الردة في عصر أبي بكر :
الردة في عصر أبي بكر :
انتشر خبر موت النبي في الجزيرة العربية وسكانها العرب على قسمين : منهم من كان قد أسلم قبل ذلك ، ومنهم من بقي على دينه . أما غير المسلمين منهم فقد قويت شوكتهم وظهرت معارضتهم ، وأما المسلمون فإنهم تربصوا وتريثوا واشرأبت أعناق الجميع إلى المدينة يتنسمون أخبارها ، وإذا بهم يسمعون أن عاصمة الاسلام تغلي كالمرجل وتبلغهم أخبار " بيعة أبي بكر " وما جرى يومذاك بأوسع مما بلغنا بعد مئات السنين ، فيبلغهم تناحر أصحاب الرسول على البيعة وتأخر عامة بني هاشم - رهط النبي - وامتناع سعد رئيس الخزرج عنها إلى غير ذلك مما وقع عند ذاك .
ولذلك لم تعترف عشائر من عرب الجزيرة الذين كانوا قد أسلموا ببيعة كهذه ليرسلوا زكواتهم إلى المدينة .
ولهذا تخلف من تخلف من المسلمين عن تسليم زكواتهم إلى مدينة الرسول بعد وفاة الرسول ، وكان مرد ذلك إلى عدم الخضوع لأبي بكر والامتناع عن بيعته لا الامتناع عن أداء الزكاة وعن قبول الصلاة كما وصمهم من وصمهم بذلك ، وكان أمر هؤلاء الاعراب أهون على الخليفة وأتباعه من كبار الصحابة في المدينة ، والذين كانوا قد امتنعوا عن بيعة أبي بكر أيضا فحاربوا أولئك الاعراب وقتلوهم حتى لم يبق معارض لأبي بكر ولبيعته ، ثم توجهوا إلى حرب بقية المشركين والمتنبئين الذين كانوا منتشرين في الجزيرة العربية منذ عهد الرسول ، حتى إذا ما أبادوهم جميعا اتجهوا نحو الفتوحات . وقد سمى المؤرخون جميع الحروب التي وقعت بعد وفاة الرسول بين جيوش أبي بكر وعرب الجزيرة ب ( حروب الردة ) كما سموا جميع المخالفين لأبي بكر من الذين كانوا خارج المدينة ‹ صفحة 170 › ب ( المرتدين ) .
* * * قال الدكتور حسن في كتابه تاريخ الاسلام السياسي ص 251 : فلما انتقل الرسول إلى جوار ربه وتحققوا من ذلك ، شك فريق منهم في أمر هذا الدين الذي خلفه ، وأوجس غيرهم إن وليت قريش أو غيرها هذا الامر أن تجعله ملكا عضودا ( 1 ) فأخذوا يفكرون في موقفهم وينظرون إلى مصيرهم ، فرأوا أن هذا النبي الذي كان يقوم بالسفارة عن الله عز وجل ويبلغهم أمره ونهيه ويتمتع بالعصمة عن الخطأ والتنزه عن الزلل قد فارقهم إلى ربه ، وليس ثمة إنسان في العالم يتصف بهذه الصفات التي كانت الضمان الوحيد لمساواة القبائل بعضهم ببعض ، وجعل ( الناس كأسنان المشط ) .
فمن المحتمل أن يحكم من يحل محل هذا الرسول هواه وأهله وعشيرته في رقاب الناس ومصالحهم .
كما لا يبعد أن يعلي هذا المركز - الخلافة - من شأن القبيلة التي ينتمي إليها الخليفة وبغض من شأن غيرها من القبائل ، فيميل ميزان العدل بين الناس . ويفسر لنا هذا تسابق هذه القبائل والبطون عند وفاة الرسول على أن يكون هذا الامر لها دون غيرها .
فتكشف ما في الصدور وتجلت النفس العربية والطبيعة القبلية إذ ذاك .
فالأنصار يخافون قريشا والمهاجرين أن يستأثروا بالامر دونهم ، وهم فيما بينهم يتوجسون .
ويخشى كل من الأوس ‹ صفحة 171 › والخزرج صاحبه ( 1 ) ولم يكن الحال في مكة بأقل منه في المدينة ، فقد دب التنافس في هذا الامر بين بطون قريش .
فلما تم الامر لأبي بكر وجد عليه بنو هاشم وامتنع علي عن مبايعته أشهرا وسعى أبو سفيان بن حرب ليوغر صدر علي بن أبي طالب على أبي بكر الذي انتزع الخلافة من بني عبد مناف .
