تكملة
قال الطبري : وانحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة ، وضرب رجل من الشرطة عبد الله بن خليفة الطائي بعمود فصرعه وهو يرتجز : قد علمت يوم الهياج خلتي * أني إذا ما فئتي تولت وكثرت عداتها أو قلت * أني قتال غداة بلت وخرج أصحاب حجر من تلقاء أبواب كندة فركب حجر وانتهى إلى داره واجتمع ناس كثير من أصحابه ولم يأته من كندة كثير أحد ، وقاتلوا دون حجر فقال لهم حجر : لا أبالكم ، تفرقوا لا تقاتلوا فإني آخذ في بعض السكك ثم آخذ طريقا نحو بني حرب ، فسار حتى انتهى إلى دار رجل منهم يقال له سليم بن يزيد فدخل داره ، وجاء القوم في طلبه حتى انتهوا إلى تلك الدار فأخذ سليم سيفه ثم ذهب ليخرج إليهم ، فبكت بناته . ‹ صفحة 280 › فقال له حجر : ما تريد ؟ !
قال : أريد والله [ أن ] أسألهم أن ينصرفوا عنك ، فإن فعلوا وإلا ضاربتهم بسيفي هذا ما ثبت قائمه في يدي دونك !
قال حجر : لا أبا لغيرك ، بئس ما دخلت به إذا على بناتك . قال : إني والله ما أمونهن ولا أرزقهن ، إن هو إلا على الحي الذي لا يموت ، ولا أشتري العار بشئ أبدا ، ولا تخرج من داري أسيرا أبدا وأنا حي أملك قائم سيفي ، فإن قتلت دونك ، فاصنع ما بدا لك ! قال حجر : أما في دارك هذه حائط أقتحمه ، أو خوخة أخرج منها عسى أن يسلمني الله عز وجل منهم ، ويسلمك ، فإذا القوم لم يقدروا علي عندك لم يضروك . قال : بلى !
هذه خوخة تخرجك إلى دور بني العنبر وإلى غيرهم من قومك ، فخرج حتى انتهى إلى النخع ، وأقبل إلى دار عبد الله بن الحارث أخي الأشتر ، فأحسن لقاءه ، فبينما هو عنده إذ أتي فقيل له : إن الشرط تسأل عنك في النخع ، وذلك أن أمه سوداء لقيتهم فقالت : من تطلبون ؟
فقالوا : حجر بن عدي ، فقالت : هو في النخع ، فانصرفوا نحو النخع . فخرج من عند عبد الله متنكرا ، وركب معه عبد الله بن الحارث ليلا حتى أتى دار ربيعة بن ناجد الأزدي في الأزد ، فنزلها يوما وليلة ، فلما أعجزهم أن يقدروا عليه ، دعا زياد بمحمد بن الأشعث فقال له : يا أبا ميثاء ! أما والله لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها ، ولا دارا إلا هدمتها ، ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إربا إربا ! قال : أمهلني حتى أطلبه .
قال : قد أمهلتك ثلاثا ، فإن جئت به ، وإلا عد نفسك مع الهلكى . ‹ صفحة 281 ›
وأخرج محمد نحو السجن منتقع اللون يتل تلا عنيفا ، فقال حجر ابن يزيد الكندي لزياد : ضمنيه وخل سبيله يطلب صاحبه فإنه مخلى سربه أحرى أن يقدر عليه منه إذا كان محبوسا ! فقال : أتضمنه ؟ ! قال : نعم .
قال : أما والله لئن حاص عنك لأزيرنك شعوب ( ق ) وإن كنت الآن علي كريما .
قال : إنه لا يفعل . فخلى سبيله ، وأحضر قيس بن يزيد أسيرا ، فقال له : إني قد علمت أنك لم تقاتل مع حجر الا حمية ، قد غفرتها لك لما أعلم من حسن رأيك وحسن بلائك - كان مع معاوية في صفين - ولكن لن أدعك حتى تأتيني بأخيك عمير . قال : أجيئك به إن شاء الله . قال : فهات من يضمنه لي معك . قال : هذا حجر بن يزيد يضمنه لك معي .
