تكملة
قال ابن حجر في شرح الحديث بفتح الباري : " والكرائم جمع الكريمة أي نفيسة " ففيه ترك أخذ خيار المال والنكتة فيه أن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك ، الاجحاف بمال الأغنياء .
" واتق دعوة المظلوم : أي تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم " . " والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم " .
أخذ هؤلاء الزكاة لا ليردوها على فقرائهم في الحي ، بل ليبعثوا بها إلى سادة قريش في المدينة ، وعصوا أمر الرسول بأخذهم كرائم أموالهم ولم يتقوا دعوة المظلوم ، وأعلنوا - بسبب قلوص - حربا دونها حرب البسوس في الجاهلية ( ذ ) .
‹ صفحة 402 ›
وأعظم من كل ما فعلوا ، رميهم المسلمين بالردة ، وشاركهم المؤرخون في ذلك حتى اليوم . ونظير هذه الوقائع وأقسى منها ، وقيعة خالد بمالك بن نويرة ( ض ) .
قال ابن أعثم : ضرب خالد عسكره بأرض بني تميم ، وبث السرايا في البلاد يمنة ويسرة فوقعت سرية من تلك السرايا على مالك بن نويرة فإذا هو في حائط له ومعه امرأته وجماعة من بني عمه ، فلم يرع مالك إلا والخيل أحدقت به فأخذوه أسيرا ، وأخذوا امرأته معه - وكانت بها مسحة من جمال - وأخذوا كل من كان من بني عمه فأتوا بهم إلى خالد بن الوليد حتى أوقفوا بين يديه ، فأمر خالد بضرب أعناق بني عمه بديا .
فقال القوم : إنا مسلمون فعلى ماذا تأمر بقتلنا ؟ !
قال خالد : والله لأقتلنكم !
فقال له شيخ منهم : أليس قد نهاكم أبو بكر أن تقتلوا من صلى للقبلة ؟ ! فقال خالد بلى !
قد أمرنا بذلك ، ولكنكم لم تصلوا ساعة قط ! ‹ صفحة 403 ›
قال : فوثب أبو قتادة إلى خالد فقال : أشهد أنك لا سبيل لك عليهم .
قال خالد : وكيف ذلك ؟ !
قال : لأني كنت في السرية التي قد وافتهم فلما نظروا إلينا ، قالوا : " من أين أنتم ؟ "
قلنا : نحن المسلمون ، فقالوا : " ونحن المسلمون " ثم أذنا وصلينا فصلوا معنا . فقال خالد : صدقت يا أبا قتادة ، إن كانوا قد صلوا معكم فقد منعوا الزكاة التي تجب عليهم ، ولابد من قتلهم . قال : فرفع شيخ منهم صوته وتكلم فلم يلتفت خالد إليه ، وإلى مقالته فقدمهم وضرب أعناقهم عن آخرهم .
قال : وكان أبو قتادة قد عاهد الله أنه لا يشهد مع خالد بن الوليد مشهدا أبدا بعد ذلك اليوم .
قال : ثم قدم خالد مالك بن نويرة ليضرب عنقه ، فقال مالك : أتقتلني وأنا مسلم أصلي إلى القبلة !
فقال له خالد : لو كنت مسلما لما منعت الزكاة ، ولا أمرت قومك بمنعها .
والله ما نلت ما في مثابتك حتى أقتلك .
قال : فالتفت مالك بن نويرة إلى امرأته فنظر إليها ثم قال : يا خالد !
بهذه قتلتني !
فقال خالد : بل الله قتلك برجوعك عن دين الاسلام ، وجفلك لابل الصدقة ، وأمرك لقومك بحبس ما يجب عليهم من زكاة أموالهم .
‹ صفحة 404 ›
ثم قدمه فضرب عنقه صبرا .
فيقال إن خالد بن الوليد : تزوج بامرأة مالك ودخل بها وعلى ذلك أجمع أهل العلم ! يبغت جيش أبي بكر جمعا من المسلمين الذين لم يشهروا سيفا ولم يعلنوا حربا !
بل أعلنوا إسلامهم مرة بعد أخرى ، وصلوا معهم ، أخذوهم أسارى وضربوا أعناقهم صبرا بتهمة امتناعهم من دفع الزكاة ليروا هل يدفعونها أم يمتنعون !
ويتهم مالك خالدا بأنه يقتله من أجل زوجته ويصدق خالد قوله بزواجه من امرأة مالك بعد قتله !
أهذه حروب من أجل ارتداد هؤلاء عن الاسلام ، أم من أجل زوجة مالك ؟ !
أم من أجل قلوص لم يرض المصدق تبديلها ؟ !