ولئن كان للمهاجرين من بني هاشم وغيرهم وللأنصار أو سهم وخزرجهم من القرابة لرسول الله ، أو الفضل والسبق في الاسلام ، أو النصر والايواء لدين الله والذود عنه ، لئن كان لهؤلاء وأولئك سبب من هذه الأسباب يدلون ويطمعون من أجله في الخلافة ، فإن القبائل العربية الأخرى لم تجد لنفسها من السابقة في الاسلام ولا من القرابة للرسول ما تعتز به ، وقد رأت المهاجرين والأنصار يتنازعون هذا الامر فيما بينهم ، فيقول المهاجرون منا الامراء ومنكم الوزراء " ويقول الأنصار :
" بل منا أمير ومنكم أمير " فيئست هذه القبائل وضاع أملها في الخلافة فأعلنت العصيان ، ورفض أكثرهم أن يخضعوا لسلطان أبي بكر وامتنعوا عن أداء الزكاة التي ظنوها أتاوة .
وقد اتخذ بعض المستشرقين ( 2 ) ارتداد بعض القبائل العربية عن الاسلام بعد وفاة الرسول دليلا على أن الاسلام قام بحد السيف وأن الخوف وحده هو الذي أدخل العرب في هذا الدين .
وفي الحق أن العرب الذين حاربهم أبو بكر وسموا مرتدين لم يكفروا ‹ صفحة 172 › بالاسلام ولم يرفضوه كما قد يتبادر إلى الذهن من تسميتهم مرتدين وإنما كانوا فريقين :
1 - فريق منع الزكاة فقط زاعما أنها أتاوة تدفع إلى الرسول ، فإذا انتقل الرسول إلى جوار ربه أصبحوا في حل من دفعها إلى خليفته ، وفي شأن هذا الفريق عارض عمر أبا بكر في حربهم محتجا بقوله عليه الصلاة والسلام : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله . فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله " .
2 - فريق ارتد ذووه عن الاسلام ولم يكونوا مسلمين حقا . ثم يقول بعد ذلك :
" وأما معاقبة الاسلام من ارتد عنه بالقتل فذلك أمر اقتضته سياسة الدولة أكثر من الحرص على إسلام هؤلاء ، على أن الاسلام شديد الحيطة في أمر المرتدين ، فهو لا يأخذهم في ذلك بالشبهة ولا يحكم فيهم بالضنة ، وإنما يمهل المرتد ثلاثة أيام يناقشه خلالها علماء المسلمين وفقهاؤهم فيما التبس عليه من أمر الدين وما عرض له من الشبهة في صحته ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة " .
وإلى القارئ طائفة من أقوال الأئمة في هذا الموضوع : قال أبو حنيفة : إذا ارتد المسلم عرض عليه الاسلام وأجل ثلاثة أيام ، لأن الظاهر أنه دخلت عليه شبهة ارتد لأجلها ، فعلينا إزالة تلك الشبهة ، أو هو يحتاج إلى التفكر ليتبين له الحق فلا يكون ذلك إلا بمهلة ، فإن استمهل كان على الامام أن يمهله ، ومدة النظر مقدرة بثلاثة أيام في الشرع كما في الخيار ( خيار الشرط وخيار الرؤية في البيوع ) فلهذا يمهله ثلاثة أيام ( 1 ) .
‹ صفحة 173 ›
ويقول بعض فقهاء المالكية ما نصه : " واستتيب المرتد وجوبا ولو عبدا أو امرأة ثلاثة أيام بلياليها من يوم الثبوت لا من يوم الكفر بلا جوع ولا عطش بل يطعم ويسقى من ماله وبلا معاقبة وإن لم يتب " ( 1 ) .
ويقول الإمام الشافعي : " ويجب استتابة المرتد ذكرا أو غيره لأنه كان محترما بالاسلام ، وربما عرضت له شبهة فتزال .
وقيل : يمهل ثلاثة أيام " . باب الردة في حاشية البجيرمي على شرح المنهج طبع بولاق سنة 1309 ه .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : من ارتد عن الاسلام من الرجال والنساء هو بالغ عاقل دعي إليه ثلاثة أيام ( كشاف القناع على متن الاقناع . طبع القاهرة سنة 1319 ه ج 4 ص 100 - 105 ) على أنه لا ينبغي أن يكفر مسلم يحتمل عمله أو قوله الكفر وعدمه إلا إذا كان التكفير بقوله أو عمله مجمعا عليه . وقد صرح العلماء بأنه لا يكفر مسلم بقول يحتمل الكفر من تسع وتسعين وجها ويحتمل الايمان من وجه واحد ، عن باب المرتد في حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ( ط مصر أأنت 1272 ه ) ص 283 - 292 - انتهى ما نقلناه ملخصا من كتاب تاريخ الاسلام السياسي للدكتور حسن إبراهيم حسن .
