مناظرة هشام بن الحكم مع بيان وضرار في مجلس يحيى بن خالد
[ هشام وبيان مع ضرار ]
المناظرة الرابعة والعشرون
مناظرة هشام بن الحكم مع بيان وضرار في مجلس يحيى بن خالد
كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة ، يوم الأحد ، فيتناظرون في أديانهم ، ويحتج بعضهم على بعض .
فبلغ ذلك الرشيد ، فقال ليحيى بن خالد : يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون ؟
فقال : يا أمير المؤمنين ما شئ مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس ، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتج بعضهم على بعض ، ويعرف المحق منهم ، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم .
قال له الرشيد : فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس ، وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري ، فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم .
قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء . قال : فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري ، ففعل ، وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم ، وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في الإمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالإمامة .
قال : فحضروا وحضر هشام ، وحضر عبد الله بن يزيد الأباضي ‹ صفحة 146 › - وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم ، وكان يشاركه في التجارة - فلما دخل هشام سلم على عبد الله بن يزيد من بينهم .
فقال يحيى بن خالد لعبد الله بن يزيد : يا عبد الله كلم هشاما فيما اختلفتم فيه من الإمامة .
فقال هشام : أيها الوزير ليس لهم علينا جواب ولا مسألة ، هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة ، فلاحين كانوا معنا عرفوا الحق ، ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا ؟
فليس لهم علينا مسألة ولا جواب .
فقال بيان وكان من الحرورية : أنا أسألك يا هشام ، أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين أكانوا مؤمنين أم كافرين ؟
قال هشام : كانوا ثلاثة أصناف ، صنف مؤمنون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال .
فأما المؤمنون : فمن قال مثل قولي ، الذين قالوا :
إن عليا إمام من عند الله ومعاوية لا يصلح لها ، فآمنوا بما قال الله عز وجل في علي وأقروا به .
وأما المشركون : فقوم قالوا : علي إمام ، ومعاوية يصلح لها ، فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي .
وأما الضلال : فقوم خرجوا على الحمية والعصبية للقبائل والعشائر ، لم يعرفوا شيئا من هذا ، وهم جهال .
قال : وأصحاب معاوية ما كانوا ؟
قال : كانوا ثلاثة أصناف : صنف كافرون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال .
فأما الكافرون :
فالذين قالوا : إن معاوية إمام ، وعلي لا يصلح لها ، ‹ صفحة 147 › فكفروا من جهتين أن جحدوا إماما من الله ، ونصبوا إماما ليس من الله .
وأما المشركون فقوم قالوا : معاوية إمام ، وعلي يصلح لها ، فأشركوا معاوية مع علي - عليه السلام - .
وأما الضلال فعلى سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر .
فانقطع بيان عند ذلك .
فقال ضرار : فأنا أسألك يا هشام في هذا ؟
فقال هشام : أخطأت .
قال : ولم ؟
قال : لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي ، وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا الباب .
قال ضرار : فسل .
قال : أتقول إن الله عدل لا يجور ؟
قال : نعم ، هو عدل لا يجور ، تبارك وتعالى .
قال : فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد ، والجهاد في سبيل الله ، وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب ، أتراه كان عادلا أم جائرا ؟
قال ضرار : ما كان الله ليفعل ذلك .
قال هشام : قد علمنا أن الله لا يفعل ذلك ، ولكن على سبيل الجدل والخصومة ، أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا ؟
وكلفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه .
قال : لو فعل ذلك لكان جائرا .
قال : فأخبرني عن الله عز وجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه ‹ صفحة 148 › لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم ؟
قال : بلى . قال : فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين ؟
وكلفهم ما لا دليل على وجوده ؟ فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب ، والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد ؟
قال : فسكت ضرار ساعة ثم قال : لا بد من دليل ، وليس بصاحبك . قال : فضحك هشام وقال : تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة ، ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية .
قال ضرار : فإني أرجع إليك في هذا القول .
قال : هات .
