النوع الثالث من أدلة القوم
: استدلالهم ببعض اعتبارات استحسانية قال ابن رشد
- بعد أن يئس من الأدلة النقلية على وجوب الغسل - : ( ولكن من طريق المعنى فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح ، كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل ، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل وينقىدنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب .
والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيها معنيين : معنى مصلحيا ومعنى عباديا . وأعني بالمصلحي : ما رجع إلى الأمور المحسوسة ، وبالعبادي : ما رجع إلى زكاة النفس ) ( 2 ) .
ونقول في جوابه:
لا يمكن لأحد من أهل العلم أن يلتزم بأن الأحكام الشرعية تستنبط من العقل وظنونه واحتمالاته ، حتى لو كان عقل فيلسوف كبير ، خاصة إذا قام برد آيات الله تعالى ، وتكثير الاحتمالات فيها للتخلص من ظاهرها . وإذا أراد أحد أن يوافق ابن رشد على تصوراته عن المعنى المصلحي والعبادي وعن الطهارة الحسية والمعنوية فعليه أن يرفض التيمم الذي هو طهارة شرعية بينما هو في الظاهر وضع غبار على الوجه واليدين .
وعلى ابن رشد ألا يقبل الطهارة بالاستجمار ، ويوجب الغسل وأن يوجب على أهل القرى طهارة أشد من أهل المدن ، وعلى العمال أكثر من الموظفين . . إلى آخره .
وأخيرا :
إن سماحة ابن رشد يستطيع أن يقول هذا الكلام لمن كان شأنه سدى ، وأمره هملا يختار لنفسه ما يشاء ويفعل ما يريد .
وأما من كان له رب وهو البارئ الكريم ، ونبي وهو الرسول العظيم وكتاب وهو القرآن الحكيم فكيف يترك جميع ذلك وراءه ظهريا ويتشبث باعتبارات وهمية وتأويلات مزخرفة ؟ إن المخلصين من عباد الله يفهمون بأنهم متعبدون بنصوص شرعية لا متحجرون على خيالات ‹ صفحة 73 › مذهبية .
ومن الاستدلالات الواهية التي استدل بها بعضهم على صحة الغسل ما ذكره الآلوسي بعد أن أراد أن يجعل وجوب الغسل من المسلمات ثم تنزل قائلا : ( لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية ، فالغسل يكفي عنه ، ولو كان هو الغسل فلا يكفي عنه . فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح ) .
وقد تمسك بهذا الكلام أكثر علمائهم ( 1 ) .
ونقول للآلوسي : إن قولك: ( فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح ) أول الكلام ، لأن الغسل والمسح أمران متغايران ، ولا يتحقق امتثال أحدهما بالآخر إلا إذا فرض أن حكم الله في المسح مطلق المسح كيفما حصل بلا حد ولا شرط ولو مع الغسل ، ولكن هيهات . وقد نقل بعضهم أن مديرا قال لخادمه : امسح طاولتي . فصب عليها الماء وغسلها ، فأنبه على فعله ، فقال له : أنتم تقولون : المسح والغسل سواء ، وقد غسلتها . فهل يلتزم الآلوسي بأن الغسل يحقق امتثال أمر المسح في مثل هذه الحالات ؟ .
الهامش
‹ هامش ص 73 ›
( 1 ) روح المعاني 6 : 70 ومفاتيح الغيب 6 : 165 وأحكام القرآن ( الجصاص ) 2 : 346 .