مناقشة أقوال عمر بن الخطاب
المناقشة الأولى :
يدافع الفخر الرازي في تفسيره الكبير عن قول عمر ( المذكور في ص 39 ) بهذه الصورة : فلم يبق إلا أن يقال : كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأنا أنهى لما ثبت عندي أنه ( صلى الله عليه وآله ) نسخها .
ويعتبر سكوت الصحابة دليلا على علمهم بالحرمة وإلا لزم تكفيرهم وتكفير عمر .
الجواب :
أولا : إن الصحابة كانوا عالمين بحلية المتعة وعدم نسخها في زمن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) . كما ذكرنا .
ثانيا : نحن نعلم أن بعض الصحابة استنكروا تحريم الخليفة حضورا أو غيابا في عهده أو بعده حتى ولو سكتوا في مجلسه ، أو أنهم اعترضوا ولكن لم يبلغنا ذلك .
المعترضون على حكم الخليفة من الصحابة
الف - أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ):
1 - قال علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) لعمر ( رض ) : أنهيت عن المتعة ؟ قال : لا ولكني أردت كثرة زيارة البيت ، قال : فقال علي ( رض ) : من أفرد الحج فحسن ومن تمتع فقد أخذ بكتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ( 1 ) . ‹ صفحة 166 ›
أقول :
يظهر من هذه الرواية أن عليا ( عليه السلام ) اعترض على نهي عمر عن المتعة ، ولما سمع توجيهه غير الشرعي قال : من أفرد الحج فحسن . وأعتقد أن هذه الجملة موضوعة ، بدليل قوله ( عليه السلام ) : ومن تمتع اخذ بكتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ولا شك أن عليا لم يكن ليرضى بحكم مخالف لكتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فكأن الراوي أراد أن يقول :
إنه لا إشكال في كلام عمر ، لأنه إن لم يكن موافقا لكتاب الله وسنة نبيه فهو غير مخالف لهما ، أو إن هذا النوع من المخالفة للشرع ليس أمرا مهما بدليل قبول علي لها ! إذ كيف يمكن ان يكون الأخذ بغير كتاب الله وسنة نبيه أمرا حسنا ؟ ! .
وقد اعترض علي ( عليه السلام ) على عثمان الذي حذا حذو عمر في تحريمه لمتعة الحج : ففي مسند أحمد ( 1 ) عن عبد الله بن الزبير قال : والله إنا لمع عثمان بن عفان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان ، وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج :
إن أتم للحج والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحج ، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل ، فإن الله تعالى قد وسع الخير .
وعلي بن أبي طالب في بطن الوادي يعلف بعيرا له ، فقال :
فبلغه الذي قال عثمان ، فأقبل حتى وقف على عثمان فقال : أعمدت إلى سنة سنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورخصة رخص الله تعالى بها للعباد في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار ؟ ! ثم أهل بحجة وعمرة معا . فأقبل عثمان على الناس فقال : وهل نهيت عنها ؟ !
إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه .
وفي موطأ مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن المقداد . . . . حتى دخل ( اي ‹ صفحة 167 › علي ) على عثمان بن عفان فقال : أنت تنهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة ؟
فقال عثمان ذلك رأيي ، فخرج علي مغضبا وهو يقول : لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا ( 1 ) .
وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند أحمد . . . . فقال علي : ألم أخبر أنك تنهى عن التمتع ؟ قال : بلى ، قال له ( اي عثمان ) علي : فلم تسمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تمتع ؟ قال : بلى ( 2 ) .
وفي ( صحيح مسلم ) و ( مسند أحمد ) و ( سنن البيهقي ) وغيرها واللفظ للأول ، عن شعبة عن قتادة عن عبد الله بن شقيق ، قال : كان عثمان ينهى عن المتعة وكان علي يأمر بها ، فقال عثمان لعلي كلمة ، ثم قال علي : لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أجل ، ولكنا كنا خائفين ! وفي رواية بمسند أحمد : فقال عثمان لعلي إنك كذا وكذا .
وفي رواية أخرى : فقال عثمان لعلي قولا ( 3 ) .