قال ضرار : كيف تعقد الإمامة ؟
قال هشام : كما عقد الله النبوة .
قال : فإذا هو نبي ؟
قال هشام : لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء ، والإمامة يعقدها أهل الأرض ، فعقد النبوة بالملائكة ، وعقد الإمامة بالنبي ، والعقدان جميعا بإذن الله عز وجل .
قال : فما الدليل على ذلك ؟
قال هشام : الاضطرار في هذا .
قال ضرار : وكيف ذلك ؟
قال هشام : لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه : إما أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يكلفهم ولم يأمرهم ، ولم ينههم ، وصاروا ‹ صفحة 149 › بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها ، أفتقول هذا يا ضرار أن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله - ؟
قال : لا أقول هذا .
قال هشام : فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء ، في مثل حد الرسول في العلم ، حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم ، وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه أفتقول هذا ، أن الناس قد استحالوا علماء ، حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد ، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق ؟
قال : لا أقول هذا ، ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم .
قال : فبقي الوجه الثالث لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ، ولا يحيف ( 1 ) ، معصوم من الذنوب ، مبرأ من الخطايا ، يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد .
قال : فما الدليل عليه ؟
قال هشام : ثمان دلالات أربع في نعت نسبه ، وأربع في نعت نفسه .
فأما الأربع التي في نعت نسبه : بأن يكون معروف الجنس ، معروف القبيلة ، معروف البيت ، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة ، فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب ، الذين منهم صاحب الملة والدعوة ، الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فتصل دعوته إلى كل بر ‹ صفحة 150 › فتصل دعوته إلى بر وفاجر ، وعالم وجاهل ، ومقر ومنكر ، في شرق الأرض وغربها ، ولو جاز أن يكون الحجة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى علي الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده ، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا ، ولا يجوز هذا في حكم الله تبارك وتعالى وعدله ، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد .
فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة والدعوة ، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش ، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة ، ولما كثر أهل هذا البيت ، وتشاجروا في الإمامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم ، فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره .
وأما الأربع التي في نعت نفسه : أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه ، وأحكامه ، حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل ، وأن يكون معصوما من الذنوب كلها وأن يكون أشجع الناس ، وأن يكون أسخى الناس .
قال : من أين قلت : إنه أعلم الناس ؟
قال : لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه ، لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود ، فمن وجب عليه القطع حده ، ومن وجب عليه الحد قطعه ، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به ، فيكون من حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا . ‹ صفحة 151 ›
قال : فمن أين قلت : إنه معصوم من الذنوب ؟
قال : لأنه إن لم يكن معصوما من الذنوب ، دخل في الخطأ فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ، ويكتم على حميمه وقريبه ، ولا يحتج الله عز وجل بمثل هذا على خلقه .
قال : فمن أين قلت : إنه أشجع الناس ؟
قال : لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب ، وقال الله عز وجل :
( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ) ( 1 ) فإن لم يكن شجاعا فر فيبوء بغضب من الله ، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجة لله على خلقه .
قال : فمن أين قلت : إنه أسخى الناس ؟
قال : لأنه خازن المسلمين ، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها ، فكان خائنا ، ولا يجوز أن يحتج الله على خلقه بخائن .
فقال عند ذلك ضرار : فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت ؟
فقال : صاحب العصر أمير المؤمنين - وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله - .
فقال عند ذلك : أعطانا والله من جراب النورة ، ويحك يا جعفر - وكان جعفر بن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا ؟
قال : يا أمير المؤمنين يعني موسى بن جعفر .
قال : ما عنى بها غير أهلها ، ثم عض على شفته ، وقال :
مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة ؟ ! فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف ( 2 ) .
‹ هامش ص 149 ›
( 1 ) الحائف : الظالم ، الجائر .
‹ هامش ص 151 ›
( 1 ) سورة الأنفال : الآية 16 .
( 2 ) بحار الأنوار ج 48 ص 197 ح 7 ، كمال الدين وتمام النعمة ج 2 ص 362 بتفاوت .
تم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
|