الإجارة على الواجبات :
الإجارة على الواجبات :
بحث الفقهاء في صحة الإجارة على
الواجبات وعدمها ، ولأجل أن يتضح
الموضوع جيدا لا بد من تحديد محل
الخلاف بينهم فنقول :
إن البحث عن صحة الإجارة على
الواجبات يمكن فرضه في موردين :
الأول - أن يستأجر الشخص لإتيان
واجبات نفسه كأن يستأجره ليصلي أو
يصوم أو يحج عن نفسه أو يزيل النجاسة
عن المسجد أو يقضي أو يفتي ليسقط
الواجب الكفائي عن نفسه .
وهذا هو القسم المهم في بحث
الإجارة على الواجبات ، لابتلائه
بالإشكالات العديدة .
الثاني - أن يستأجر الشخص لإتيان
واجبات شخص آخر ، كأن يستأجر ليحج
عن الغير أو يصلي أو يصوم أو يزيل
النجاسة أو غير ذلك .
وهذا القسم وإن كان مهما أيضا في
حد نفسه ، لكن لم يكن موردا للمناقشة
- كثيرا - كالقسم الأول ، بل يندرج تحت
عنوان النيابة التي يمكن دفع كثير من
الإشكالات بها .
أما :
القسم الأول - وهو استئجار الشخص
لإتيان واجباته :
فلا بد من الإشارة إلى أن البحث
- هنا - إنما يتم ويصح مع ملاحظة بعض
الأمور ، وهي :
‹ صفحة 246 ›
1 - ينبغي أن لا يكون الفعل
الواجب مطلوبا على نحو المجانية كالأذان
والقضاء والإفتاء وأمثال ذلك - كما قيل -
فإنه إذا كان كذلك فلا يكون موردا
للإجارة ( 1 ) .
2 - ينبغي ألا يكون حقا للغير على
المكلفين ك " تجهيز الميت " - على ما قيل -
فإن المستفاد من الأدلة - حسبما يقال - هو
أن للميت حقا على الأحياء ، وهو تجهيزه
بما فيه من التغسيل والتكفين والتدفين ( 2 ) .
3 - يرى بعض الفقهاء أنه يلزم أن
يكون العمل المستأجر عليه ذا منفعة عائدة
إلى المستأجر بنحو ما ، فلا يصح إجارة
الشخص لإتيان الصلاة الواجبة عليه من
دون فرض منفعة عائدة إلى المستأجر ( 3 ) .
بينما لا يرى السيد الخوئي ذلك ( 4 ) .
4 - إن مورد البحث هو أخذ الأجرة
على طبيعي الواجب لا الخصوصية ، فإنه
- لا إشكال ظاهرا - في جواز الأجرة
عليها ، فلو أخذ الشخص الأجرة ليصلي
صلاة صبحه في المسجد فلا بأس به ( 1 )
الآن وبعد أن اتضحت هذه الأمور
نرى ما هي الأقوال في المسألة .
اختلفت الأقوال في المسألة اختلافا
شديدا وعمدتها هي :
1 - عدم الجواز مطلقا : وقد نسب
ذلك إلى المشهور ( 2 ) .
2 - التفصيل بين التعبدي فلا يجوز ،
والتوصلي فيجوز ، وهو منسوب إلى فخر
المحققين ( 3 ) .
3 - التفصيل بين الكفائي التوصلي
فيجوز وبين غيره فلا يجوز ، وقد حكاه
الشيخ عن فخر المحققين في الإيضاح
أيضا ( 4 ) .
4 - التفصيل بين ما يجب على
الأجير عينا أو كفاية وجوبا ذاتيا فلا
يجوز ، وبين الواجبات الكفائية التوصلية
‹ صفحة 247 ›
فيجوز كالصناعات الواجبة لانتظام
المعاش ، وهذا القول محكي عن صاحب
الرياض في رياضه ( المتاجر ) ويبدو من
الإمام الخميني اختياره ( 1 ) .