وقال ابن كثير في ج 6 ص 311 من تاريخه البداية والنهاية : وقد روى الجماعة في كتبهم سوى ابن ماجة عن أبي هريرة :
أن عمر ‹ صفحة 174 › ابن الخطاب قال لأبي بكر :
علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " ؟
فقال أبو بكر : والله لو منعوني عناقا ( 1 ) وفي رواية عقالا ، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعها ، إن الزكاة حق المال والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، قال عمر : فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .
وفي رواية الطبري ج 2 ص 474 : " وقد جاءته وفود العرب مرتدين يقرون بالصلاة ويمنعون الزكاة فلم يقبل ذلك منهم وردهم " . وقال ابن كثير أيضا في البداية والنهاية ج 6 ص 311 :
" وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة ويمنعون من أداء الزكاة ، ومنهم من امتنع من أداء الزكاة إلى الصديق " .
وأنشد بعضهم ( 2 ) :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فواعجبا ما بال ملك أبي بكر
وذكر بعده في ص 313 منه :
أيورثنا بكرا إذا مات بعده * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
وقد أورد الطبري البيتين عن طريق سيف ص 477 ، وروى في ج
‹ صفحة 175 › 2 ص 48 ( 1 ) منه عن أبي مخنف : " إن خيل طئ كانت تلقى خيل بني أسد وفزارة قبل قدوم خالد عليهم فيتشاتمون ولا يقتتلون فتقول أسد وفزارة :
لا والله لا نبايع أبا الفصيل ( 2 ) ابدا . فتقول لهم خيل طئ : اشهد ليقاتلنكم حتى تكنوه أبا الفحل الأكبر " ( 3 ) .
ومما ذكرنا يظهر للباحث المتتبع أن ما وصفوه بالردة في عصر أبي بكر لم يكن بالارتداد عن الاسلام ، وإنما كانت مخالفة لبيعة أبي بكر وامتناعا من دفع الزكاة إليه ، وبما أن المعارضين لبيعة أبي بكر من القبائل العربية قد غلبوا على أمرهم وبقي الحكم للغالب المتنفذ وأنصاره وأحفاده ، وأن الروايات التي بأيدينا عن حروبهم وما كانوا عليه جاءتنا عن طريق هؤلاء الغالبين فيلزمنا والحال هذه التثبت والتحري الدقيق عن صحة ما نسب إلى المعارضة المغلوبة على أمرها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 170 ›
( 1 ) هكذا ورد في الأصل والمشهور ( ملكا عضوضا ) وهو أنسب . لان الملك العضوض : الشديد الذي فيه عسف وعنف .
‹ هامش ص 171 ›
( 1 ) يؤيد هذا القول ما جرى في السقيفة ، راجع قبله : السقيفة وبيعة أبي بكر .
( 2 ) ك : ( فان فولتن ) المستشرق الألماني الشهير .
‹ هامش ص 172 ›
( 1 ) وعين في الهامش مصدره كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي ط القاهرة سنة 1324 ه جزء 10 ص 98 - 100 .
‹ هامش ص 173 ›
( 1 ) نقل ذلك عن باب الردة وأحكامها في الشرح الكبير للدرديري ( طبع بولاق سنة 1319 ) ج 4 ص 270 وحاشية الدسوقي ج 4 ص 267 . وراجع الأحكام السلطانية للماوردي . ط المصرية الأولى .
‹ هامش ص 174 ›
( 1 ) العناق : الأنثى من أولاد المعز قبل استكمالها الحول . ( 2 ) بهامش الأحكام السلطانية : إن القائل هو حارثة بن سراقة ، وفي منتهى الآمال للقمي ص 94 القائل : مالك بن نويرة .
‹ هامش ص 175 ›
( 1 ) وط أوروبا 1 / 1890 .
( 2 ) كانوا يكنونه أبا الفضيل غمزا به لان ( البكر ) هو الفتى من الإبل و ( الفصيل ) ولد الناقة إذا فصل عن أمه .
( 3 ) تقول أسد ، وفزارة لا نبايع أبا الفضيل أي ان أبا بكر أبو الفصيل . فتقول لهم طي : ان أبا بكر سيقاتلكم حتى تكنوه أبا الفحل الأكبر .
تم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
|