مناظرة رجل من بني هاشم مع عمر بن عبد العزيز الأموي
العنوان:
[ هاشمي مع عمر بن عبد العزيز ]
المناظرة الحادية والعشرون
مناظرة رجل من بني هاشم مع عمر بن عبد العزيز الأموي ( 1 )
بينا عمر بن عبد العزيز جالسا في مجلسه ، دخل حاجبه ومعه امرأة أدماء ( 2 ) طويلة حسنة الجسم والقامة ، ورجلان متعلقان بها ، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر ، فدفعوا إليه الكتاب ، ففضه فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم : إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، من ميمون بن مهران ، سلام عليك ورحمة الله وبركاته ، أما بعد ، فإنه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور ، وعجزت عنه الأوساع ( 3 ) ، وهربنا بأنفسنا عنه ، ووكلناه إلى عالمه ، لقول الله عز وجل :
( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( 4 )
وهذه المرأة والرجلان أحدهما زوجها والآخر أبوها ، وإن أباها يا أمير المؤمنين زعم أن زوجها حلف بطلاقها أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خير ‹ صفحة 135 › هذه ( 1 ) الأمة وأولاها برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإنه يزعم أن ابنته طلقت منه ، وأنه لا يجوز له في دينه أن يتخذه صهرا ، وهو يعلم أنها حرام عليه كأمه ، وإن الزوج يقول له : كذبت وأثمت ، لقد بر قسمي ، وصدقت مقالتي ، وإنها امرأتي على رغم أنفك ، وغيظ قلبك ، فاجتمعوا إلي يختصمون في ذلك .
فسألت الرجل عن يمينه ،
فقال :
نعم ، قد كان ذلك ، وقد حلفت بطلاقها أن عليا خير هذه الأمة وأولاها برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، عرفه من عرفه ، وأنكره من أنكره ، فليغضب من غضب ، وليرض من رضي ، وتسامع الناس بذلك ، فاجتمعوا له ، وإن كانت الألسن مجتمعة فالقلوب شتى ، وقد علمت يا أمير المؤمنين اختلاف الناس في أهوائهم ، وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة ، فأحجمنا عن الحكم لتحكم بما أراك الله وإنهما تعلقا بها ، وأقسم أبوها ألا يدعها معه ، وأقسم زوجها ألا يفارقها ولو ضربت عنقه إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته والامتناع منه ، فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين ، أحسن الله توفيقك ( 1 ) كما نص على ذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله : ( علي خير من أتركه بعدي ) .
راجع مواقف الأيجي ج 3 ص 276 ، مجمع الزوائد ج 9 ص 113 ، الغدير للأميني ج 3 ص 22 ، وأيضا روى عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : ( علي خير البشر فمن أبي فقد كفر ) . راجع : كفاية الطالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 2 ص 444 ح 955 - 958 ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 246 ط اسلامبول وص 293 ط الحيدرية و ج 2 ص 71 ط العرفان صيدا ، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 ص 35 ، ميزان الاعتدال للذهبي ج 2 ص 271 ، كنوز الحقائق ص 98 ط بولاق ، إحقاق الحق للتستري ج 4 ص 254 ، تاريخ بغداد للخطيب ج 4 ص 154 و ج 7 ص 421 ، فرائد السمطين ج 1 ص 154 ح 1160 ، الغدير للأميني ج 3 ص 22 . ‹ صفحة 136 ›
وأرشدك ! وكتب في أسفل الكتاب :
إذا ما المشكلات وردن يوما * فحارت في تأملها العيون
وضاق القوم ذرعا عن نباها * فأنت لها أبا حفص أمين
لأنك قد حويت العلم طرا * وأحكمك التجارب والشئون
وخلفك الإله على الرعايا * فحظك فيهم الحظ الثمين
قال : فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية وأفخاذ قريش ، ثم قال لأبي المرأة : ما تقول أيها الشيخ ؟
قال : يا أمير المؤمنين ، هذا الرجل زوجته ابنتي ، وجهزتها إليه بأحسن ما يجهز به مثلها ، حتى إذا أملت خيره ، ورجوت صلاحه ، حلف بطلاقها كاذبا ، ثم أراد الإقامة معها .
فقال له عمر : يا شيخ ، لعله لم يطلق امرأته ، فكيف حلف ؟ قال الشيخ : سبحان الله ! الذي حلف عليه لأبين حنثا وأوضح كذبا من أن يختلج في صدري منه شك ، مع سني وعلمي ، لأنه زعم أن عليا خير هذه الأمة وإلا فامرأته طالق ثلاثا .
فقال للزوج : ما تقول ؟
أهكذا حلفت ؟ قال : نعم .
فقيل : إنه لما قال : نعم ، كاد المجلس يرتج بأهله ، وبنو أمية ينظرون إليه شزرا ، إلا أنهم لم ينطقوا بشئ ، كل ينظر إلى وجه عمر . فأكب عمر مليا ينكت الأرض بيده والقوم صامتون ينظرون ما يقوله ، ثم رفع رأسه وقال :
إذا ولي الحكومة بين قوم * أصاب الحق والتمس السدادا
‹ صفحة 137 ›
وما خير الإمام إذا تعدى * خلاف الحق واجتنب الرشادا
ثم قال للقوم : ما تقولون في يمين هذا الرجل ؟ فسكتوا .