5 - التفصيل بين ما كان الغرض
الأهم منه الآخرة فلا يجوز وما كان
الغرض الأهم منه الدنيا فيجوز ، فجعل من
أمثلة القسم الأول : الفقاهة والأمر
بالمعروف وتجهيز الموتى والطبابة وإغاثة
المستغيثين ، ومن أمثلة الثاني : الحياكة
والصناعة والتجارة . . . ذهب إليه صاحب
مفتاح الكرامة ( 2 ) .
6 - عدم الجواز في التعبدي مطلقا ،
والتفصيل في التوصلي بين الكفائي فيجوز
مطلقا والعيني فيجوز فيما كان وجوبه
للضرورة ، ولا يجوز فيما كان لحفظ النظام .
وهذا القول منسوب إلى صاحب
المصابيح ( 3 ) .
7 - عدم الجواز في العيني التعييني
والكفائي التعبدي . والجواز في الكفائي
التوصلي والتخييري . والتردد في التخييري
التعبدي .
وهو مختار الشيخ الأعظم في
المكاسب ( 1 ) .
8 - عدم الجواز في الواجبات
العبادية إذا كان الفاعل يفعلها عن نفسه
( كصلاة الظهر ) وجواز ذلك في العبادات
التي يفعلها لغيره ( كإزالة النجاسة عن
المسجد ) بشرط قبولها للنيابة ، وجواز ذلك
أيضا في غير العبادات .
وهو مختار السيد الحكيم في
المستمسك ( 2 ) .
9 - جواز أخذ الأجرة مطلقا ، ذهب
إليه السيد الخوئي ( 3 ) .
المؤاخذات على القول بالجواز :
أهم المؤاخذات على القول بالجواز
هي :
الأولى - منافاة أخذ الأجرة على
العبادات مع توقفها على قصد الأمر ، فإن
‹ صفحة 248 ›
الواجب العبادي يحتاج إلى قصد القربة في
حين أن عقد الإجارة يوجب انقلاب
داعي قصد القربة إلى داعي أخذ الأجرة ،
وهو مستلزم لفساد العبادة ، فصحة
الإجارة - إذن - تستلزم فساد العبادة .
وأجيب عن ذلك :
1 - باختصاص هذا التعليل
بالواجبات العبادية فلا يشمل التوصلية ،
لعدم اشتراط قصد القربة فيها .
2 - اطراد الإشكال في المستحبات
العبادية مع أن الكثير منهم يلتزم بصحة
الإجارة فيها .
3 - منع المنافاة - عند كثير منهم - إذا
كانت الأجرة ملحوظة بنحو الداعي إلى
الداعي ( 1 ) .
4 - أن قصد القربة الخالصة المحضة
قد لا تحصل إلا في المعصومين عليهم السلام
وأما بالنسبة إلى غيرهم فقد يكون لجلب
منفعة دنيوية كقضاء حاجة ، أو دفع ضرر
دنيوي كدفع البلاء ، أو جلب منفعة أو دفع
ضرر أخرويين كطلب الجنة والبعد عن
النار ، ومن المعلوم أن ذلك لا يضر بعبادية
العبادة ، فمن يصلي طلبا لحاجة دنيوية
( كالمال مثلا ) لا تكون صلاته باطلة ، ولعله
إلى هذا أشار بقوله تعالى : ( وادعوه خوفا
وطمعا ) ( 1 ) و ( يدعوننا رغبا ورهبا ) ( 2 ) .
إذن فالغرض من العبادة - غالبا -
هو انتفاع العبد ، ولا يضر ذلك بعبادية
العبادة ( 3 ) .
الثانية - والمؤاخذة الثانية المهمة
هي : أن الفعل الواجب يكون بوجوبه
مستحقا لله تعالى وملكا له ، وما كان للغير
لا يجوز تمليكه لله تعالى .
وقد سجلت هذه المؤاخذة من
الشيخ كاشف الغطاء في شرحه على
القواعد .
ولكن نوقشت : بأن ملكية الله
تعالى للواجبات لا تخلو من صور ، وهي :
1 - أن تكون ملكية حقيقية
وتكوينية وهي المعبر عنها بالملكية
الاشراقية ، وفي هذه الصورة لا تختص
الواجبات بذلك ، بل كل ما في الوجود
ومنها أفعال الإنسان المتصفة بالأحكام
‹ صفحة 249 ›
الخمسة ( الواجب والحرام والمباح . . . )
تكون ملكا له ، وهذه الملكية لا تنافي
ملكية الإنسان أيضا لأنهما طوليتان ،
فملكية الإنسان في طول ملكية الله .