أم من أجل توقفهم عن بيعة أبي بكر ، وامتناعهم من دفع الزكاة إليه ؟ !
وكيف ما كان الامر ، فإن وصف هذه الحروب بالردة منذ عصر الصحابة وإلى اليوم ، بالإضافة إلى ما رواه سيف واختلق باسم حروب الردة . كل ذلك بمجموعه يدل على أن الاسلام لم يكن متمكنا في قلوب المسلمين ، وأن القبائل المسلمة في الجزيرة العربية خرجت من الاسلام أفواجا ، وأنها أعيدت إلى الاسلام بقوة السيف ! كما أن ما رواه سيف عن الفتح يري أن الجيوش الاسلامية
‹ صفحة 405 › قتلت مئات الألوف من أبناء الأمم المجاورة حتى خضعت للاسلام في حين أن الواقع كان خلاف ذلك وأن الأمم كانت تساعد المسلمين على حكامهم ، كما وقع ذلك من أهل حمص وغيرهم من أهالي المدن الشامية مع الروم .
قال البلاذري : إنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ، ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا : شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم .
فقال أهل حمص : لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ! ونهض اليهود فقالوا : والتوراة !
لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد . فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود .
قال : فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين ، فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين ( ظ ) فلعبوا وأدوا الخراج .
ووقع نظير ذلك في سواد العراق من قبل الدهاقين ( غ ) مع الفرس ‹ صفحة 406 ›
قال الحموي : وكان الدهاقين ناصحوا المسلمين ودلوهم على عورات فارس وأهدوا لهم وأقاموا لهم الأسواق ، ثم توجه سعد نحو المدائن إلى يزدجرد - إلى قوله - فلم يجد معابر ، فدلوه على مخاضة عند قرية الصيادين أسفل المدائن فأخاضوها الخيل حتى عبروا وهرب يزدجرد .
هكذا يجد الباحث خلال النصوص التاريخية الصحيحة أدلة على استقبال الأمم للمسلمين وإعانتهم على حكامهم ، وأن القتال كان بين المسلمين والحكام المتسلطين على الشعوب ، غير أن المدونات التاريخية بعد سيف رجعت جلها إلى روايات سيف ، وفي روايات سيف يجد القارئ أن الجيوش الاسلامية أبادت بشرا كثيرا ، وهدمت مدنا ، خلافا للواقع الذي كان ، مثل ما ذكر في فتوح العراق .
قال سيف : إن المسلمين أبادوا الجيش الفارسي في غزوة ذات السلاسل .
في حين أن هذه المعركة لم تقع بتاتا ، ولم تقع معركة الثني في العراق ، ولا معركة المذار فيها ، ولا الولجة ، ولا أليس ، ولا أمغيشيا ، بل لم توجد مدينة أمغيشيا التي قال سيف :
إن المسلمين هدموها ، وكذلك لم تقع معركة يوم المقر ، وفم فرات بادقلي .
ولم يقع كثير غيرهن من معارك مع الفرس والروم والتي ذكرها سيف في فتوحه .
‹ صفحة 407 ›
تفرد سيف بذكر جميعها ، وكذب في كل ما ذكر عنها ، وخاصة في ما وصف من قتل المسلمين مئات الألوف من أبناء سائر الأمم في تلك الحروب .
وكان نتيجة انتشار رواياته أن ينتشر الاعتقاد بأن الاسلام انتشر بالسيف ، فيقول أمثال المستشرق ( أجناس جولت تسهير ) : " وجدت أمام أعيننا رقعة فسيحة كبيرة للاسلام ، جاوزت الوطن ( آ ) وقد فتحت بقوة السيف " .
ويقول عن الحاكمين : " هؤلاء الحاكمون المتجهون إلى الدنيا كانوا أكثر اهتماما بالأنظمة القانونية الدينية التي تقوي من شأن الدولة والتي تدعو إلى الاستيلاء على ما فتحوه بالسيف من أجل الجنس العربي " ( با ) .
وقال بوليدور فيرجيل : إن الاسلام انتشر بحد السيف وشيوعية المرأة ( * ) .
لم يقتصر ضرر روايات سيف على هذا فحسب ، بل نشر أساطير كثيرة دس بواسطتها الخرافات في عقائد المسلمين ، مثل : أسطورة تناول خالد سم ساعة دون أن يؤثر فيه . وأسطورة تهدم دور حمص بتكبيرتين من المسلمين . . 283 . 279 . pp . cit . or . norman . danial ( * )
‹ صفحة 408 ›
وأسطورة فتح السوس بدق الدجال بابها برجله وقوله : إنفتح بظار .
وأسطورة إخبار شيطان الأسود المتنبي الكذاب الأسود بالغيب ، وقيامه بأعمال خارقة شبيهة بمعجزات الأنبياء .