قال حجر بن يزيد : نعم أضمنه لك على أن تؤمنه على ماله ودمه .
قال : ذلك لك . فانطلقا فأتيا به وهو جريح ، فأمر به فأوقر حديدا ثم أخذته الرجال ترفعه حتى إذا بلغ سورها ألقوه فوقع على الأرض ، ثم رفعوه وألقوه ففعلوا به ذلك مرارا ، فقام إليه حجر بن يزيد ، فقال : ألم تؤمنه على ماله ودمه ‹ صفحة 282 › أصلحك الله ؟ !
قال : بلى قد آمنته على ماله ودمه ، ولست أهريق له دما ولا آخذ له مالا ! قال : أصلحك الله ! يشفى به على الموت ، ودنا منه ، وقام من كان عنده من أهل اليمن ( ر ) فدنوا منه وكلموه .
فقال : أتضمنونه لي بنفسه فمتى ما أحدث حدثا أتيتموني به ؟ ! قالوا : نعم . فخلى سبيله .
ومكث حجر بن عدي في منزل ربيعة الأزدي يوما وليلة ثم بعث إلى محمد بن الأشعث : إنه قد بلغني ما استقبلك به هذا الجبار العنيد ، فلا يهولنك شئ من أمره ، فإني خارج إليك ، إجمع نفرا من قومك ثم ادخل عليه فاسأله أن يؤمنني حتى يبعث بي إلى معاوية فيرى في رأيه .
فخرج ابن الأشعث إلى حجر بن يزيد وإلى جرير بن عبد الله وإلى عبد الله بن الحارث أخي الأشتر فأتاهم فدخلوا إلى زياد فكلموه وطلبوا منه أن يؤمنه حتى يبعث به إلى معاوية فيرى فيه رأيه ففعل ، فبعثوا إليه يعلمونه أن قد أخذنا الذي تسأل ، وأمروه أن يأتي . فأقبل حتى دخل على زياد . فقال زياد : مرحبا بك أبا عبد الرحمن ! حرب في أيام الحرب ، وحرب وقد سالم الناس ، على أهلها تجني براقش ! ( ش ) .
‹ صفحة 283 ›
قال : ما خالعت طاعة ، ولا فارقت جماعة ، وإني لعلى بيعتي !
فقال : هيهات ! هيهات يا حجر !
تشج بيد وتأسوا بأخرى وتريد إذا أمكن الله منك أن نرضى ، كلا والله .
قال : ألم تؤمني حتى آتي معاوية فيرى في رأيه ؟ !
قال : بلى ! قد فعلنا ، انطلقوا به إلى السجن ، فلما قفي به من عنده ، قال زياد : أما والله لولا أمانة ما برح أو يلفظ مهجة نفسه . وقال زياد : والله لأحرصن على قطع خيط رقبته .
ولما قفي بحجر من عند زياد نادى بأعلى صوته : اللهم !
إني على بيعتي ! لا أقيلها ولا أستقيلها !
سماع الله والناس ، وكان عليه برنس في غداة باردة ، فحبس عشر ليال وزياد ليس له عمل إلا طلب رؤساء أصحاب حجر . وخرج عمرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حتى أتيا أرض الموصل فأتيا جبلا فكمنا فيه ، وبلغ عامل الرستاق أن رجلين قد كمنا في جانب الجبل ، فاستنكر شأنهما ، فسار إليهما في الخيل فلما انتهى إليهما خرجا . فأما عمرو بن الحمق فكان قد استسقى بطنه ( ت ) ولم يكن عنده امتناع ، وأما رفاعة فكان شابا قويا فركب فرسه ليقاتل عن عمرو ، فقال له عمرو : ما ينفعني قتالك ، أنج بنفسك .