2 - أو ملكية اعتبارية ، فهي واضحة
الفساد ، فليس لله تعالى ملكية اعتبارية
للأشياء .
3 - أو بمعنى أن له إلزام المكلف بإتيان
الواجبات واستحقاق العقاب على المخالفة ،
فهذا لا يمنع من إمكان تمليك العمل
الواجب للغير ودعوى المنافاة مصادرة ( 1 ) .
القسم الثاني - الاستئجار على إتيان
الواجب عن الغير :
ولا بد من الالتفات - هنا - إلى نقطة
هامة وهي : أن إتيان العبادات الواجبة
وجوبا عينيا عن الغير لا يصح فرضه إلا
إذا كان الغير ميتا ، أو في بعض صور الحج
كمن ثبت الوجوب عليه ولم يحج وهو
عاجز فعلا عن السفر ، أو كمن أفسد
طوافه ورجع إلى بلاده ، وأمثال ذلك من
الموارد المعدودة .
وأما غير العبادية ( التوصلية ) سواء
كانت كفائية أو عينية فيمكن فرض
إتيانهما عن الغير مطلقا ، وذلك مثل
الاستئجار للجهاد من قبل الغير ( المستأجر
أو غيره ) أو إزالة النجاسة كذلك ، فيمكن
فرض الاستئجار فيه عن الحي أيضا .
وبعد اتضاح هذه النقطة نقول :
إن البحث عن الإجارة لإتيان
الواجب عن الغير يدخل في عنوان
" النيابة " وسوف يأتي البحث عنه مستوفى
إن شاء الله ( راجع : النيابة ) ، ولكن نشير
هنا إلى ذلك إجمالا فنقول :
1 - أما بالنسبة إلى الواجبات
العبادية فأهم إشكال يتوجه على مسألة
النيابة هو مسألة قصد القربة ، فالذين
يستشكلون في النيابة يقولون : كيف يجتمع
قصد النائب الإتيان بالفعل قربة إلى الله
مع قصده لإتيانه بداعي الأجرة ؟ ولذلك
قالوا بصحة تبرع الصلاة والصوم وغيرها
من العباديات عن الميت ، وعدم صحة
الاستئجار عليها ( 1 ) .
والحل المعروف للإشكال هو : أن
‹ صفحة 250 ›
الإجارة إنما تقع على أن يجعل الأجير
نفسه نائبا عن المنوب عنه وفي محله ، وهذا
العمل لا يحتاج في تحققه إلى قصد القربة ،
بل بمجرد أن ينوي الشخص أن يصير
نائبا عن الشخص الآخر تتحقق النيابة ،
نعم إن متعلق النيابة - وهو الفعل العبادي
حسب الفرض - يحتاج إلى قصد القربة فهو
بعد فراغه عن جعل نفسه نائبا ولو بداعي
الأجرة ينوي إتيان الفعل بداعي القربة ،
ولا منافاة بينهما ( 1 ) .
وبتوجيه آخر : إن عمل النيابة
يمكن أن يقع مع قصد القربة - امتثالا
للأوامر الواردة في النيابة عن الأموات بل
الأحياء في بعض الأحيان - كما يمكن أن
يقع من دون ذلك إما غفلة عن تلك
الأوامر ، أو لعدم الاعتناء بها ، فيصبح
الشخص نائبا عن غيره مع عدم قصد
القربة في أصل النيابة . ومن جهة أخرى
قد تجب النيابة بسبب الإجارة ، أي إن
هذا الأمر التبرعي قد يجب بسبب
الإجارة ، وعندئذ لا يخرج النائب عن
عهدته إلا بامتثال متعلق الإجارة وهو
إتيان الأمر العبادي بقصد القربة ، ولا
منافاة بين ذلك وبين أخذ الأجرة ( 1 ) .
وهناك تقريبات وتوجيهات أخر
لسنا بصدد التعرض لها فعلا .