وفي آخر الرواية : قال شعبة فقلت لقتادة : ما كان خوفهم ؟ قال : لا أدري ( 4 ) . ‹ صفحة 168 › قال ابن كثير : ولست أدري على م يحمل هذا الخوف ، من أي جهة كان ؟ ( 1 ) .
وعن سعيد بن المسيب ، قال : اجتمع علي وعثمان بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة ، فقال علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه ؟ فقال عثمان : دعنا منك ! قال : لا أستطيع أن أدعك مني ، فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعا ( 2 ) .
وعن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلما رأى علي أهل بهما : لبيك بعمرة وحجة معا ، قال : ما كنت لأدع سنة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقول أحد . وفي لفظ النسائي . . . . فقال عثمان : أتفعلها وأنا أنهى عنها ؟ فقال علي : لم أكن لأدع سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأحد من الناس .
وفي أخرى : لقولك . قال ابن القيم بعد إيراد الأحاديث الآنفة : فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم ، وأن هذا هو الذي فعله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وقد وافقه عثمان أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعل ذلك لما قال له : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تنهى عنه .
لم يقل له .
لم يفعله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولولا أنه واقفه على ذلك لأنكره ، ثم قصد علي موافقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) والاقتداء به في ذلك وبيان أن فعله لم ينسخ فأهل بهما جميعا تقريرا للاقتداء به و متابعة للقرآن والسنة نهى عثمان متأولا . انتهى ( 3 ) .
وعلى الرغم من تشدد عثمان أنه فلقد كان علي ( عليه السلام ) يجاهر بمخالفته ، وذلك من ‹ صفحة 169 › أجل الدفاع عن كتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وبلغ من تشدد عثمان أنه ضرب وحلق من فعل ذلك .
فقد روى ابن حزم : أن عثمان سمع رجلا يهل بعمرة وحج فقال : علي بالمهل فضربه وحلقه ( 1 ) .
2 - قول علي المشهور :
لولا ما سبق من رأي ابن الخطاب لأمرت بالمتعة ثم ما زنى إلا شقي ( راجع ص 92 ) هذا الكلام منه ( عليه السلام ) هو بالواقع اعتراض واستنكار للخليفة الناهي عن المتعة ، والذي لو لم يكن نهيه عنها لما زنى إلا القليل من الناس الذين بلغوا الغاية القصوى من الشقاء ، ونهيه عنها أوجب فسح المجال للزنى ، وبذلك يتحمل أعباء هذا النهي .
ومن هنا نعلم أن المتعة رحمة إلهية تمنع من ارتكاب الفحشاء كما أنها من الطيبات التي بمنعها ترتكب الخبائث ، ورحمة الله هي التي حللت الطيبات لعباده و . . . .
ب - أبي بن كعب: أخرج أحمد بن حنبل في مسنده 5 / 143 وذكره الهيثمي في ( مجمع الزوائد 3 / 246 ) نقلا عن أحمد وقال : رجاله رجال الصحيح ، والسيوطي في " جمع الجوامع " كما في ترتيبه 3 / 33 نقلا عن أحمد وفي الدر المنثور 1 / 216 نقلا عن ( مسند ابن راهويه ) وأحمد ولفظه : إن عمر بن الخطاب هم أن ينهى عن متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب فقال : ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فنزل عمر . وفي ( زاد المعاد 1 / 220 ) : وقد تمتعنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلم ينه عنها ولم ينزل الله تعالى فيها نهيا ( 2 ) .
ج - سعد بن مالك: عن محمد بن عبد الله نوفل قال : سمعت عام حج معاوية يسأل سعد بن مالك كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحج ؟ قال : حسنة جميلة ، فقال : قد كان عمر ينهى عنها ، فأنت خير من عمر ؟ قال : عمر خير مني وقد فعل ذلك ‹ صفحة 170 › النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو خير من عمر ( 1 ) .
د - سعد بن أبي وقاص. عن محمد بن عبد الله : إنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى . فقال سعد : بئسما قلت يا ابن أخي . قال الضحاك . فان عمر بن الخطاب نهى عن ذلك . قال سعد : قد صنعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وصنعناها معه ( 2 ) .
