أحيانا يصبح جهاد النفس في سبيل النفس
ليكن بعلمك أخي أن بعض الناس يجاهدون أنفسهم من أجل النفس، فلا تخرّب جهادك. من قبيل من يمسك نفسه عن السبّ والشتم حفاظا على سمعته، أو من يترك حب الغضب تلبية لحبّ المقام في نفسه. فعلامة هذا الإنسان هي أنه مهما تأدب وحسّن أخلاقه وجاهد نفسه، لا يرغب في الصلاة، إذ لم يكن جهاد نفسه في سبيل الله.
إن جهاد النفس هو مراعاة النفس في الواقع، ومخالفة اللذّات هو نيل اللذات في الواقع، ولكن لذة عميقة وغزيرة
عندما يتجه الإنسان نحو الحسنات ورغباته العميقة، ويجاهد أهواءه السطحية في هذا المسار، سيذوق لذة هذا الجهاد بلا ريب، وإن الله يذيقنا هذه اللذة بسرعة. أساسا إن جهاد النفس هو مراعاة النفس في الواقع، ومخالفة اللذات هو نيل اللذات في الواقع، ولكن لذة عميقة وغزيرة لا سطحية وقليلة. ولهذا إن بعض الناس يحرصون على العبادة، فتراهم يجلسون في المسجد منتظرين وقت الصلاة، فهم يجاهدون أنفسهم ويعيشون لذة حقيقية في حياتهم. إن حقيقة حياة الإنسان هي اختيار خير الرغائب مما هي أدنى عن طريق «العقل»/ العقل قوة لاختيار خير الرغائبإذن هكذا يمكن أن نعرّف حياة الإنسان: «اختيار الرغائب الأفضل من الرغائب الأدنى»، ويتم هذا الاختيار عبر قوة في وجود الإنسان باسم العقل. لمّا خلق الله العقل أعطاه زمام الإنسان إذ به يُعبَد. «الْعَقْلُ مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ وَ اکْتُسِبَ بِهِ الْجِنَان»[هدایه الأمة/ج1/ص4].
يختلف العقل عن العلم، ولهذا عندما يسيء الإنسان في اختيار رغائبه ويختار الخيار الأدنى يقال له: أنت عديم العقل، وعندما يصيب الاختيار ويختار الخيار الأفضل يقال له: أنت إنسان عاقل.
لقد خلق الإنسان ليختار من مجموع الخيارات، ولولا ذلك لما استطاع أن ينتج قيمة مضافة. ولابدّ للاختيار أن يكون من بين نوعين من الرغائب؛ رغبة أشدّ ولكنها كامنة، ورغبة أضعف ولكنها ظاهرة. وإن الرغائب الضعيفة والظاهرة يعني هذه الأهواء والشهوات هي التي تحجز الإنسان عن كشف رغباته العميقة والكامنة. لذلك ينبغي للإنسان أنّ يدمن على محاربة أهوائه النفسانية ورغائبه السطحية والواضحة ويضحّي بها ليصل إلى رغباته العميقة والفطريّة. وإنّما يستطيع الإنسان أن ينجز هذا الإنجاز بالعقل. العقل هو الذي يحذرنا من الاغترار بالرغبات الظاهرية، وهو الذي يشجعنا على الاهتمام بالرغبات العميقة فإنها أكثر لذة. ويقول لنا: دع هذه النزعات السطحية لتكشف رغباتك العميقة.
لماذا لا يتضرع المذنبون إلى الله؟
لماذا لا يتضرع المذنبون إلى الله؟ لأنهم يخافون من الله بشدّة، ويتصورون أن الله بصدد الانتقام منهم. إنهم قد تنكروا لله وظنوا أن الله قد تنكر لهم أيضا.
ما هو انطباعكم عن الله وأنتم تتوبون إليه من ذنوبكم وتخافون منه؟ لماذا يضيق صدركم وتتوبون من ذنوبكم؟ هل تعتذرون إلى الله لأنكم لم تمتثلوا كلامه والآن تخافون أن يعاقبكم عقابا عسيرا؟ وهل أنكم تتوبون إليه مخافة سوطه؟ وهل تنظرون إلى الله كخصم قوي لا يمكن منافسته؟ في حين أن الله قد أراد أن تلتذوا أكثر في حياتكم، وأراد أن تفعّلوا رغباتكم الفطرية، ولهذا ولأنكم قد أضررتم بأنفسكم وحرمتم أنفسكم من مزيد اللذة، لم يرض منكم وغضب علیکم، فإنه لم يرض منا لشدّة حبه لنا. والآن فهو لا يريد أن يضربكم بل يريد أن ترجعوا إليه.
يقول الإمام الباقر(ع): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَکَ وَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَ زَادَهُ فِی لَیْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِکَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِینَ وَجَدَهَا». [الكافي/ج2/ص435] فلابدّ أن نرجع ونعيد بناءنا المعرفي بالله وبالإنسان والحياة من جديد.
إلهنا سبحانك أن تكون محتاجا إلينا فلماذا تفرح بهذه الشدة عند توبتنا؟! إلهنا أنت الذي قال في وصفك الإمام السجاد(ع): «الحمد لله الذي تحبب إلي وهو غني عني» فلماذا تفرح بتوبتنا إلى هذا الحد؟ إنه أراد أن نزداد لذة في الدنيا لنزداد قابلية للتنعم في يوم القيامة وعند لقاء الله. إنه أراد بهذه الأحكام أن نتعطش إلى اختيار الخيار الأفضل ولتكون الدنيا مقدمة للتمتع والالتذاذ بلقاء الله بعد الموت وفي يوم القيامة وفي جنات الخلد. فكان البرنامج الإلهي لنا هو أن ننتعش بذكر الله وجمال الله في الدنيا، ثم يدعونا إليه، لنتمتع باللذة الكاملة عند لقائه.
صلى الله عليك يا أبا عبد الله
إن جهاد النفس يتخذ منحى آخر في مراحله المتقدمة، فكلما كان يشتدّ الأمر بالحسين(ع) ويقدم الأضحية واحدا بعد الآخر كان يشرق لونه وتهدأ جوارحه وتسكن نفسه، فيقف الإنسان حائرا أمام قلب الحسين(ع) عاجزا عن فهمه ووصفه.
أنا أريد أن أخاطب الحسين(ع) وأقول له: يا أبا عبد الله! عندما ودّعت علي الأكبر، أما قدّمته أضحية لله سبحانه؟ ونحن نعلم كم أنت تحب أن تقدم ضحايا في سبيل الله. فما هذا البكاء عليه أمام الأعداء حتى أوشكت بالموت حين وضعت خدك على خده؟!
اسمحوا لي أن أجيب بكلمة واحدة. ألا تحترق أكبادكم إذا جاء أحد ومزّق أمامكم صورة النبي الأكرم(ص)؟! كان علي الأكبر أشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا برسول الله(ص)، وإذا به رآه مقطعا بسيوف القوم...
ألا لعنة الله على القوم الظالمين