اتضح مما أسلفنا أن السجود منذ بدء تشريعه كان عبارة عن وضع الجبهة على الأرض ، وقد أوجب ذلك متاعب للمسلمين في الحر والبرد ، فشكوا إلى الرسول ( ص ) فلم يشكهم ولم يرخص في السجود على غير الأرض فعالجوا ذلك بأمور حتى سهل الله عليهم بترخيصهم بالسجود على نبات الأرض غير المأكول ولا الملبوس ونحن نذكر هنا بعض تلك الأمور فنقول : منها . ما مر من تبريدهم الحصى في أيديهم بتحويل الحصى من كف إلى كف أخرى حتى تبرد فيضعونها حينئذ ويسجدون عليها ومنها : تقليبهم الحصى ، فقد كانوا يقلبون الحصى في موضع سجودهم ظهرا وبطنا حتى يخرج منها ما كان غير حار أو ما لم يكن في مواجهة الشمس . وقد ذكر ذلك في الأحاديث ونهوا عن كثرة التقليب ، وإليك نبذا من النصوص في ذلك : ا - عن أبي ذر رحمه الله تعالى " لا تمسح الأرض إلا مسحة ‹ صفحة 82 › وأن تصبر عنها خير لك من مائة ناقة كلها سود الحدق " ( 1 ) . 2 - وعنه قال " سألت النبي ( ص ) عن كل شئ سألته عن مسح الحصى فقال : واحدة أو دع " ( 2 ) .
3 - عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال : مر أبو ذر وأنا أصلي فقال : إن الأرض لا تمسح إلا مسحة واحدة ( 3 ) .
4 - كان عبد الله بن زيد يسوي الحصى مرة واحدة إذا أراد أن يسجد ( 4 ) .
5 - سمع النبي ( ص ) رجلا يقلب الحصى في المسجد فلما انصرف قال : من الذي كان يقلب الحصى في الصلاة ؟ قال الرجل : أنا يا رسول الله ، قال : حطك من صلاتك ( 5 ) .
6 - عن ابن جريج قال قلت لعطاء : فإنهم كانوا يشددون في المسح للحصى لموضع الجبين ما لا يشددون في مسح الوجه من التراب ؟ قال : أجل ها الله إذا ( 6 ) . ‹ صفحة 83 ›
7 - عن معيقيب قال : ذكر النبي ( ص ) المسح في المسجد يعني الحصى قال : إن كنت لا بد فاعلا فواحدة ( 1 ) .
8 - عن أبي ذر رحمه الله قال : إذا أقيمت الصلاة فامشوا على هيئتكم وصلوا ما أدركتم ، فإذا سلم الإمام فاقضوا ما بقي ولا تمسحوا التراب عن الأرض إلا مرة واحدة ، ولأن أصبر عنها أحب إلي من مائة ناقة سوداء الحدق ( 2 ) .
9 - عن جابر بن عبد الله قال : سألت رسول الله ( ص ) عن مسح الحصباء فقال : واحدة ولأن تمسكه عنها خير من مائة ناقة كلها سود الحدق ( 3 ) .
10 - عن أبي ذر رحمه الله يروي عن النبي ( ص ) قال : إذا قام أحدكم للصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصباء ( 4 ) .
ويفهم من هذه الروايات التي أوردناها وغيرها مما لم نورده مخافة الاطناب أن الصحابة كانوا يمسحون الحصى لإزالة التراب أو الغبار عنها أو يمسحونها ليسووها أو يمسحونها لتقليبها . ‹ صفحة 84 › وقد نهوا عن نفخ موضع السجود في روايات كثيرة ورخصوا في المسح مرة واحدة .
وأما المسح للتسوية ، فقد روي الأمر به عن أبي هريرة " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليسو موضع سجوده ولا يدعه حتى إذا هوى ليسجد نفخ ، فلأن يسجد أحدكم على جمرة خير له من أن يسجد على نفخته " ( 1 ) .
وأما المسح والتقليب ، فقد نهي عنه في الأخبار ، ولعله ليس نهي تحريم بل نهي كراهة وتنزيه .
والذي نحصل من هذه الأخبار أيضا هو استمرار عمل النبي ( ص ) والصحابة على السجود على الأرض ، وكانوا يقاسون المتاعب في الحر والبرد يعالجون ذلك بتقليب الحصى ومسحها .
ومنها : الابراد ، يعني كانوا يدفعون وهج الحر بتأخير الظهر عن أول وقتها حتى تكثر الظلال ويطيب الهواء وتبرد الأرض وتسكن الحرارة .
وقد أثبت كبار الحفاظ أحاديث كثيرة في هذا الموضوع في كتبهم وأودعوها في أسفارهم ومسانيدهم ، ونحن نذكر منها ما يسعه المجال ونستفيد منها أمرين :
الأول : عدم جواز السجود على غير الأرض . الثاني : اتضاح معنى الاضطرار بها ، يعني كلما أمكن السجود على الأرض ولو بالابراد فلا يجوز السجود على غير الأرض . ‹ صفحة 85 ›
والابراد هو انكسار الوهج والحر كما في النهاية قال : وأما الحديث الآخر " أبردوا بالظهر " فالابراد انكسار الوهج وآخر ، وهو من الابراد الدخول في البرد ،
وقيل معناه صلوها في أول وقتها من برد النهار وهو أوله ، أو بمعنى الاسراع والتعجيل .
قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث : قال مصنف هذا الكتاب يعني عجل عجل وأخذ ذلك من التبريد ، وقد أشار إليه ابن الأثير أيضا كما تقدم .
فيكون حينئذ للابراد معنيان
الأول . التأخير إلى أن يبرد الهواء ،
الثاني : التعجيل بها ، وذلك أولا بتخفيف النوافل أو تقديم النوافل على الزوال أو الاتيان بها بعد صلاة الظهر وثانيا : بتخفيف الظهر أيضا بترك مستحباتها ، ولكن يؤيد المعنى الأول ، أي كون المراد تأخير الظهر عن أول وقتها حتى يبرد الهواء حديث زرارة .
قال عبد الله بن بكير : دخل زرارة على أبي عبد الله ( ع ) فقال : إنكم قلتم لنا في الظهر والعصر على ذراع وذراعين ثم قلتم أبردوا بها في الصيف فكيف الابراد بها وفتح ألواحه ليكتب ما يقول ، فلم يجبه أبو عبد الله ( ع ) فأطبق ألواحه وقال : إنما علينا أن نسألكم وأنتم أعلم بما عليكم ، وخرج ودخل أبو بصير على أبي عبد الله ( ع ) فقال : إن زرارة سألني عن شئ فلم أجبه وقد ضقت من ذلك فاذهب أنت رسولي إليه فقل صل الظهر في الصيف إذا كان ظلك مثلك والعصر إذا كان مثليك . وكان زرارة هكذا يصلي في الصيف ولم أسمع أحدا من أصحابنا يفعل ذلك غيره وغير ابن بكير ( 1 ) .