقات شريفة ، وتدقيقات لطيفة (44).
فقد أورد في كتابه ( الدرر النجفية ) هذا الاعتراض ، وأجاب عنه بالتفصيل ، نورد ما يناسب ذكره هنا ، قال :
درة نجفية :
قد كثر السؤال من جملة من الاخلاء الأعلام ، والأجلاء الكرام عن الوجه في رضا الأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وإعطائهم بأيديهم لما أوقعه بهم مخالفوهم من القتل بالسيف أو السم ؟
حيث إنهم عالمون بذلك ، لما استفاضت به الأخبار من أن الإمام عليه السلام يعلم انقضاء أجله ، وأنه هل يموت بموت حتف أنفه ، أو بالقتل أو بالسم !
وحينئذ ، فقبوله ذلك ، وعدم تحرزه من الامتناع ، يستلزم الالقاء باليد إلى التهلكة ، مع أن الالقاء باليد إلى التهلكة محرم نصا ، قرآنا ، وسنة !
وقد أكثر المسؤولون من الأجوبة في هذا الباب ، بل ربما أطنبوا فيه أي
____________
(44) اعتمدنا في نقل هذه الكلمات على مقدمة ( الحدائق الناضرة ) بقلم الحجة المحقق السيد الطباطبائي .
(83)
إطناب بوجوه لا يخلو أكثرها من الايراد ، ولا تنطبق على المقصود والمراد .
وحيث إن بعض الأخوان العظام ، والخلان الكرام سألني عن ذلك في هذه الأيام ، رأيت أن أكتب في المقام ما استفدته من أخبارهم عليهم الصلاة والسلام .
فأقول : ـ وبالله الثقة لإدراك المأمول وبلوغ كل مسؤول ـ :
يجب أن يعلم :
أولا : أن التحليل والتحريم توقيفية من الشارع عز شأنه ، فما وافق أمره ورضاه فهو حلال ، وما خالفهما فهو حرام .
وليس للعقل ـ فضلا عن الوهم ـ مسرح في ذلك القمام .
وثانيا : أن مجرد الالقاء باليد إلى التهلكة ـ على إطلاقه ـ غير محرم ، وإن أشعر ظاهر الآية بذلك ، إلا أنه يجب تقييده وتخصيصه بما قام الدليل على جوازه .
وذلك : فإن الجهاد متضمن للإلقاء باليد إلى التهلكة ، مع أنه واجب ، نصا وإجماعا .
وكذلك الدفاع عن النفس ، والأهل ، والمال .
ومثله ـ أيضا ـ وجوب الاعطاء باليد إلى القصاص ، وإقامة الحد عليه ، متى استوجبه .
وثالثا : إنهم صلوات الله عليهم في جميع أحوالهم وما يتعلق بمبدئهم ومآلهم يجرون على ما اختارته لهم الأقدار السبحانية ، ورضيته لهم الأقضية الربانية .
فكل ما علموا أنه مختار له تعالى بالنسبة إليهم ـ وإن اشتمل على غاية الضرر والبؤس ـ ترشفوه ـ ولو ببذل المهج والنفوس ـ .
إذا تقررت هذه المقدمات الثلاث ، فنقول : إن رضاهم صلوات الله عليهم بما ينزل بهم ، من القتل بالسيف والسم ، وكذا ما يقع بهم من الهوان
(84)
والظلم على أيدي أعدائهم ، مع كونهم عالمين به ، وقادرين على دفعه ، إنما هو لما علموه من كونه مرضيا له سبحانه وتعالى ، ومختارا له بالنسبة إليهم ، وموجبا للقرب من حضرة قدسه ، والجلوس على بساط أنسه .
وحينئذ ، فلا يكون من قبيل الالقاء باليد إلى التهلكة ، الذي حرمته الآية ، إذ هو ما اقترن بالنهي من الشارع نهي تحريم ، وهذا مما علم رضاه به واختياره له ، فهو على النقيض من ذلك .
ألا ترى أنه ربما نزل بهم شيء من تلك المحذورات قبل الوقت المعد ، والأجل المحدد ، فلا يصل إليهم منه شيء من الضرر ، ولا يتعقبه المحذور والخطر ؟ ! فربما امتنعوا منه ظاهرا ، وربما احتجبوا منه باطنا ، وربما دعوا الله سبحانه في رفعه فيرفعه عنهم ، وذلك لما علموا أنه غير مراد له سبحانه في حقهم ، ولا مقدر لهم .
وبالجملة : فإنهم صلوات الله عليهم يدورون مدار ما علموه من الأقضية والأقدار ، وما اختاره لهم القادر المختار .
ولا بأس بإيراد بعض الأخبار الواردة في هذا المضمار ليندفع بها الاستبعاد ، ويثبت بها المطلوب والمراد :
فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام ـ عطر الله مرقده ـ في ( الكافي ) بسنده عن الحسن بن الجهم ، قال : قلت للرضا عليه السلام : إن أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله ، والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي يقتل فيه ( إلى آخر الحديث الذي نقلناه سابقا ) (45) وأضاف بعده :
وحاصل سؤال السائل المذكور :
أنه مع علمه عليه السلام بوقوع القتل ، فلا يجوز له أن يعرض نفسه له ،
____________
(45) وهي الرواية التي نقلناها بنصها تحت عنوان ( في عصر الإمام الرضا عليه السلام ) عن الكافي 1 / 259 .
(85)
لأنه من قبيل الالقاء باليد إلى التهلكة ، الذي حرمه الشارع ؟ !