فحمل عليهم فأفرجوا له فنجا ، وأخذ عمرو أسيرا ، فسألوا : من أنت ؟
فقال : من إن تركتموه كان أسلم لكم . وإن قتلتموه كان أضر ‹ صفحة 284 › عليكم .
ولم يخبرهم ، فبعثوا به إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عبد الله ابن عثمان الثقفي الذي يعرف بابن أم الحكم وهو ابن أخت معاوية ، فعرفه ، فكتب فيه إلى معاوية .
فكتب إليه : إنه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات بمشاقص ( ث ) كانت معه وإنا لا نريد أن نعتدي عليه ، فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان ( خ ) فمات في الأولى منهن أو في الثانية . وعمرو بن الحمق ( ذ ) هذا كان قد هاجر إلى النبي بعد الحديبية وصحبه وحفظ عنه أحاديث ، وسقى النبي فقال : " اللهم أمتعه بشبابه " فمرت عليه ثمانون سنة لا ترى في لحيته شعرة بيضاء .
وكان ممن سار إلى عثمان وهو أحد الأربعة الذين دخلوا عليه ‹ صفحة 285 › الدار ، وصار بعد ذلك من شيعة علي وشهد مشاهده كلها : الجمل وصفين والنهروان . وأعان حجر بن عدي وكان من أصحابه وخاف من زياد فهرب منه إلى الموصل .
وقطع عامل الموصل رأسه فبعث به زياد إلى معاوية ، وكان أول رأس حمل في الاسلام من بلد إلى بلد . فبعث به معاوية إلى زوجته آمنة بن الشريد في السجن وكان قد حبسها معاوية في سجن دمشق زمانا حتى وجه إليها رأس عمرو بن الحمق فألقي في حجرها فارتاعت لذلك ثم وضعته في حجرها ووضعت كفها على جبينه ثم لثمت فاه ، ثم قالت : " غيبتموه عني طويلا ثم أهديتموه إلي قتيلا ، فأهلا به من هدية غير قالية ولا مقلية " وكان قتله سنة خمسين . وروى الطبري وقال : وجه زياد في طلب أصحاب حجر فأخذوا يهربون منه ويأخذ من قدر عليه منهم . قال : وجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له : إن امرءا منا من بني همام يقال له صيفي بن فسيل من رؤوس أصحاب حجر وهو أشد الناس عليك ! فبعث إليه زياد فأتي به . فقال له زياد : يا عدو الله ! ما تقول في أبي تراب ؟ !
قال : ما أعرف أبا تراب ! قال : ما أعرفك به ! ‹ صفحة 286 › قال : ما أعرفه ! قال : أما تعرف علي بن أبي طالب ؟ ! قال : بلى ! قال : فذاك أبو تراب ! قال : كلا !
ذاك أبو الحسن والحسين عليه السلام ! فقال له صاحب الشرطة : يقول لك الأمير : " هو أبو تراب " وتقول أنت : لا ! قال : وإن كذب الأمير ، أتريد أن أكذب وأشهد له على باطل كما شهد ؟ ! قال له زياد : وهذا - أيضا - مع ذنبك ! علي بالعصا ، فأتي بها . فقال : ما قولك ؟ !
قال : أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين !
قال : اضربوا . عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض . فضرب حتى لزم الأرض . ثم قال : أقلعوا عنه ، إيه ! ما قولك في علي ؟ !
قال : والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ، ما قلت إلا ما سمعته مني !
قال : لتلعننه أو لأضربن عنقك ! قال : إذا تضربها والله قبل ذلك ! فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بالله وشقيت أنت !
قال : ادفعوا في رقبته !