ه - عبد الله بن عمر بن الخطاب. عن سالم قال : إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال ابن عمر : حسن جميل ، قال : فان أباك كان ينهى عنها . فقال : ويلك إفان كان أبي ينهى عنها وقد فعله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمر به ، أفبقول أبي أأخذ أم بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قم عني ( 3 ) . وفي ( صحيح الترمذي ) و ( زاد المعاد ) : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أأمر أبي تتبع أم أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . فقال ( اي عبد الله بن عمر ) : لقد صنعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( 4 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 164 ›
( 1 ) أخرجه النسائي في سننه 5 / 153 وتاريخ ابن كثير ولفظه ( وقد فعله النبي ) 5 / 122 قال ابن كثير : اسناده جيد ولم يخرجوه نقلا عن معالم المدرستين 2 / 214 . ( 2 ) نقله النووي في شرح صحيح مسلم 1 / 170 عن القاضي عياض . ( 3 ) تاريخ ابن كثير 5 / 141 . ( 4 ) المصدر السابق .
‹ هامش ص 165 ›
( 1 ) سنن البيهقي 5 / 21 نقلا عن معالم المدرستين 2 / 215 . ‹ هامش ص 166 › ( 1 ) مسند أحمد 1 / 92 حديث 707 وذخائر المواريث 416 نقلا عن معالم المدرستين 2 / 216 .
‹ هامش ص 167 ›
( 1 ) موطأ مالك ، الحديث 40 من باب القرآن في الحج : 336 وابن كثير 5 / 129 . ( 2 ) سنن النسائي 2 / 15 كتاب الحج باب التمتع ، ومسند أحمد 1 / 57 الحديث 402 ومستدرك الصحيحين 1 / 472 وتاريخ ابن كثير 5 / 126 و 129 . ( 3 ) هذا هو الأسلوب المتبع لإخفاء الحقائق . ( 4 ) صحيح مسلم الحديث 158 باب جواز التمتع من كتاب الحج ومسند أحمد 1 / 97 الحديث 756 والرواية الثانية في : 60 الحديث 431 ونظيره الحديث 432 بعده ، وسنن البيهقي 5 / 22 والمنتقى الحديث 2382 وراجع كنز العمال الطبعة الأولى 3 / 33 وشرح معاني الأخبار كتاب مناسك الحج : 380 و 381 وفي تاريخ ابن كثير 5 / 127 بايجاز وقال في 129 منه بعد ايراد الحديث : فهذا اعتراف من عثمان ( رض ) بما رواه علي . ومعلوم ان عليا ( رض ) أحرم في حجة الوداع باحلال النبي . نقلا عن معالم المدرستين 2 / 218 .
‹ هامش ص 168 ›
( 1 ) تاريخ ابن كثير 5 / 137 . ( 2 ) صحيح مسلم : 897 ، صحيح البخاري 1 / 190 باب التمتع والإقران ومسند الطيالسي 1 / 16 ومسند أحمد الحديث 1146 وسنن البيهقي 5 / 22 ومنحة المعبود 1 / 210 باب ما جاء في القرآن الحديث 1005 وراجع شرح معاني الآثار 1 / 371 وزاد المعاد 1 / 218 فصل في حجة بين الحج والعمرة وص : 220 ابن كثير 5 / 129 . ( 3 ) زاد المعاد 1 / 218 .
‹ هامش ص 169 ›
( 1 ) المحلى لابن حزم 7 / 107 . ( 2 ) نقلا عن الغدير 6 / 203 .
‹ هامش ص 170 ›
( 1 ) سنن الدارمي 2 / 35 . ( 2 ) الموطأ لمالك 1 / 148 كتاب الأم للشافعي 7 / 199 سنن النسائي 5 / 52 ، صحيح الترمذي 1 / 157 فقال : هذا حديث صحيح . أحكام القرآن للجصاص 1 / 335 ، سنن البيهقي 5 / 17 تفسير القرطبي 2 / 365 وقال هذا حديث صحيح ، زاد المعاد لابن القيم 1 / 84 وذكر تصحيح الترمذي له ، وغيرها نقلا عن الغدير 6 / 201 . ( 3 ) تفسير القرطبي 2 / 365 نقلا عن الدارقطني . ( 4 ) صحيح الترمذي 1 / 157 ، زاد المعاد 1 / 194 وفي هامش شرح المواهب للزرقاني 2 / 252 .