وكذلك شوش على المسلمين تاريخهم في ما حرف من أسماء وصحف مثل : تصحيفه اسم ( عبد المسيح بن عمرو ) مفاوض خالد في صلح الحيرة إلى ( عمرو بن عبد المسيح ) .
واسمي ( معاوية وعمرو بن العاص ) في حديث لعن النبي إياهما إلى ( معاوية بن رافع وعمرو بن رفاعة ) .
واسم ( عبد الرحمن بن ملجم ) - قاتل الامام - في رواياته عن السبئيين إلى ( خالد بن ملجم ) .
ومن أنواع التحريف عند سيف اختلاق أشخاص إسطوريين وتسميتهم بأسماء أشخاص وجدوا حقيقة مثل : إختلاقه ( خزيمة بن ثابت الأنصاري ) الذي زعمه غير ذي الشهادتين ، مرادفا لاسم ( خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ) .
و ( سماك بن خرشة ) الذي زعمه غير أبي دجانة مرادفا لاسم ( سماك بن خرشة أبي دجانة ) .
و ( وبرة بن يحنس الخزاعي ) مرادفا لاسم الصحابي ( وبر بن يحنس الكلبي ) .
هذا بالإضافة إلى اختلاقه كثيرا من الأسماء ارتجالا ليجعلهم ‹ صفحة 409 › أبطالا لأساطيره ، وقد مر في هذا الكتاب من مختلقاته من الصحابة :
الأسود بن قطبة ، وأعبد بن فدكي ، وحميضة بن النعمان ، وثمامة بن أوس بن لام الطائي ، وشخريت ، وطاهر بن أبي هالة ، وعاصم بن عمرو الأسيدي ، وعثمان بن ربيعة الثقفي ، وعصمة بن عبد الله ، والقعقاع بن عمرو بن مالك العمري ، ونافع بن الأسود التميمي ، ومهلهل بن زيد بن لام الطائي .
ومن الصحابة الرواة : ظفر بن دهي ، وعبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري السلمي ، وأبو الزهراء القشيري . ومن الصحابة الشعراء : زياد بن حنظلة التميمي ، وضريس القيسي . ومن الرواة غير الصحابة : بحر بن فرات العجلي ، وحبيب بن ربيعة الأسدي ، وحنظلة ابن زياد بن حنظلة ، وزياد بن سرجس الأحمري ، وسهل بن يوسف بن سهل الأنصاري السلمي ، وعبد الرحمن بن سياه الأحمري ، وعبد الله بن سعيد بن ثابت بن الجذع الأنصاري ، وعروة بن غزية الدثيني ، وعمارة بن فلان الأسدي ، والغصن بن القاسم الكناني ، ومحمد بن نويرة بن عبد الله ، والمستنير بن يزيد والمقطع بن هيثم البكائي ، والمهلب بن عقبة ، ويزيد بن أسيد الغساني .
‹ صفحة 410 ›
ومن الشعراء غير الصحابة : الخطيل بن أوس . ومن الأماكن : أبرق الربذة ، والأخابث ، والأعلاب ، وجيروت ، والحمقتين ، ورياضة الروضات ، وذات الخيم ، وسنح في بلاد طي ، والصبرات ، وظهور الشحر ، واللبان ، والمر ، ونضدون ، وينعب . ومن قادة الفرس : الاندرزغر ، وأنوشجان ، ويهمن جاذويه ، وقارن بن قريانس ، وقباذ وكثير غيرهم . ومن قادة الروم : أرطبون - أدهى الروم ، وغير هؤلاء .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 401 ›
( ذ ) قيل : إنها حرب وقعت بين بني بكر وبني تغلب من آل وائل بسبب ناقة قتلت ويضرب بها المثل - راجع نهاية الإرب ( 413 ) الحرب الأولى من حروب أيام العرب ، والأغاني 1 / 139 .
‹ هامش ص 402 ›
( ض ) أوردنا في الجزء الأول من هذا الكتاب تفصيل قصته ، وكيف حرفها سيف . غير أنا لم نورد هناك رواية ابن أعثم ولهذا أوردناها هنا .
‹ هامش ص 405 ›
( ظ ) قلس القوم بتشديد اللام : استقبلوا الولاة عند قدومهم بضرب الدفوف والغناء وأصناف اللهو .
( غ ) الدهقان : التاجر ورئيس الإقليم .
‹ هامش ص 407 ›
( آ ) يقصد الوطن العربي . ( با ) وهذا الفهم الخاطئ عن الفتوح - أيضا - انتشر من روايات سيف ، فإنه صور تلك الحروب على شكل حروب من أجل غلبة العنصر العربي .
تم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
|