ثم قال : أوقروه حديدا وألقوه في السجن ! ثم بعث إلى عبد الله بن خليفة الطائي - وكان شهد مع حجر ‹ صفحة 287 › وقاتلهم قتالا شديدا - فبعث إليه زياد بكير بن حمران الأحمري ( ض ) - وكان تبيع العمال - فبعثه في أناس من أصحابه فأقبلوا في طلبه فوجدوه في مسجد عدي بن حاتم فأخرجوه ، فلما أرادوا أن يذهبوا به - وكان عزيز النفس - امتنع منهم ، فحاربهم وقاتلهم فشجوه ورموه بالحجارة حتى سقط ، فنادت ميثاء أخته : يا معشر طئ !
أتسلمون ابن خليفة لسانكم وسنانكم ؟ !
فلما سمع الأحمري نداءها خشي أن تجتمع طئ ، فيهلك فهرب ، وخرج نسوة من طئ فأدخلنه دارا ، وانطلق الأحمري حتى أتى زيادا فقال : إن طيئا اجتمعت إلي فلم أطقهم فأتيتك ، فبعث زياد إلى عدي وكان في المسجد فحبسه ، وقال : جئني به .
فقال عدي : كيف آتيك برجل قد قتله القوم ؟ !
قال : جئني به حتى أرى أن قد قتلوه .
فاعتل له وقال : لا أدري أين هو ، ولا ما فعل . فحبسه ، فلم يبق رجل من أهل المصر ومن أهل اليمن وربيعة ومضر إلا فزع لعدي ، فأتوا زيادا فكلموه فيه . فأرسل عبد الله بن خليفة إلى عدي : إن شئت أن أخرج حتى أضع يدي في يدك فعلت ، فبعث إليه عدي : والله إن كنت تحت قدمي ما رفعتهما عنك . فدعا زياد عديا ، فقال له : إني أخلي سبيلك على أن تنفيه إلى جبلي طئ قال : نعم .
فأرسل عدي إلى عبد الله أن اخرج فإذا سكن غضبه كلمته فيك .
‹ صفحة 288 ›
فخرج .
وأتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي ( ظ ) فقال : ما اسمك ؟
قال : أنا كريم بن عفيف . قال : ويحك ! أو ويلك ! ما أحسن اسمك واسم أبيك ، وأسوأ عملك ورأيك ! قال : أما والله إن عهدي برأيك لمنذ قريب .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 281 ›
( ق ) شعوب : اسم علم للمنية .
‹ هامش ص 282 ›
( ر ) يقصد القبائل السبائية من أهل اليمن .
( ش ) يضرب في المثل قيل اسم كلبه سمعت وقع حوافر دواب فنبحت فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم ، وقيل غير ذلك . راجع لغة برقش من التاج .
‹ هامش ص 283 ›
( ت ) ماء يجتمع في البطن من علة معروفة يعرف بالاستسقاء .
‹ هامش ص 284 ›
( ث ) المشاقص : جمع المشقص بالكسر نصل عريض يرمى به الوحش . ( خ ) في الاستيعاب ( 2 / 478 ) بترجمة عثمان بن عفان : " واختلف في من باشر قتله بنفسه - أي قتل عثمان - فقيل : محمد بن أبي بكر ضربه بمشقص ، وقيل : بل حبسه محمد بن أبي بكر وأسعده غيره وكان الذي قتله سودان بن حمران ، وقيل : بل إن محمد بن أبي بكر أخذ بلحيته فهزها ، وقال : ما أغنى عنك معاوية ، وما أغنى عنك ابن أبي سرح ، وما أغنى عنك ابن عامر ، فقال له : يا ابن أخي ! أرسل لحيتي فوالله إنك لتجبذ لحية كانت تعز على أبيك ، وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني . فيقال : إنه حينئذ تركه وخرج عنه . ويقال : إنه حينئذ أشار إلى من كان معه فطعنه أحدهم وقتلوه " .
( ذ ) أخذنا هذه الترجمة من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة ، وقصة بعث رأس عمرو إلى زوجته من أسد الغابة خاصة .
‹ هامش ص 287 ›
( ض ) الأحمري والحمراء : العجم يقال لهم ذلك لبياض لونهم .
تم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
|