فأجاب عليه السلام بما هذا تفصيله وبيانه :
أنه ـ وإن كان الأمر كما ذكرت من علمه عليه السلام بذلك ـ لكنه ليس من قبيل الالقاء باليد إلى التهلكة الذي هو محرم ، لأنه عليه السلام خير في تلك الليلة بين لقاء الله تعالى على تلك الحال ، أو البقاء في الدنيا ، فاختار عليه السلام اللقاء على الوجه المذكور ، لما علم أنه مختار ، ومرضي له ، عند ذي الجلال .
كما يدل عليه قوله عليه السلام ، لما ضربه اللعين ابن ملجم ـ الملجم بلجام جهنم وعليه ما يستحقه ـ : ( فزت ورب الكعبة ) .
وهذا معنى قوله : ( لتمضي مقادير الله تعالى ) يعني : أنه سبحانه قدر وقضى في الأزل أنه عليه السلام لا يخرج من الدنيا إلا على هذه الحال ، باختياره ورضاه بها .
ومن ذلك ما رواه في الكتاب المذكور عن عبد الملك بن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام ( وذكر الحديث الثامن الذي رواه الكليني (46)) .
ومن ذلك ما رواه ـ أيضا ـ عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال فيه :
فقال له حمران : جعلت فداك ، أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام ، وخروجهم ، وقيامهم بدين الله عز ذكره ، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إياهم ، والظفر بهم حتى قتلوا وغلبوا ؟ !
فقال أبو جعفر عليه السلام : يا حمران ، إن الله تبارك وتعالى قد كان قدر ذلك عليهم ، وقضاه وأمضاه ، وحتمه ، على سبيل الاختيار ، ثم أجراه .
فبتقدم علمه إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام علي
____________
(46) الذي أوردناه سابقا في صفحة 35 .
(86)
والحسن والحسين ، وبعلم صمت من صمت منا .
ولو أنهم ـ يا حمران ـ حيث نزل بهم من أمر الله تعالى ، وإظهار الطواغيت عليهم سألوا الله تعالى أن يدفع عنهم ذلك ، وألحوا عليه في طلب إزالة تلك الطواغيت ، وذهاب ملكهم ، إذا لأجابهم ، ودفع ذلك عنهم .
ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم ، أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد .
وما كان ذلك الذي أصابهم ـ يا حمران ـ لذنب اقترفوه ، ولا لعقوبة معصية خالفوا الله فيها ، ولكن لمنازل ، وكرامة من الله أراد أن يبلغوها !
فلا تذهبن بك المذاهب فيهم (47).
أقول : وهو صريح في المطلوب ، على الوجه المحبوب (48).
ثم روى عدة أحاديث تدل على أنهم عليهم السلام امتنعوا من فعل ما يؤدي إلى قتلهم ، لكون ذلك في غير الأجل المحدد لموتهم ، ولم يختاروا ذلك إلا في الوقت المقدر ، حتى يكون اختيارهم موافقا للقضاء ورضا به .
ويبدو من المقدمة ( الأولى ) والمقدمة ( الثانية ) مما قدمهما على الجواب ، أنه يوافق المجلسي ـ رحمه الله ـ في كليهما .
ولعل لجوءه إلى هذه الأسلوب من جهة ميله إلى استبعاد تحكيم العقل في مثل هذه القضايا التي هي أمور خاصة ، وليست كليات وثوابت عامة حتى يمكن للعقل التدخل فيها ، كما أن ما ثبت من الشرع فيه حكم ، وجاء منه توقيف ، فليس للعقل إلا التسليم وترجيح المصلحة الشرعية على مدركاته .
وهذا ـ كما أشرنا سابقا ـ نتيجة لرد الفعل الذي استحوذ على علمائنا الأخباريين من التطرف الذي انغمر فيه بعض العقلانيين ، ممن قصرت يده عن
____________
(47) الكافي ـ الأصول ـ 1 / 261 ـ 262 .
( 48 ) الدرر النجفية : 84 ـ 86 بتصرف يسير .
(87)
علوم الشريعة ونصوصها ، فراح يجول ويصول في علوم الشريعة بجناح العقل وأدلته ، وبنى الدين أصولا وفروعا وموضوعات خارجية وأمورا واقعة ، وأحداثا تاريخية ، على مدركاته العقلية .
من أن من الواضح : أن الأمور التعبدية ، وكذا الموضوعات الخارجية ، وكل الأمور والحوادث ، والحقائق الشخصية ، وصفات الأئمة عليهم السلام ، وما صدر منهم . . . إلى غير ذلك من الأمور الخاصة ليست مسرحا للعقل ، وإنما طريقها الإثبات بالنقل .
والعقل النظري إنما يدرك المعقولات العامة التي ترتبط بالحقائق الكونية الثابتة ولذلك يجب أن تكون مدركة لجميع العقلاء ، ومقبولة لديهم ، لا خاصة بعقل طائفة دون أخرى ، ولا مبتنية على قضية دون أخرى .
أما العملي فهو يدرك حسن أمر أو قبح آخر ، ولا يستتبع عملا ، وإنما للعامل أن يراعي مصلحته ويوازن فيه ما يخصه بين ما يمسه وبين ما يدركه العقل ، فيرجح ما يناسبه .
فالانسحاب وراء الخيالات الخاصة بعنوان العقل ، كما يفعله أدعياء العقل ونقده ـ في عصرنا الحاضر ـ جهل بأبسط المسائل العقلية ، وهو مجال علمه
|