وفي الاستدلال بالخبر نظر من وجوه :
أولا : أن فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) - لو سلمنا بصحته - أعم من الوجوب .
وثانيا : عدم صراحة قوله : ( بماء غير فضل يده ) في تجديد الماء ، لاحتمال أن يكون المراد أنه أخذ البلل من لحيته أو من ذراعه .
وثالثا : خلو الأخبار البيانية للوضوء المروية حتى عن هذا الراوي وغيره من الصحابة ، وغيرها من الأخبار كخبر : " لا يتم صلاة أحدكم " ، وخبر : " لا يقبل الله صلاة أحدكم " عن التعرض لتجديد الماء للمسح ، مع تعرض بعضها لتجديده لغير المسح ، وعلمنا في الخارج بلزوم أخذ الماء للغسل ، لعدم إجزاء البلل له ، بخلاف المسح ، دليل على عدم وجوب تجديد الماء . ‹ صفحة 31 ›
ورابعا : وجود الاضطراب في خبر عبد الله بن زيد نفسه ، وإليك ما قاله شارح ( سنن الترمذي ) حول الخبر :
( عن عبد الله بن زيد : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) توضأ ، وأنه مسح رأسه بما غبر ( 1 ) فضل يده ) . وفي بعض النسخ : ( بماء غبر ) ، كذا في النسخة المطبوعة الموجودة عندنا وفي نسخة خطية عتيقة صحيحة : ( من فضل يديه ) بزيادة لفظة من ، وهو الظاهر .
والظاهر عندي :
أن ( من ) بيانية ، والمعنى : أنه لم يمسح رأسه بماء جديد ، بل مسح بما بقي على يديه ، أي ببقية من ماء يديه . وأما على النسخة المطبوعة ، فالظاهر أن ( فضل يديه ) - بالجر - بدل ( ما غبر ) ، ويجوز أن يكون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو فضل يديه . هذا كل ما عندي ) ( 2 ) .
فيكون مجموع النسخ في الخبر أربعا :
1 - النسخة الخطية القديمة الصحيحة : مسح رأسه بما غبر من فضل يديه .
2 - النسخة التي شرحها كما رأيتها : مسح رأسه بما غبر فضل يده .
3 - النسخة المطبوعة الموجودة عنده : مسح رأسه بماء غبر فضل يده .
4 - النسخة المطبوعة المتداولة الآن : مسح رأسه بماء غير فضل يديه .
فبناء على النسخ الثلاث الأول أنه مسح بما بقي في يده من نداوة الوضوء .
ويؤيده الأصل السالم عن المعارض في بعضها ، والأخبار الآتية في المسح ببلل الوضوء .
وأما بناء على النسخة الحالية الموجودة عندنا فهو أنه مسح رأسه بماء جديد .
إذا تدبر القارئ في هذا علم بأن التصحيف موجود في الخبر ، وهو كاف للتوقف عن الاستدلال به ، مضافا إلى الشك في تحريفه ، لأن التحريف والتبديل ‹ صفحة 32 › فيما يخالف المذهب الحاكم هو السنة الرائجة في الأزمان الخالية ، كما أنه هو السيرة الجارية في الأيام الحالية . وسواء كان ما وقع وهما من الرواة حين النقل ، أو سهوا من النساخ عند الطبع ، فهو كاف للتوقف في الاستدلال بالخبر .
الثاني : المسح بالبلل الباقي بعد الغسل لا المسح . هذا رأي بعض الحنفية ( 1 ) .
الثالث : المسح ببلل اليد ، ولا يأخذ البلل من غير اليد من الأعضاء . وهو قول أكثر الحنفية . يعللون بأن الماء يصير مستعملا بعد الانفصال ( 2 ) .
الرابع : المسح بالبلل الباقي على الأعضاء ، وجواز أخذ الماء الجديد إن لم يبق بلل . وهذا محكي عن بعض الحنفية ( 3 ) .
الخامس : جواز المسح بالبلل الباقي على الأعضاء على الكراهة ، وهذا قول بعض المالكية ( 4 ) .
السادس : المسح بالبلل الباقي على الأعضاء مطلقا . وهو مروي عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) [ أ ] وعثمان بن عفان [ ب ] وإبراهيم النخعي [ ج ] والحسن البصري [ د ] وعروة بن الزبير [ ه ] وسفيان الثوري [ و ] والأوزاعي [ ز ] وعطاء [ ح ] ورواية عن أحمد [ ط ] وحميد [ ي ] وعبد الملك [ ك ] وزفر [ ل ] ( 5 ) .
واستدل هؤلاء بما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عن ربيع بنت معوذ من أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) توضأ ومسح رأسه ببلل يده .
وفي لفظ آخر للدارقطني : فمسح رأسه بما فضل في يده من الماء .
‹ صفحة 33 › وفي لفظ أحمد : ومسح رأسه بما بقي من وضوئه في يده مرتين ( 1 ) .
وبما أخرجه ابن أبي شيبة ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، أنه كان يمسح رأسه بفضل وضوئه .
وما أخرجه عن أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، قال : " إذا توضأ الرجل فنسي أن يمسح برأسه ، فوجد في لحيته بللا أخذ من لحيته فمسح رأسه " ( 2 ) .
وما رواه الطبراني عن أبي الدرداء . . . توضأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومسح رأسه بفضل ذراعيه ( 3 ) .
وما روي عن أبي مالك الدمشقي أن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء ، فأذن للناس ، فدخلوا عليه ، فدعا بماء . . . ثم مسح مقدم رأسه بيده مرة واحدة ، ولم يستأنف له ماء جديدا ( 4 ) .
فهذه هي أدلة القائلين بالمسح ببلل الوضوء ، وحمل كل قائل منهم تلك الأخبار على رأيه . وحمل القول الرابع لفظة الترمذي الدالة على أنه ( صلى الله عليه وآله ) مسح رأسه بماء جديد في خبر عبد الله بن زيد ، على صورة عدم بقاء بلل الوضوء .
ولا يرد على هذا القول توقفية العبادة ، فإن الجواز لا يحتاج إلى دليل ، لأن العرف لا يأباه ، بل التضييق محتاج إليه ، فإذا لم يثبت دليل على المنع فالأصل هو الجواز . فتأمل .
نعم ، لم نقف في كتب القوم على أدلة مانعة ، إلا أنك رأيت فيما أوردناه من طرق أهل البيت ( عليهم السلام ) ما يدل على استئناف الوضوء في تلك الصورة وإن لم يكن حجة على الجمهور ، إلا إن الاحتياط في الدين مطلوب مهما أمكن .
ويرد على القول بعدم جواز أخذ البلل من غير اليد :
أولا : أن القول بلزوم ألا يكون الماء مستعملا أول الكلام .
‹ صفحة 34 ›
وثانيا : النقض بأخبار المسح ببلل اللحية ، والذراع .
ويرد على القول بالمسح بالبلل الباقي بعد الغسل دون المسح :
أولا : أن هذا الفرق يحتاج إلى حجة صادرة عن الشارع ، ولا حجة .