2 - وأما بالنسبة إلى الواجبات
التوصلية ، فنقول : إن الواجب التوصلي
تارة يكون عينيا وتارة كفائيا .
فإذا كان توصليا عينيا فلا إشكال
ظاهرا في أخذ الأجرة عليه ، كما إذا وجب
إزالة النجاسة عن الثوب مقدمة للصلاة
فيجوز استئجار شخص آخر لذلك .
ويشهد لذلك السيرة المتصلة بزمن
المعصومين عليهم السلام .
وأما إذا كان الواجب توصليا
كفائيا ، فإما أن يجب ذلك على الأجير
أيضا أو لا ؟ فإذا فرضنا عدم وجوبه
كفاية على الأجير فلا إشكال في استئجاره
عليه أيضا كما إذا وجب الجهاد على
القادرين - الواجدين للشرائط كالمركوب
والعتاد وأمثال ذلك - كفاية ، فكان الواجد
راغبا عن الذهاب فاستأجر من لا عتاد
ولا مركب له ، ودفع له ما يحتاج إليه ، فلا
‹ صفحة 251 ›
إشكال ظاهرا في صحة الاستئجار في هذه
الصورة أيضا ( 1 ) .
وأما إذا كان واجبا على المستأجر
والأجير - معا - كفاية ، فإن كان المستأجر
استأجره لإتيان الواجب من قبل نفس
الأجير فيدخل في القسم الأول ، وإن
استأجره لإتيان الواجب من قبله أي
المستأجر ، فيأتي فيه البحث ، وذلك كمن
استأجر شخصا آخر لإزالة النجاسة عن
المسجد في حين أنه كان واجبا كفائيا
بالنسبة إليهما معا ، أو كمن استؤجر للأمر
بالمعروف من قبل المستأجر في حين أنه
كان واجبا على الأجير أيضا .
والظاهر أنه لا إشكال في هذه
الصورة إلا الإشكال المتقدم في القسم
الأول وهو : أن الواجب بوجوبه يكون
ملكا لله تعالى ، وما كان كذلك فلا يمكن
تمليكه للغير ، وقد تقدم الجواب عنه
فراجع .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 246 ›
( 1 ) مصباح الفقاهة 1 : 461 .
( 2 ) المكاسب : 63 ، القضاء للمحقق الرشتي 1 :
86 .
( 3 ) المكاسب : 61 .
( 4 ) مصباح الفقاهة 1 : 461 .
( 1 ) مصباح الفقاهة 1 : 468 .
( 2 ) الجواهر 22 : 116 ، والمكاسب : 61
( الخامس مما يحرم التكسب به ) ، والمستمسك 6 :
227 .
( 3 ) مصباح الفقاهة 1 : 459 ، والمكاسب : 63 .
( 4 ) نفس المصدر .
‹ هامش ص 247 ›
( 1 ) الرياض 1 : 505 ، تحرير الوسيلة :
المكاسب المحرمة ، المسألة : 18 ، والإجارة ،
المسألة : 34 .
( 2 ) مفتاح الكرامة 4 : 92 ، 7 : 196 .
( 3 ) مصباح الفقاهة 1 : 460 .
( 1 ) المكاسب : 62 - 64 ، مصباح الفقاهة 1 :
460 .
( 2 ) المستمسك 6 : 229 .
( 3 ) مصباح الفقاهة 1 : 460 .
‹ هامش ص 248 ›
( 1 ) المستمسك 6 : 228 .
( 1 ) الأعراف : 56 .
( 2 ) الأنبياء : 90 .
( 3 ) مصباح الفقاهة 1 : 463 .
‹ هامش ص 249 ›
( 1 ) مستند العروة ( الإجارة ) : 375 ومصباح
الفقاهة 1 : 471 والمكاسب : 62 والمستمسك 6 :
228 .
( 1 ) القضاء ( للمحقق الرشتي ) 1 : 73 و 80 .
‹ هامش ص 250 ›
( 1 ) المكاسب : 65 ، القضاء 1 : 80 .
( 1 ) مصباح الفقاهة 1 : 475 نقلا عن المحقق
النائيني .
‹ هامش ص 251 ›
( 1 ) راجع الجواهر 21 : 31 .
تم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
|