فقال : سبحان الله ! قولوا .
فقال رجل من بني أمية :
هذا حكم في فرج ، ولسنا نجترئ على القول فيه ، وأنت عالم بالقول ، مؤتمن لهم وعليهم ، قل ما عندك ، فإن القول ما لم يكن يحق باطلا ويبطل حقا جائز علي في مجلسي . قال : لا أقول شيئا ، فالتفت إلى رجل من بني هاشم من ولد عقيل بن أبي طالب ،
فقال له : ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي ؟ فاغتنمها ،
فقال : يا أمير المؤمنين ، إن جعلت قولي حكما ، أو حكمي جائزا قلت ، وإن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي ، وأبقى للمودة .
قال : قل وقولك حكم ، وحكمك ماض .
فلما سمع ذلك بنو أمية قالوا :
ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين إذ جعلت الحكم إلى غيرنا ، ونحن من لحمتك وأولي رحمك !
فقال عمر : اسكتوا أعجزا ولؤما ! عرضت ذلك عليكم آنفا فما انتدبتم له .
قالوا : لأنك لم تعطنا ما أعطيت العقيلي ، ولا حكمتنا كما حكمته .
فقال عمر : إن كان أصاب وأخطأتم ، وحزم وعجزتم ، وأبصر وعميتم ، فما ذنب عمر ، لا أبا لكم ! أتدرون ما مثلكم ؟
قالوا : لا ندري .
قال : ليكن العقيلي يدري ، ثم قال : ما تقول يا رجل ؟
قال : نعم يا أمير المؤمنين ، كما قال الأول :
دعيتم إلى أمر فلما عجزتم * تناوله من لا يداخله عجز
‹ صفحة 138 ›
فلما رأيتم ذاك أبدت نفوسكم * نداما وهل يغني من الحذر الحرز
فقال عمر : أحسنت وأصبت ، فقل ما سألتك عنه .
قال : يا أمير المؤمنين ، بر قسمه ، ولم تطلق امرأته . قال : وأنى علمت ذاك ؟
قال : نشدتك الله يا أمير المؤمنين ، ألم تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال لفاطمة - عليها السلام - وهو عندها في بيتها عائد لها : يا بنية ، ما علتك ؟
قالت : الوعك يا أبتاه - وكان علي - عليه السلام - غائبا في بعض حوائج النبي - صلى الله عليه وآله - .
فقال لها : أتشتهين شيئا ؟
قالت : نعم أشتهي عنبا ، وأنا أعلم أنه عزيز ، وليس وقت عنب .
فقال - صلى الله عليه وآله - :
إن الله قادر على أن يجيئنا به ، ثم قال : اللهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلة .
فطرق علي الباب ، ودخل ومعه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه . فقال له النبي - صلى الله عليه وآله - :
ما هذا يا علي ؟
قال : عنب التمسته لفاطمة - عليها السلام - .
فقال : الله أكبر الله أكبر ، اللهم كما سررتني بأن خصصت عليا بدعوتي فاجعل فيه شفاء بنيتي ، ثم قال :
كلي على اسم الله يا بنية . فأكلت ، وما خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله - حتى استقلت وبرأت .
فقال عمر : صدقت وبررت ، أشهد لقد سمعته ووعيته ، يا رجل ، خذ بيد امرأتك فإن عرض بك أبوها فاهشم أنفه .
ثم قال : يا بني عبد ‹ صفحة 139 › مناف ، والله ما نجهل ما يعلم غيرنا ، ولا بنا عمى في ديننا ، ولكنا كما قال الأول :
تصيدت الدنيا رجالا بفخها * فلم يدركوا خيرا بل استقبحوا الشرا وأعماهم حب الغنى وأصمهم * فلم يدركوا إلا الخسارة والوزرا
قيل : فكأنما ألقم بني أمية حجرا ، ومضى الرجل بامرأته .
وكتب عمر إلى ميمون بن مهران : عليك سلام ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإني قد فهمت كتابك ، وورد الرجلان والمرأة ، وقد صدق الله يمين الزوج ، وأبر قسمه ، وأثبته على نكاحه ، فاستيقن ذلك ، واعمل عليه ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ( 1 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 134 ›
( 1 ) هو : أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ولي بعهد من سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشرة خلون من صفر سنة 99 ه ، وبقي واليا إلى أن مات يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رجب سنة 101 ه . انظر : تهذيب الكمال ج 21 ص 432 ، سير أعلام النبلاء : ج 5 ص 114 .
( 2 ) أدماء : جمع أدم ، وهو الأسمر .
( 3 ) الأوساع : جمع وسع ، وهو الطاقة .
( 4 ) سورة النساء الآية : 83 .
‹ هامش ص 139 ›
( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 222 .
تم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
|